بازگشت

مناظراته


اختلفت الأدوار التي مرت علي كل واحد من الأئمة عليهم السلام شدة ولينا، لاختلاف سيرة الحاكمين معهم، فالامام موسي الكاظم عليه السلام قضي فترة من عمره الشريف في سجون الرشيد، و الامام الرضا عليه السلام صار ولي عهد المأمون.

و كما أنها اختلفت من حيث سلوك الحاكمين معهم كذلك اختلفت في سلوك الناس معهم، ثم اختلفت أيضا في ماهية الأسئلة و المناظرات التي واجهت كل واحد منهم عليهم السلام.

فالامام الصادق عليه السلام شهد موجة الحادية شديدة يتزعمها نفر من الملاحدة، فتصدي عليه السلام للقضاء عليها، فقد اجتمع بهؤلاء مرارا كاشفا لشبهاتهم، منيرا لهم الطريق، و أملي علي تلميذه المفضل بن عمر فصولا في التوحيد، تلاقفها العلماء من ذلك الوقت و حتي اليوم بالاكبار و الاهتمام و الشروح.

و الامام الرضا عليه السلام تصدي لعلماء الأديان، و أهل الملل و النحل، فكانت له معهم مناظرات طويلة، استجاب بعض هؤلاء لنداء الحق، و دخل في الاسلام. و قد أوقفناك علي بعض تلك المناظرات في الكتاب السابق.

و للامام الجواد عليه السلام دور آخر، فقد استاء العباسيون من مكانته عند المأمون و تزويجه له من ابنته، كما أن كبار العلماء و القضاة المعاصرين له حسدوه لما بلغهم من علمه و هو لم يزل في العقد الأول من عمره.

واجتمع هؤلاء و هؤلاء علي مناظرته في الفقه و الحديث و غير ذلك، آملين أن يبدو عجزه عن الاجابة فيتضعضع مركزه عند المأمون و أهل المملكة، و جماهير المسلمين الذين انشغفوا بعلمه.



[ صفحه 177]



لقد خابت آمال هؤلاء فقد خرج عليه السلام من هذا الاختبار مرفوع الرأس، و بقيت مناظراته حديث الأجيال خلال القرون الطويلة، تتعطر بذكرها المحافل و الاندية.

نقدم في هذه الصفحات قبسا مما ورد من مناظراته عليه السلام:

1- لما عزم المأمون أن يزوج أبا جعفر محمد بن علي الرضا عليه السلام ابنته أم الفضل، اجتمع اليه أهل بيته الأدنون منه فقالوا: يا أميرالمؤمنين ناشدناك أن تخرج عنا أمرا ملكناه، و تنزع عنا عزا قد لبسناه، و تعلم الأمر الذي بيننا و بين آل علي قديما و حديثا.

فقال المأمون: أمسكوا والله لا قبلت من واحد منكم في أمره.

فقالوا: يا أميرالمؤمنين أتزوج ابنتك و قرة عينك صبيا لم يتفقه في دين الله، و لا يعرف حلاله من حرامه و لا فرضا من سنة - و لأبي جعفر اذ ذاك تسع سنين - فلو صبرت له حتي يتأدب و يقرأ القرآن، و يعرف الحلال من الحرام.

فقال المأمون: انه لأفقه منكم، وأعلم بالله و رسوله و سنته و أحكامه، و أقرأ لكتاب الله منكم، و أعلمه بمحكمه و متشابهه، و ناسخه و منسوخه، و ظاهره و باطنه، و خاصه و عامه، و تنزيله و تأويله منكم فاسألوه، فان كان الأمر كما وصفتم قبلت منكم، و ان كان الأمر علي ما وصفت علمت أن الرجل خلف منكم.

فخرجوا من عنده و بعثوا الي يحيي بن أكثم و هو يومئذ قاضي القضاة، فجعلوا حاجتهم اليه، و أطمعوه في هدايا علي أن يحتال علي أبي جعفر بمسألة في الفقه لا يدري ما الجواب فيها.

فلما حضروا و حضر أبوجعفر قالوا: يا أميرالمؤمنين هذا القاضي ان أذنت له أن يسأل.

فقال المأمون: يا يحيي سل أباجعفر عن مسألة في الفقه لتنظر كيف فقهه.

فقال يحيي: يا أباجعفر أصلحك الله ما تقول في محرم قتل صيدا؟

فقال أبوجعفر: قتله في حل أم حرم، عالما أو جاهلا، عمدا أو خطأ، عبدا أو حرا، صغيرا أو كبيرا، مبدءا أو معيدا، من ذوات الطير أو غيره، من صغار الطير أو كباره، مصرا أو نادما، بالليل في أوكارها أو بالنهار عيانا، محرما للحج أو للعمرة؟



[ صفحه 178]



فانقطع يحيي انقطاعا لم يخف علي أحد من أهل المجلس انقطاعه، و تحير الناس عجبا من جواب أبي جعفر.

فقال المأمون: أخطب يا أباجعفر.

فقال: نعم يا أميرالمؤمنين الحمد لله اقرارا بنعمته الخ.

فلما تفرق أكثر الناس، فقال المأمون: يا أباجعفر ان رأيت أن تعرفنا مايجب علي كل صنف من هذه الأصناف في قتل الصيد؟

فقال: نعم، ان المحرم اذا قتل صيدا في الحل، و كان الصيد من ذوات الطير من كبارها فعليه شاة، فان أصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفا، و ان قتل فرخا في الحل فعليه حمل قد فطم، فليس عليه القيمة، لأنه ليس في الحرم فعليه الحمل و قيمة الفرخ، و ان كان من الوحش فعليه في حمار الوحش بقرة، و ان كان نعامة فعليه بدنة، فان لم يقدر فاطعام ستين مسكينا، فان لم يقدر فليصم ثمانية عشر يوما، و ان كان بقرة فعليه بقرة، فان لم يقدر فليطعم ثلاثين مسيكنا، فان لم يقدر فليصم تسعة أيام، و ان كان ظبيا فعليه شاة، فان لم يقدر فليطعم عشرة مساكين، فان لم يجد فليصم ثلاثة أيام، و ان أصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفا هديا بالغ الكعبة حقا واجبا أن ينجزه؛ ان كان في حج بمني حيث ينحر الناس، و ان كان في عمرة ينجزه بمكة في فناء الكعبة، و يتصدق بمثل ثمنه حتي يكون مضاعفا، و كذلك اذا أصاب أرنبا أو ثعلبا فعليه شاة، و يتصدق بمثل ثمن شاة، و ان قتل حماما من حمام الحرم فعليه درهم يتصدق به، و درهم يشتري علفا لحمام الحرام، و في الفرخ نصف درهم، و في البيضة ربع درهم، و كلما أتي به المحرم بجهالة أو خطأ فلا شي ء عليه الا الصيد، فان عليه فيه الفداء بجهالة كان أم بعلم، بخطأ كان أم بعمد، و كلما أتي به العبد فكفارته علي صاحبه، مثل ما يلزم صاحبه، و كلما أتي به الصغير الذي ليس ببالغ فلا شي ء عليه، فان عاد فهو ممن ينتقم الله منه، و ان دل علي الصيد و هو محرم و قتل الصيد، فعليه الفداء، و المصر عليه يلزمه بعد الفداء العقوبة في الآخرة، و النادم لا شي ء عليه بعد الفداء في الآخرة، و ان أصابه ليلا في أوكارها خطأ فلا شي ء عليه، الا



[ صفحه 179]



أن يتصيد، فان تصيد بليل أو نهار فعليه فيه الفداء، والمحرم للحج ينجز الفداء بمكة.

فأمر أن يكتب ذلك عن أبي جعفر عليه السلام، ثم التفت الي أهل بيته الذين أنكروا تزويجه فقال: هل فيكم من يجيب هذا الجواب؟

قالوا: لا والله، و لا القاضي يا أميرالمؤمنين، كنت أعلم به منا.

فقال: و يحكم أما علمتم أن أهل هذا البيت ليسوا خلقا من هذا الخلق؟

أما علمتم أن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم بايع الحسن و الحسين و هما صبيان و لم يبايع غيرهما طفلين؟

أو لم تعلموا أن أباهم عليا آمن برسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و هو ابن تسع سنين، فقبل الله و رسوله ايمانه و لم يقبل من طفل غيره، و لا دعا رسول الله طفلا غيره؟

أو لم تعلموا أنها ذرية بعضها من بعض، فجري لآخرهم ما يجري لأولهم؟ ثم سأل عليه السلام يحيي فقال:

يا أبا محمد ما تقول في رجل حرمت عليه امرأة بالغداة، و حلت له ارتفاع النهار، و حرمت عليه نصف النهار، ثم حلت له الظهر، ثم حرمت عليه العصر، ثم حلت له المغرب، ثم حرمت عليه نصف الليل، ثم حلت له الفجر، ثم حرمت عليه ارتفاع النهار، ثم حلت له نصف النهار؟

فبقي يحيي و الفقهاء بلسا خرسا.

فقال المأمون: يا أباجعفر أعزك الله بين لنا هذا.

قال: هذا رجل نظر الي مملوكة لا تحل له، اشتراها فحلت له، ثم أعتقها فحرمت عليه، ثم تزوجها فحلت له، فظاهر منها فحرمت عليه، فكفر الظهار فحلت له، ثم طلقها تطليقة فحرمت عليه، ثم راجعها فحلت له، فارتد عن الاسلام فحرمت عليه، فتاب و رجع الي الاسلام فحلت له بالنكاح الأول، كما أقر رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم نكاح زينب مع أبي العاص بن الربيع، علي النكاح الأول [1] .



[ صفحه 180]



2- روي أن المأمون بعدما زوج ابنته أم الفضل كان في مجلس، و عنده أبوجعفر عليه السلام، و يحيي بن أكثم، و جماعة كثيرة.

فقال له يحيي بن أكثم: ما تقول يا ابن رسول الله في الخبر الذي روي: أنه نزل جبرئيل عليه السلام علي رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و قال: يا محمد ان الله عزوجل يقرؤك السلام، و يقول لك: سل أبابكر هل هو راض عني فاني عنه راض؟

فقال أبوجعفر عليه السلام: لست بمنكر فضل أبي بكر، ولكن يجب علي صاحب هذا الخبر أن يأخذ مثال الخبر الذي قاله رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم في حجةالوداع «قد كثرت علي الكذابة، و ستكثر بعدي، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار، فاذا أتاكم الحديث عني فاعرضوه علي كتاب الله و سنتي، فما وافق كتاب الله و سنتي فخذوا به، و ما خلف كتاب الله و سنتي فلا تأخذوا به»، و ليس يوافق هذا الخبر كتاب الله، قال الله تعالي: (و لقد خلقنا الانسان و نعلم ما توسوس به نفسه و نحن أقرب اليه من حبل الوريد) فالله عزوجل خفي عليه رضاء أبي بكر من سخطه حتي سأل عن مكنون سره؟ هذا مستحيل في العقول.

ثم قال يحيي بن أكثم: و قد روي: أن مثل أبي بكر و عمر في الأرض كمثل جبرئيل و ميكائيل في السماء.

فقال: و هذا أيضا يجب أن ينظر فيه، لأن جبرئيل و ميكائيل ملكان لله مقربان، لم يعصيا الله قط، و لم يفارقا طاعته لحظة واحدة، و هما قد أشركا بالله عزوجل و ان أسلما بعد الشرك، فكان أكثر أيامهما الشرك بالله، فمحال أن يشبههما بهما.

قال يحيي: و قد روي أيضا: أنهما سيدا كهول أهل الجنة، فما تقول فيه؟

فقال عليه السلام: و هذا الخبر محال أيضا، لأن أهل الجنة كلهم يكونون شبابا، و لا يكون فيهم كهل، و هذا الخبر وضعه بنو أمية لمضادة الخبر الذي قاله رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم في الحسن و الحسين صلي الله عليه و آله و سلم بأنهما سيدا شباب أهل الجنة.

فقال يحيي بن أكثم: و روي: أن عمر بن الخطاب سراج أهل الجنة.

فقال صلي الله عليه و آله و سلم: و هذا أيضا محال، لأن في الجنة ملائكة الله المقربين، و آدم،



[ صفحه 181]



و محمد، و جميع الأنبياء و المرسلين، لا تضي ء الجنة بأنوارهم حتي تضي ء بنور عمر؟!!

فقال يحيي: و قد روي: أن السكينة تنطق علي لسان عمر.

فقال عليه السلام: لست بمنكر فضل عمر، ولكن أبابكر أفضل من عمر فقال علي رأس المنبر: ان لي شيطانا يعتريني، فاذا ملت فسددوني.

فقال يحيي: و قد روي أن النبي صلي الله عليه و آله و سلم قال: لو لم أبعث لبعث عمر.

فقال عليه السلام: كتاب الله أصدق من هذا الحديث، يقول الله في كتابه: (و اذ أخذنا من النبيين ميثاقهم و منك و من نوح) فقد أخذ الله ميثاق النبيين فكيف يمكن أن يبدل ميثاقه، و كل الأنبياء لم يشركوا بالله طرفة عين، فكيف يبعث بالنبوة من أشرك، و كان أكثر أيامه مع الشرك بالله؟! و قال رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم: «نبئت و آدم بين الروح و الجسد».

فقال يحيي بن أكثم: و قد روي أيضا: أن النبي صلي الله عليه و آله و سلم قال: ما احتبس عني الوحي الا ظننته قد نزل علي آل الخطاب.

فقال عليه السلام: و هذا محال أيضا، لأنه لا يجوز أن يشك النبي صلي الله عليه و آله و سلم في نبوته. قال الله تعالي: (الله يصطفي من الملائكة رسلا و من الناس) فكيف يمكن أن تنتقل النبوة ممن اصطفاه الله تعالي الي من أشرك به؟!

قال يحيي: روي أن النبي صلي الله عليه و آله و سلم قال: لو نزل العذاب لما نجا منه الا عمر.

فقال عليه السلام: و هذا محال أيضا، لأن الله تعالي يقول: (و ما كان الله ليعذبهم و أنت فيهم و ما كان الله معذبهم و هم يستغفرون) فأخبر سبحانه أنه لايعذب أحد مادام فيهم رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و ماداموا يستغفرون [2] .

3- قال المأمون ليحيي بن أكثم: اطرح علي علي أبي جعفر محمد بن الرضا مسألة تقطعه فيها.



[ صفحه 182]



فقال: يا أباجعفر ما تقول في رجل نكح امرأة علي زنا أيحل أن يتزوجها؟

فقال عليه السلام: يدعها حتي يستبريها من نطفته و نطفة غيره، اذ لا يؤمن منها أن تكون قد أحدثت مع غيره حدثا كما أحدثت معه، ثم يتزوج بها ان أراد، فانما مثلها مثل نخلة أكل رجل منها حراما، ثم اشتراها فأكل منها حلالا.

فانقطع يحيي [3] .



[ صفحه 183]




پاورقي

[1] تحف العقول 335.

[2] الاحتجاج 249 / 2.

[3] تحف العقول 335.