بازگشت

الوليد المبارك


كانت تلك الليلة مليئة بالمفاجئات للسيدة حكيمة بنت الامام موسي بن جعفر عليهماالسلام، حين أبلغها الرضا بأن الخيزران أصابها الطلق، و عليها أن تحضرها لتليها أمرها... كانت حكيمة و جلة من تلك الليلة، فهي تستشعر خوفا مصحوبا



[ صفحه 50]



بأمل الحدث الجديد، و تتوجس مما تخفيه هذه الليلة من تلك المفاجئات... فحكيمة قلقة الآن مما ستتلقاه من بشارة المولود الذي طال انتظاره و أخيها و قد بلغ الخامسة و الأربعين... و تحديات الآخرين تتصاعد و تائرها لتشكك في امامته، بدعوي أن الامام لابد أن يلي أمره امام مثله، و لم يحن لأخيها الذي يواجه تشكيكات الخصوم أن يولد خليفته الموعود... فربما ستلد الخيزران غير ما ينتظره المنتظرون من شيعة الامام، الذين بدورهم يواجهون تحديات الخصوم، و لجاجة المشككين، و شماتة الحاقدين، و خوض الخائضين في امامة علي خليفة أبيه موسي.

و ما الذي يفعله اولئك الواقفة علي امامة موسي غير مواجهة الرضا و شيعته بالاستدلال علي صحة مزاعمهم، من كون الأمر قد وقف علي موسي بن جعفر الذي لم يخلف اماما بعده.

هذه الهواجس تتزاحم في ذهن حكيمة، التي ما فتأت تراقب الموقف بحذر عندما أخذ خيزران الطلق و اطفئ المصباح... ارتاعت حكيمة من هول اللحظات الحاسمة، حتي واجه حكيمة شي ء يتجلي أمامهما، عليه شي ء رقيق كهيئة الثوب، و نور يسطع من ذلك الوليد حتي أضاء البيت... لم تتمالك حكيمة نفسها، حتي و ثبت للوليد تأخذه برفق مصحوب برعدة اللحظات المهيبة، و هي تتناول ذلك الموعود انه «محمد».

سبحانك اللهم و بحمدك، كل شي ء عجيب في ولادة هذا الحبيب القادم من ثنايا الانتظار الأليم، الذي أذاق «أبامحمد» والده الامام صنوف الاعتراض و غصص الشامتين الذين يأملون احباط خلافة الله بكل ما لديهم من حول و قوة، (و يأبي



[ صفحه 51]



الله الا أن يتم نوره و لو كره الكافرون) [1] تتمتم حكيمة بهذه الهواجس و تلهج بالوليد الجديد... انه «محمد» يا أبامحمد...

و قد ناولته حكيمة بعد أن فتح الرضا باب الغرفة ليضعه في مهده؛ ليقول لها: «يا حكيمة الزمي مهده». لم تبارح حكيمة مهد محمد حتي رأت في يومه الثالث ما لم تره في غيره... تحدق حكيمة في الوليد الجديد الذي يرمق السماء ببصره؛ لينظر يمينا و شمالا فيتمتم بكلمات الوحدانية... نعم، تسمع حكيمة صوت الوليد في يومه الثالث: «أشهد أن لا اله الا الله، و أشهد أن محمدا رسول الله...» لم تتمالك حكيمة نفسها بعد أن أخذتها رعدة لا تحملها رجلاها المرتجفتان لتقوم بمشقة كبيرة فتخبر الامام بأنها رأت عجبا و سمعت عجبا...

أبامحمد، وليدك الميمون ما فتأت ابارحه حتي يريني ما أعجب منه، انه يتشهد، و تحكي له كل ما تراه بنبرات مرتجفة... كان الامام يدرك أنها مفاجئة لحكيمة و لغيرها في كل ما تراه من ولده الميمون، فيقول: «يا حكيمة، ما ترون من عجائبه أكثر».

و يكبر «محمد» لتكبر فيه عناية أبيه الذي يتطلع اليه بشغف مصحوب بعناية والده الامام... فهو الآن «أبوجعفر» يخاطبه الامام بكنيته تعظيما له، و توقيرا لمقامه المقدس... انه أبوجعفر... و هو المولود المبارك يا يحيي... و لم يكتم يحيي الصنعاني تساؤلاته عن المولود الجديد، فيبادر الامام متسائلا: جعلت فداك، هو المولود المبارك؟ فيجيبه الامام: «نعم يا يحيي، هذا



[ صفحه 52]



المولود الذي لم يولد في الاسلام مثله مولود أعظم بركة علي شيعتنا منه». [2] .

و لم يجد الامام الرضا بدا من التنويه بمنزلة أبي جعفر عليه السلام، فهو لحمة من رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و هو روحه، بل هو بعضه، فقوله لابن نافع حين دخل عليه: «يا ابن نافع، سلم و أذعن له بالطاعة، فروحه روحي، و روحي روح رسول الله». [3] .

كان ابن نافع يدور في خلدة منزلة أبي جعفر كيف هي؟ و لكنه لم يتيقن أنه خليفة أبيه، حتي ذكر الامام أن ولده هو روح رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم.

و لا يعني قول الامام الا اشارة الي نسب ولده، و أنه ينتمي الي رسول الله، فليس عند ابن نافع شك في ذلك، و لم يخف علي أحد و لا علي ابن نافع ذلك، بل أراد الامام أن ينوه عن وراثة أبي جعفر له، و من ثم وراثته لرسول الله، فهو روحه يا ابن نافع... و ليس بعد ذلك تفصيل...

كان أبوجعفر يتلقي الرسائل من أبيه «المبعد» الي خراسان... و كان الوالد يراقب عن كثب أحوال أبي جعفر، فكانت بينهما مراسلات تفصح عن جلالة «محمد» بالرغم من صغر سنة، و كان الرضا يتحف ولده بأنواع التبجيل، و فوق ذاك فقد كان يفديه... فأي منزلة هي اذن؟ و أي كرامة تحيط بالمذخور لوراثة الامامة؟! كان الجواد عليه السلام يقرأ في ثنايا رسائل والده عطفا مشوبا بشوق البعد و عناء الفراق... و كان يتطلع برسائل والده فيقرأ فيها عناية تنطوي فيها حرارة الشوق مع قداسة التعظيم، و هو أمر لا يقف عند حدود المراسلات، أو يندرج في شؤون المخاطبات، أو يرتسم في ملاكات التشريف بقدر ما هو تنويه علي أمر خطير،



[ صفحه 53]



و مكانة جسيمة لا تكشفها الا مخاطبات الامام لأبي جعفر حين يكتب له: بسم الله الرحمن الرحيم، أبقاك الله طويلا، و أعاذ من عدوك يا ولد، فداك أبوك...

و في نفس الرسالة يخاطبه: و قد أوسع الله عليك كثيرا، يا بني فداك أبوك...

و في قوله: «أبوجعفر وصيي و خليفتي في أهلي من بعدي...» ينكشف سر مكانة أبي جعفر، و خطر منزلته عند أبيه... فهو وصيه و خليفته.

كان الرضا ملازما لمهد «محمد» عدة ليال... لا يفارقه، و هو أمر أثار استغراب أحدهم، و سأل الرضا عليه السلام عن سبب ذلك؟ و هل ملازمته لمهد الوليد تعويذا له من عين الحاسدين؟..

أجل، لم يدرك المتسائل سر هذه الملازمة، و ظنه أنها ملازمة الوالد لوليده الوحيد الذي يخشي عليه كيد الحاسدين... و لم يتبين لهذا السائل أنه أمر عظيم يكتنف هذه الملازمة ليالي عدة...

انه أمر أعظم من أن يدركه هذا و غيره، فيكتفي الامام عليه السلام بأن ذلك من أسرار الوراثة و خصائص الامامة... انه العلم يا هذا... و أي علم هو يتلقاه أبوجعفر في مهده؟ و لم يزد الامام علي أكثر من قوله: «ويحك! ليس هذا عوذة، انما أغره بالعلم غرا» [4] .

و هكذا يكبر أبوجعفر، و يكبر معه علمه و رعاية الوالد الحبيب... و أي لحظات هي، و أبوجعفر يراقب والده و قد ودع البيت وداع من لا يرجع بعد سفره هذا؟...



[ صفحه 54]



و لم يرتض أبوجعفر أن تمر هذا اللحظات العصيبة الا ليعبر عن ألمه و استيائه لما سيفعل بوالده المعظم... و هل يخفي علي أبي جعفر ما تنطوي عليه الأيام الزاخرة بالمفاجئات؟ و هل فات أبوجعفر الصبي الرباعي أو الخماسي أن لا يدرك ما هو فيه أبوه؟ و هل خفي علي الرضا ما تكنه نفس أبي جعفر و تنطوي عليه من معرفة المستقبل بتفاصيله؟!

و لم يستغرب الرضا ما بدا علي أبي جعفر ولده من قلق و هم و حزن عبر عنه بلزومه الحجر، و لم يبارحه حتي جاء والده فاستجاب اليه، و بقي موفق الخادم متعجبا مما يراع من هذا الصبي الحزين علي فراق والده!

و أي صبي في الرابعة يدرك ما تجري الأحداث و الوقائع مما يجعل موفقا الخادم متحيرا لادراك أبي جعفر خطورة الأمر التي ستؤول الي تصفية الامام؟ و لم يحر الخادم موفق فعل شي ء و هو يري الصبي «محمدا» لم يبرح الحجر...

فهذا امية بن علي القيسي [5] الشامي يحكي لنا مشاهداته عن سلوك الصبي الذي يرافق والده عند طوافه، قال:

كنت مع أبي الحسن عليه السلام بمكة في السنة التي حج فيها، ثم صار الي خراسان و معه أبوجعفر، و أبوالحسن عليه السلام يودع البيت، فلما قضي طوافه عدل الي المقام فصلي عنده، فصار أبوجعفر الي الحجر فجلس فيه فأطال، فقال له موفق: قم جعلت فداك، فقال: «ما اريد أن أبرح من مكاني هذا الا أن يشاء الله»، و استبان في وجهه الغم، فأتي موفق أباالحسن عليه السلام فقال له: جعلات فداك، قد جلس أبوجعفر في



[ صفحه 55]



الحجر، و هو يأبي أن يقوم، فقام أبوالحسن عليه السلام فأتي أباجعفر فقال: «قم يا حبيبي» فقال عليه السلام: «ما اريد أن أبرح من مكاني هذا»، قال عليه السلام: «بلي يا حبيبي» ثم قال عليه السلام: «كيف أقوم و قد ودعت البيت وداعا لا ترجع اليه؟»، فقال له عليه السلام: «قم يا حبيبي» فقام معه. [6] .

و لم يدرك الباقون نعي «محمد» لوالده الامام... فلعل في نفوس هؤلاء تكمن حيرة الموقف، و هيبة التأبين، و قداسة النعي المستوحي من الغيب...

انه الغيب يا سادة... و أنتم تستشعرون أمرا لم تدركوه بعد... فما يجري بين الامام و بين ولده نفثات علم مخزون في صدر الصبي المفجوع بفراق والده... و حشاشته الحري تتأجج حزنا لما انتهي اليه من علم بفراق والده الامام... و لعلكم ظننتم انه لهو الصبي الذي لم يبارح المكان الا بأمر والده... و أنتم لم تدركوا أنه أبوجعفر الامام القادم، و التي ستنتهي اليه مقاليد خلافة الله...


پاورقي

[1] التوبة: 32.

[2] فروع الكافي: 6 / 361، باب الموز.

[3] مناقب ابن شهر آشوب: 4 / 388.

[4] الامام محمد الجواد سيرة و تاريخ، عدنان الحسيني: 16.

[5] معجم رجال الحديث: 4 / 144، ت 1548، و فيه في نسخة: (القبسي).

[6] كشف الغمه: 2 / 874.