بازگشت

علمه وثقافته


لقد سبق الحديث عن علم الأوصياء (ع) في كتابي الخاص بحياة الإمام جعفر الصادق ناشر علوم آل البيت ومبلغها الشرق والغرب، وسبق بيان معني علم الأوصياء بالمغيبات، ومع ذلك فلا أجد بُدّاً من أن أبحث ها هنا عن علم الإمام الجواد الغزير، وثقافته التي نبعت عن قلب ملهم، وفؤاد مفعم أقول: لقد كثر في الأحاديث إنباؤه (ع) الناس بما يجول في خاطرهم وبما يأتي عليهم مستقبلاً، ولا يعني ذلك أن الأئمة (ع) يعلمون الغيب، وإنما يعني أنهم (ع) متصلون بالله سبحانه وتعالي عن طريق الإلهام أو عن طريق النبي (ص)، فيستقون معارفهم بشكل مباشر بينما يستقي سائر البشر معارفهم عبر الحواس والتجارب مثلاً.

وإذا أثبتت التجارب الحديثة وجود الحس السادس عند بعض الأفراد، سهل علينا أن نعتقد بأن شيئاً ما يوجد في بعض الأشخاص الذين يشاء الله لهم ذلك، أضف إلي ذلك أن الإيمان بقدرة الله واستطاعته علي أن يفعل كل شيء دون أي استثناء، يحدو بالفرد إلي تقبل كل ممكن إذا ثبت أن الله قد أراده.

وروي أن والي مكة والمدينة (فرج الرغجي)، الذي كان من المعارضين لآل البيت قال مرة لأبي جعفر (ع): إن شيعتك تدَّعي أنك تعلم كل ماء دجلة ووزنه، وكانا في ذلك الوقت واقفين علي شاطئ دجلة، فقال (ع): أيقدر الله تعالي أن يفوّض علم ذلك إلي بعوضة من خلقه أم لا؟ يقول الراوي: فقال فرج: نعم يقدر، فقال (ع): أنا أكرم علي الله تعالي من بعوضة ومن أكثر خلقه.

نعم، إن الغرابة الناشئة عن الشك في قدرة الله لهي أوهي من الشك في ضياء الشمس، بل يبقي الريب في محله إذا كان في الرجل الذي يدّعي هذا المنصب الرفيع، فلا يستطيع المرء أن يتقبله إلاّ بعد الفحص والتدقيق، أما إذا كان في أهل بيت الرسول فسوف لا يبقي للشك مجال، بعد استفاضة حديث متواتر عن النبي (ص) في أنهم قدوة الخلق وأئمتهم، وبعد أن عرفنا أن كل إمام كان أعلم أهل زمانه في كل شيء منذ ان تنتقل إليه الخلافة الروحية، وكذلك كان النبي (ص) وأوصياؤه (ع) جميعاً.

ويكفيك في الإمام الجواد ما سبق من أنه سئل في مجلس واحد ثلاثين ألف مسألة، فأجاب عنها وهو ابن ثمان أو تسع، وأنه كان في زهاء السادسة عشرة من عمره إذ حضر مجلس المأمون وباحث مع قاضي القضاة، فأفحمه إفحاماً، وإذا علمنا بان المأمون كان كما يحدثنا التاريخ أعلم الخلفاء العباسيين وأعرفهم بعلوم أهل زمانه، ثم رأيناه كيف يخشع لجلال ابن الرضا (ع) في المشاهد التي مضت علينا، نعرف معني العلم الإلهي ونوعيته.

وإليك بعض الأحاديث التي تنبئنا عن جانب من علم الإمام الجواد (ع):

1 - عن أمية بن علي قال: كنت مع أبي الحسن بمكة في السنة التي حج فيها، ثم صار إلي خراسان ومعه أبو جعفر وأبو الحسن يودع البيت، فلما قضي طوافه عدل إلي المقام فصلي عنده فصار أبو جعفر علي عنق موفق يطوف به، فصار أبو جعفر إلي الحجر، فجلس فيه فأطال، فقال له موفق: قم جعلت فداك، فقال: ما أريد أن ابرح من مكاني هذا إلاّ أن يشاء الله، واستبان في وجهه الغم، فأتي موفق أبا الحسن (ع)، فقال له: جعلت فداك قد جلس أبو جعفر في الحجر وهو يأبي ان يقوم، فقام أبو الحسن (ع) فأتي أبا جعفر فقال له: قم يا حبيبي، فقال: ما أريد أن أبرح من مكاني هذا، فقال: بلي يا حبيبي،

ثم قال: كيف أقوم وقد ودّعت البيت وداعاً لا ترجع إليه، فقال: قم يا حبيبي، فقام معه.

2 - كان يحيي بن أكثم قاضي القضاة في عهد المأمون، ويذهب بعض المؤرخين إلي أنه تشيع أخيراً أو كان شيعياً، وينقل عنه أنه قال: فبينا أطوف بقبر رسول الله (ص)، رأيت محمد بن علي الرضا (ع) يطوف به، فناظرته في مسائل عندي، فاخرجها إلي، فقلت له والله إني أريد أن أسألك مسألة واحدة، وإني والله لأستحي من ذلك، فقال لي، أنا أخبرك قبل أن تسألني، تسألني عن الإمام، فقلت هو والله هذا، فقال: إذاً هو، فقلت: علامة، فكان في يده عصا فنطقت وقالت: إنه مولاي إمام هذا الزمان وهو الحجة [1] .

3 - نقل بعض الرواة أنه اجتاز المأمون بابن الرضا (ع) وهو ما بين صبيان، فهربوا سواه فقال: عليّ به، ثم قال له: مالك لم تهرب في جملة الصبيان؟ قال: مالي ذنب فأفرّ منه، ولا الطريق ضيق فأوسعه عليك، سر حيث شئت، فقال: من تكون أنت؟ قال: أنا محمد بن علي بن موسي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع)، فقال: ما تعرف من العلوم؟ قال: سلني عن أخبار السماوات، فقال: ما عندك من أخبار السماوات، فقال: نعم يا أمير المؤمنين حدثني أبي عن آبائه عن النبي (ص) عن جبرائيل عن رب العالمين أنه قال: بين السماء والهواء بحر عجاج، تتلاطم به الأمواج، فيه حيات خضر البطون، رقط الظهور، يصيدها الملوك بالبزاة الشهب يمتحن به العلماء.

فقال: صدقت وصدق أبوك وصدق جدك وصدق ربك، فأركبه، ثم زوّجه أم الفضل [2] .

4 - ويروي عن فاصد طلبه الإمام أبو جعفر الثاني في عهد المأمون، فقال له: افصدني في العرق الزاهر، فقال له: ما أعرف هذا العرق يا سيدي، ولا سمعت به، فأراه إياه، فلما فصده خرج منه ماء أصفر فجري حتي امتلأ الطشت، ثم قال له أمسكه، وأمر بتفريغ الطشت ثم قال خل عنه، فخرج دون ذلك، فقال شده الآن، فلما شد يده، أمر له بمائة دينار فأخذها وجاء إلي يوحنا بن بختيشوع، فحكي له ذلك، فقال والله ما سمعت بهذا العرق من نظرتي في الطب، ولكن هاهنا فلان الأسقف، قد مضت عليه السنون، فامض بنا إليه، فإن كان عنده علمه، وإلاّ لم نقدر علي من يعلمه، فمضينا ودخلنا عليه، وقصّ القصص، فأطرق ملياً ثم قال: يوشك أن يكون هذا الرجل نبياً أو من ذرية نبي.

وهكذا تمضي الأحاديث تنقل عن الأئمة عجباً، ولكن لا عجب من أمر الله، إذ يشاء أن يجعل علمه ومعرفته وقوته وقدرته في إنسان امتحن قلبه، فزكّاه وطهّره تطهيراً.


پاورقي

[1] الكافي: (ج 1، ص 353).

[2] بحار الأنوار: (ج 50، ص 56).