بازگشت

بعد المأمون


وأوصي المأمون إلي أخيه المعتصم العباسي ولبي دعوة ربه فمات في قرية من نواحي طرسوس، التي كانت من الحدود الفاصلة بين البلاد الإسلامية وبلاد الروم وكانت قد اشتعلت فيها مناوشات وقد سار إليها الخليفة بنفسه حتي ظفر المسلمون.

وأوصي إليه بشأن العلويين بصورة خاصة فقال مخاطباً أخاه المعتصم: هؤلاء بنو عمك من ولد أمير المؤمنين علي (ع) فأحسن صحبتهم وتجاوز عن مسيئهم وأقبل عليهم ولا تترك صِلاتهم في كل سنة عن محلها فإن حقوقهم تجب من وجوه شتي.

في أواخر الصيف، ليلة الثاني عشر من رجب سنة 218 هـ توفي المأمون العباسي ودفن في ضاحية طرسوس، فأخذ المعتصم أزمّة الحكم، وراح يثبت حكمه بكل قدر مستطاع ففكر في أن الإمام الجواد وهو صهر الخليفة الراحل وسيد الشيعة وهم قوة جبارة في الأمة، قد يشكل خطراً ما علي الدولة فأشخصه من المدينة إلي بغداد، لا لشيء إلاّ لكي يكون الإمام تحت مراقبته الشخصية، ونزح الإمام للمرة الثانية إلي بغداد، وبقي فيها مبتعداً عن البلاط الملكي مشتغلاً بالشؤون العامة وذلك في الفترة ما بين (28 محرم الحرام سنة 220 هـ و 29 ذي القعدة الحرام من نفس السنة) حيث وافته المنية بسم دس إليه من قبل السلطة بإشارة من الخليفة المعتصم بالله، وقصة ذلك حسب ما رواها المؤلف القدير العياشي عن خادم ابن أبي داود وصاحب سره الذي كان يسمي (ونان)، وابن أبي داود هذا كان قاضياً شهيراً في بغداد قال: رجع ابن أبي داود ذات يوم من عند المعتصم وهو مغموم فقلت له فيما ذاك، قال: لِما كان اليوم من هذا الأسود “ أي أبي جعفر الجواد (ع) “ بين يدي أمير المؤمنين، قال قلت وكيف ذاك؟ قال: إن سارقاً أقر علي نفسه بالسرقة وسأل الخليفة تطهيره فجمع في ذلك الفقهاء وقد أحضر محمد بن علي (ع) فسألنا عن القطع في أي موضع؟ فقلت من الكرسوع (أي المفصل بين الكف والذراع)، قال: وما الحجة في ذلك؟ قلت: لأن اليد من الأصابع إلي الكرسوع لقوله تعالي في التيمم «فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِنْهُ» (المائدة/6)

واتفق معي علي ذلك جماعة، وقال آخرون بل يجب القطع من المرفق لأن الله تعالي يقول في الوضوء «وَأَيْدِيَكُمْ إِلَي الْمَرَافِقِ» فدلّ علي أن اليد من المرفق، فالتفت المعتصم إلي محمد بن علي (ع) وقال: ما تقول أنت يا أبا جعفر (ع) فقال (ع): قد تكلم فيه القوم يا أمير المؤمنين، قال: دعني عما تكلموا به، أي شيء عندك؟ قال: اعفني عن هذا يا أمير المؤمنين، قال: أقسمت عليك بالله تعالي لما أخبرت بما عندك فيه؟ فقال: أما إذا أقسمت علي بالله فإني أقول أنهم اخطأوا فيه السنَّة، فإن القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع فيترك الكف، فقال: فما الحجة في ذلك؟

قال: قول رسول الله (ص) السجود علي سبعة أعضاء الوجه واليدين والركبتين والرجلين، فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها وقد قال الله عزّ وجلّ: «وإنَّ المَساجِدَ للّه» يعني بهذه الاعظاء السبعة التي يسجد عليها وما كان لله لم يقطع.

قال: فأعجب المعتصم بذلك وأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكف.

(قال ابن أبي داود) فقامت قيامتي وتمنيت أني لم أكُ حيّاً، (قال): ثم صرت إلي المعتصم بعد ثلاث وقلت: إن نصيحة أمير المؤمنين واجبة وأنا أكلمه بما أعلم أني أدخل النار به، قال وما هو؟ قلت إذا جمع أمير المؤمنين في مجلسه فقهاء رعيته وعلماءهم لأمر وقع من أمور الدين وسألهم عن الحكم فيه فأخبروه بما عندهم، وقد حضر مجلسه قوّاده ووزراؤه وكتّابه، وقد تسامع الناس ذلك من وراء بابه، ثم يترك أقاويلهم كلهم، لقول رجل يقول شطر هذه الأمة بإمامته، ويدّعون أنه أولي منه بمقامه، ثم يحكم بحكمه دون حكم الفقهاء!! (قال) فتغير لونه وتَنبه لما نبهته له، قال: جزاك الله عن نصيحتك خيراً. قال: فأمر في اليوم الرابع فلاناً - بالطبع، ذكر اسماً حذفه بعض المؤلفين أو الرواة - من كتَّاب وزرائه، أن يدعو الجواد (ع) إلي منزله فدعاه فأبي أن يجيبه وقال: لقد علمت أني لا أحضر مجالسكم، فقال: إنما أدعوك الي الطعام وأحب أن تطأ ثيابي وتدخل منزلي فأتبرك بذلك، فقد أحب فلان ابن فلان من وزراء الخليفة لقاءك، فصار إليه (ودسَّ إليه السم في الطعام) فلما طعم (ع) أحس بالسم، فدعي بدابته فسأله رب المنزل أن يقيم، فقال: خروجي من منزلك خير لك فلم يزل يومه ذاك وليلته يجود بنفسه والسمَّ يسري في بدنه حتي قبض (ع).

آه، إمام الحق، هذا جزاؤك بعد كل هذا أنك لم ترِم لهم إلاّ الخير، ولم يبغوا لك إلاّ الشر فسقياً لك ورعياً، وتعساً لهم وويلاً، غدُر والله ومكّر والله إن يطعموك السم وأنت في ربيع أيامك، ولكن لك في الأولين من آبائك أسوة حسنة، ولهم في الأولين من آبائهم أسوة سيئة فعليك السلام وعليهم اللعنة والعذاب.

نعم، انطفأ ذلك المشعل الوهاج وخلَّف وراءه الأمة الإسلامية تجّر حسراتها تندبه كالأرض تنتدب بعد مغيب الشمس.

لقد كان الإمام الجواد (ع) أحدث الأئمة الإثني عشر سناً باستثناء الإمام الحجة (ع) حين انتقلت إليه الخلافة الروحية في آخر صفر من سنة 202 - وهو ابن سبع وكان أحدثهم سناً علي الإطلاق، فحينما استشهد في آخر (ذي القعدة سنة 220 من الهجرة) وكان عمره آنذاك خمسة وعشرين ربيعاً كما كانت مدة إمامته ثماني عشرة سنة.

وضجت بغداد بوفاة ابن الرضا (ع) وذهبت الشكوك تحوم حول البلاط وكادت تتفجر ثورة عارمة علي الحكم الجائر، وصلي عليه ابن المعتصم وولي عهده الواثق بالله كما صلي عليه نجله الكريم الإمام علي بن محمد النقي (ع) ودفن في مرقده في الكاظمية حيث لا يزال يُقصد ويُزار، فعلي محمد بن علي الجواد (ع) التحية والسلام.

وجاء في بعض الأحاديث عن وفاته (ع) أن المعتصم دعي بعض وزرائه وأمرهم بأن يشهدوا علي محمد بن علي الجواد (ع) بأنه قد أراد أن يخرج عليه بثورة يفجرها مع تابعيه من الشيعة الإمامية ذلك لكي يسهل عليه أن يلقي به في السجن أو يقتله قتلاً.

فلما أحضر الإمام التفت المعتصم إليه قائلاً: انك اردت أن تخرج عليّ، فقال الامام: والله ما فعلت شيئاً من ذلك، قال: إن فلاناً وفلاناً شهدوا عليك، فأحضروا فقالوا: نعم هذه الكتب أخذناها من بعض غلمانك قال: وكان جالساً في بهو (قاعة في مقدم الدار) فرفع أبو جعفر يده وقال: اللهم إن كانوا كذبوا عليً فخذهم.

قال الراوي: فنظرنا إلي ذلك البهو كيف يرجف ويذهب ويجئ وكلما قام واحدٌ وقع.

فقال المعتصم: يابن رسول الله إني تائب مما فعلت فادع ربك أن يسكنه، فقال: اللهم سكّنه إنك تعلم أنهم أعداؤك وأعدائي، فسكن [1] .


پاورقي

[1] مختار الخرائج والجرائج: (ص 237).