بازگشت

نموذج من الثورة العلوية


لقد كانت ثورة محمد بن القاسم بن علي بن عمر ابن الإمام زين العابدين علي بن الحسين (ع) أبرز ثورة في عهد الإمام الجواد(ع).

كان محمد بن القاسم جليل القدر إذا ما قرأنا يوميات جهاده. كانت العامة تلقبه بالصوفي، لأنه كان يدمن لبس الصوف الأبيض الخشن، وكان من أهل العلم والفقه والدين والزهد.

كان قد ذهب إلي (مرو) في مقاطعة خراسان، وكان معه من الكوفيين بضعة رجال، وذلك بعد أن رحل من الكوفة، وكان قبل ذلك قد خرج إلي ناحية الرقة، ومعه جماعة من وجوه الزيدية، منهم يحيي بن الحسن بن الفرات، وعبّاد بن يعقوب الرواجني، والزيدية كانت تشكل القاعدة للكثير من الثورات.

روي إبراهيم بن عبد العطّار: “ كنا معه، فتفرقنا في الناس ندعوهم إليه، فلم نلبث إلاّ يسيراً حتي استجاب له أربعون ألفاً، وأخذنا عليهم البيعة، وكنا أنزلناه في رستاق من رساتيق مرو، وأهله شيعة كلهم، فأحلوه في قلعة لا يبلغها الطير في جبل حريز “ [1] .

ومرة سمع بكاء في (مرو) فندب أحد أصحابه ليري ما هذا البكاء، فجاءه بخبر أن أحد الذين بايعوه قد كان غصب شيئاً من أحد الرجال، فأصلح بينهما، فقال محمد لصاحبه إبراهيم: “ يا إبراهيم: أبمثل هذا ينصر دين الله؟ ثم قال: فرقوا الناس عني حتي أري رأيي “.

فانتخب الصالحين من الذين بايعوه ثم سار بهم، وهذا نموذج من طبيعة الثورات الرسالية إذ أنها لم تكن تبيح أية وسيلة في سبيل الوصول إلي الهدف، بل مثلما يكون الهدف هو إقامة حكم الله عزّ وجلّ، يجب أن تكون الوسيلة أيضاً مرضية من قبل الله تعالي.

وهذا كان يربي المجتمع علي عشق المثل العليا، والمبادئ السامية، وبعدما نقّي اصحابه، ساروا إلي الطالقان.

ويروي إبراهيم صاحبه:

“ ورحل محمد بن القاسم من وقته إلي الطالقان، وبينها وبين مرو أربعين فرسخاً، فنزلها وتفرقنا ندعو الناس فاجتمع عليه عالم، وجئنا إليه، فقلنا له: إن أتممت أمرك، وخرجت فنابذت القوم، رجونا أن ينصرك الله، فإذا ظفرت اخترت حينئذ من ترضاه من جندك، وإن فعلت كما فعلت بمرو - يقصد اختيار الصالحين فقط -، أخذ عبد الله بن طاهر يعقبك، وهكذا أراد صاحبه “ ابراهيم “ أن يثنيه عن إبعاد الذين ليسوا بملتزمين جيداً عن جيش الثورة “. ولكن محمد بن القاسم أبي ذلك، ودخل محمد بن القاسم مع عبد الله بن طاهر في حروب كثيرة وكان يلحق به شرَّ الهزائم.

ومرة هدأت صولات الحرب بينهما، فسارع عبد الله بن طاهر بإرسال كل جيوشه مقسمة في فرق ضمن خطة ماكرة جداً، وقال ابن طاهر لقائد جيوشه وهو ابراهيم بن غسان بن فرج العودي:

“ قد جرَّدت لك ألف فارس من نخبة عسكري، وأمرت أن يحمل معك مائة ألف درهم تصرفها فيما تحتاج إلي صرفها من أمورك، وخذ من خيلي ثلاثة أفراس نجيبة معك تنتقل عليها، وخذ بين يديك دليلاً قد رسمته لصحبتك فادفع إليه من المال ألف درهم، واحمله علي فرس من الثلاثة فليركض بين يديك، فإذا صرت علي فرسخ واحد من “ نسا “، (وهي المدينة التي يتواجد فيها محمد بن القاسم) فافضض الكتاب، واقرأه واعمل بما فيه ولا تغادر منه حرفاً، ولا تخالف مما رسمته شيئاً واعلم أن لي عيناً في جملة من صحبك يخبرني بأنفاسك، فاحذر ثم احذر وأنت أعلم “.

وهذا يبين مدي خوف ابن طاهر من أن يكون هذا القائد يميل إلي صف محمد بن القاسم، فلقد كان ذلك شيئا طبيعياً لأن نفوس الناس كانت مع الحركة الثورية، ولكن السلطات كانت تجلب وتسخّر الناس في ضرب الحركة الرسالية مرة بالتهديد ومرة بالإغراء ومرة بالإفساد ومرات بأساليبها المختلفة حتي أن ابن طاهر يقول: جعلت عيوناً عليك يرقبون أنفاسك.

فسار قائده إلي “ نسا “ وقبل أن يصل بفرسخ فتح كتاب ابن طاهر وإذا فيه الخطة كاملة، والبيت الذي يسكن فيه محمد بن القاسم، وصاحبه أبو تراب، ويأمره فيه أن يستوثقهما بالحديد، استيثاقاً شديداً، وأن ينفذ خاتمه مع خاتم محمد بن القاسم أول ما يظفر به، وقبل أن يعود خطوة واحدة لكي يطمئن، وعلي الذي يرسلهما معه أن يركض بهما ركضاً، ثم يكتب إليه شرح ما حدث. “ وكن علي غاية التحرز والتحفظ والتيقظ من امره حتي تصير به وصاحبه إلي حضرتي “.

نجحت الخطة وحمل محمد بن القاسم مع صاحبه أبو تراب إلي ابن طاهر في نيسابور، فجاء ابن طاهر ليراهما فقال لقائده:

“ ويحك يا إبراهيم “ أما خفت الله في فعلك - يقصد القيود الثقيلة جداً التي وضعها علي محمد وصاحبه - أتقيد هذا الرجل الصالح بمثل هذا القيد الثقيل؟

فقال إبراهيم العودي (قائده):

“ أيها الأمير خوفك أنساني خوف الله ووعدك الذي قدمته إليّ أذهل عقلي عما سواه “.

وكانا يتكلمان من فوق سطح يطل علي الغرفة المسجون بها محمد بن القاسم في نيسابور.

فقال ابن طاهر: خفف هذا الحديد كله عنه، وقيِّده بقيد خفيف في حلقته رطل وليكن عموده طويلاً، وحلقتاه واسعتين ليخطو فيه، وفي فترة سجن محمد بن القاسم طلب قرآناً يتدارس فيه.

وكان عبد الله بن طاهر يخرج من اصطبله بغالاً عليها القباب ليوهم الناس أنه قد أخرجه، ثم يردّها حتي استتر بنيسابور، سلّه في جوف الليل، وخرج به مع إبراهيم العودي ووافي به الري، وقد أمره عبد الله بن طاهر أن يفعل به كما فعل هو، يخرج في كل ثلاث ليال ومعه بغل عليه قبة، ومعه جيش حتي يجوز الري بفرسخ، ثم يعود إلي أن يمكنه سلّه، ففعل ذلك خوفاً من أن يغلب عليه لكثرة من أجاب محمد بن القاسم بالبيعة له، حتي أخرجه من الري ولم يعلم به أحد، ثم اتبعه حتي أورده بغداد علي المعتصم.

وقد سمع المعتصم بمسير محمد إلي بغداد، فأرسل إلي طاهر العودي أن انزع العمامة من عليه واجعله حاسراً وانزع رداء قبة البغل ليكون علي البغل حاسراً، ثم أدخله بغداد.

وكان يريد بذلك تعذيب محمد نفسياً والحط من كرامته، وقد ازدحم الناس ازدحاماً شديداً علي الطرقات حين إدخال محمد بن القاسم إلي بغداد، ثم أدخل علي المعتصم في مجلس اللهو والشراب.

وقيل: وجعلت الفراغنة يحملون علي العامة ويرمونهم بالقذر والمعتصم يضحك، ومحمد بن القاسم يسبّح ويستغفر الله ويحرك شفتيه يدعو عليهم، والمعتصم جالس يشرب، ومحمد واقف إلي أن انتهي من لعبه فأمر بسجنه.

وسرعان ما دبّر محمد بن القاسم حيلة ذكية للهروب، ثم تواري عن الأنظار في بغداد ثم إلي واسط، وقد شَدَّ وسطه للوهن الذي أصاب فقار ظهره عند عملية هروبه. وظل محمد مختفياً بعد ذلك إلي نهاية عهدَي المعتصم ومحمد الواثق، ثم بعض أيام المتوكل، وقيل أنه أخذ إليه فحمل إلي السجن حتي مات فيه.

ولكن ماذا فعل خلال فترة تواريه عن الأنظار وهي ليست بالفترة القليلة؟ هذا ما أجابت عليه الثورات العديدة التي قامت بعد ذلك في عهد المتوكل، والمستعين وما بعده من الخلفاء، التي لم تدع الخليفة يلعب ويلهو براحة.

وفي واسط سكن محمد بيتاً يعود إلي أم ابن عمه علي بن الحسن بن علي بن عمر ابن الإمام زين العابدين (ع) وكانت عجوزاً مقعدة، فلما نظرت إليه وثبت فرحاً وقالت: “ محمد والله، فدتك نفسي وأهلي، الحمد لله علي سلامتك “ فقامت علي رجلها وما قامت قبل ذلك بسنين.

وقال إبراهيم العودي، قائد جيوش ابن طاهر يصف محمداً:

ما رأيت قط أشدّ اجتهاداً منه، ولا أعف، ولا أكثر ذكراً لله عزّ وجلّ مع شدة نفس، واجتماع وما أظهر من جزع ولا انكسار ولا خضوع في الشدائد التي مرت به، وإنهم ما رأوه قط مازحاً ولا هازلاً ولا ضاحكاً إلا مرة واحدة، فإنهم لما انحدروا من عقبة حلوان أراد الركوب، فجاء بعض أصحاب إبراهيم بن غسان العودي، فطأطأ له ظهره، حتي ركب في المحمل علي البغل، فلما استوي علي المحمل قال للذي علي ظهره مازحاً: “ أتأخذ أرزاق بني العباس وتخدم بني علي بن أبي طالب؟ وتبسم “.

وقال: عرضوا علي محمد بن القاسم كل شيء نفيس من مال وجواهر وغير ذلك، فلم يقبل إلاّ مصحفاً جامعاً كان لابن طاهر فلمّا قبله، سُر عبد الله بن طاهر بذلك، وإنما قبله لأنه كان يدرس فيه.

ووجود شخصية ثورية مثل محمد وثورة مثل ثورته تدلان علي أن الحركة الرسالية لم تتوقف يوماً ما عن مسيرتها، وأنها لا يمكن أن تميل عن استقامتها التي كانت معهودة بها، وهاتان ميزتان موجودتان في طول الثورات التي قامت بها الحركة الرسالية.

بجانب وضع السلطة المتأزم ومن عهد الإمام الجواد (ع) بدأت مسيرة ذات كيفية خاصة للثورات وطبيعتها، ووضع الحركة الرسالية في أيام الإمام الجواد كان جيداً، وإذا كان أحرج وقت مرّ علي الحركة الرسالية هو في أيام الإمام موسي بن جعفر (ع)، فإن أحسن الأوقات كانت في عهد الإمام الجواد (ع)، وربما لذلك جاء في الحديث المأثور عن ابن اسباط وعبّاد بن إسماعيل:

“ أنا لَعند الرضا (ع) بمني إذ جيء بأبي جعفر (ع) قلنا: هذا المولود المبارك؟ قال: نعم هذا المولود الذي لم يولد في الإسلام أعظم بركة منه “ [2] .

وروي أبو يحيي الصنعاني قال: كنت عند أبي الحسن (ع) فجيء بابنه أبي جعفر (ع) وهو صغير فقال:

“ هذا المولود الذي لم يولد مولود أعظم علي شيعتنا بركة منه “.

والبركة التي حصلت للحركة الرسالية بولادة الإمام الجواد (ع) ليست في ارتفاع الإرهاب والاختناق السياسي عنهم فقط بل وأهم من ذلك في تجذر الرسالة عقيدة وفكراً وسياسةً وفقهاً.


پاورقي

[1] المصدر.

[2] البحار: (ج 50، ص 23).