بازگشت

قراءة في الصراع العباسي - العباسي


كان الجو ملبدا بتحديات السياسة، فالمأمون لم تنته سباقات تنافساته مع أخيه الأمين بعد... و الغلبة الآن للحكمة و للحصانة، فليس للأمين و هو بين عباسيين حظوة الانتصار، فهو خائر أمام رغباته و أهوائه و ليس لنفسه الانقياد، لا لأهوائه الجامحة التي فتكت به أخيرا و ألقت برأسه يتدحرج تحت أقدام من أحسن اللعبة مع أخيه المأمون، انه الحسين بن طاهر، ذلك القائد الطموح الذي لم يمهل الأمين أن يتنازل عن كرسيه بعد مفاوضاته مع هرثمة بن أعين الذي أحب أن يصلح أمر الأمين و يبقي علي حشاشة نفسه. [1] .

هكذا كانت أجواء السياسة العباسية... مراجل تغلي بالأحقاد و التنافس، و نفوس طامحة الي الأثرة السياسية الجامحة...

و لم تكن السياسة قد ألقت ثقلها علي جهة التحديات الأسرية لبني العباس فحسب، بل كانت تبعات هذا الانفلات تشحن النفوس الموتورة أن تروض في حمي التشكيك بامامة الرضا الذي لم يولد له ولد بعد...، أي كان هذا التنافس الأسري العباسي يلقي بظلاله علي ساحة الأحداث.

و كانت الأحداث مأخوذة في حمي الصراع بين قوميتين، تراهنان علي هوي



[ صفحه 29]



الأطراف في تقديم عنصر علي عنصر، و قومية علي اخري، و كان العرب يتوجسون من تقدم الفرس لدي المأمون، و خشية بني العباس أن ينحاز الأمر للفرس بتولي المأمون قيادة السلطة، و هاجس التنافس محموم في نفوس هؤلاء و مأخوذ بالجد في همم اولئك.

و شأن القلة من الغرباء أن يلتمسوا مواضع التقدم علي حساب غيرهم، فاثيرت هواجس العباسيين من اولئك القادمين... و لا ننسي ما للفارق العقائدي من عظيم خطر في اذكاء روح التنافس، فظن بنوالعباس أن الفرس أنصار العلويين و سيستأثرون بالأمر؛ لما للفرس من هوي التشيع و محبة آل علي، و هي وراثة ورثوها يوم كان «الحمراء» بعض رعية الكوفيين في عهد علي (ع) الخليفة.. الانسان... القائد... الانموذج في كل تعاملاته مع رعيته، و كان له الأثر في رفع الحيف عن اولئك المستضعفين من حمراء فارس، حتي أزال عنهم ما عانوه أيام الخليفة الثاني من تحقيرهم و الازدراء بهم، فكان عاقبة أمره اغتياله علي يد بعضهم ثأرا لحقوقهم المهدورة في عهده.

و كان فرق العهدين: أن انتصروا لعلي الامام و ناصروه و أحبوه و شايعوه، و أخفوا بغضهم للخليفة الثاني؛ لاسرافه في الامعان بعزهم و نقص حظوظهم من العطاء، و حث أصحابه علي اخراجهم من جزيرة العرب، كما صرح هو به في اخريات حياته.

هذه دواعي حب الفرس لعلي (ع) و هي الدواعي ذاتها في محبة غير الفرس لعلي (ع)، و الانسان رهين الاحسان، فكان علي (ع) الاحسان في كل اموره، فلم يكن التشيع لعلي (ع) موقوفا علي الفرس وحدهم، و لم يكن حبه مرهونا لقومية



[ صفحه 30]



دون اخري، فحب علي انساني يستعذبه كل انسان مولود علي فطرة الخير و الكمال. كان الفضل بن الربيع «عروبيا» علي ما يبدو، يثأر لقوميته من اولئك البرامكة «الغرباء» الذين قدموا من بلاد فارس، فظل الفضل علي «عروبة» الخلافة العباسية، و كانت لهذه القومية آفة التطرف في حسم الأحداث لصالحها، و هذا آفة كل قومية، فحرض الأمين أن ينازع اخاه المأمون، و عاضده علي بن عيسي بن ماهان الذي انف تقدم العنصر الفارسي بتقدم المأمون، فعمد علي التنكيل بهولاء «الفرس»، الذين تظاهروا علي عروبة هؤلاء، هكذا تخيل علي بن عيسي بن ماهان و الفضل بن الربيع و من هم علي شاكلتهما في احداث الشغب بين الأخوين، فدفعا محمد الأمين علي خلع أخيه المأمون و مبايعة ابنه بولاية العهد، و كان ذلك لثلاث خلون من شهر ربيع الآخر سنة (194)، فقام الي العهود التي كتبها الرشيد فحرقها، امعانا في نقض العهد و مخالفة المواثيق... و لم يكن أهل خراسان قد خفوا لهذه البيعة بنقض تلك العهود، و كأن الخراسانيين ثأروا لخؤلتهم في المأمون من امه الفارسية «مراجل» تلك الجارية السوداء، قليلة الحظ من بين جواري الرشيد، و الداخلة في خدمة سيدة القصر العباسي «زبيدة» والدة الأمين. و أني لبني العباس أن يقنعوا أنفسهم بطاعة المأمون فيتغلب بذلك عنصر الفرس و لتكون لهم الحظوة و السطوة من خليفتهم القادم «المأمون ابن مراجل الفارسية».



[ صفحه 31]



هكذا كان الصراع بين القوميتين يؤججه أصحاب المصالح.. و تبعث فيه الحياة دواعي الأنفة و المكابرة بين الفريقين، فيأخذ هذا ما حظي به نسبه من التقدم في أمر الخلافة، و يستأثر الآخر ما ميزته الفطنة في مستقبل الخلافة، فالأمين يفخر بحسبه العباسي، و المأمون يتفاضل بفطنته و ذكائه... و يتميز الأمين باللهو و الاسراف، و يتفرد المأمون بالجد و الاسفاف، و بين اللهو و الجد.. و الاسراف و الاسفاف.. هوة ساحقة من التقدم و الجد و المثابرة... و من هذه الهوة يتترس الجد في جانب، و اللهو في آخر... و منهما تنشأ محاسن الطرفين و مثالب الفريقين.. و من سعيهما تتحقق آمال الأنصار و تكبر أحلام المؤيدين.. و تأخذ حلوم ذوي الشأن حظوظ الجدة و الأثرة من الأنصار الأوفياء و جماهير المؤيدين.. و تتقاعس مصالح العامة، فلم يجد من يديم النظر فيها ليكشف عنهم عادية البلاء، و يزيل عنهم حيف اللأواء، و يجنبهم مواضع الشر و وحشة الفتن، و يمنعهم بواثق العدوان عند اثارة الشغب ليأخذهم الي حيث الأمن و الاستقرار... و لم يجد فرقاء النزاع مندوحة التصبر علي طي صفحة التنافس؛ حتي ألقوا الامور علي كاهل الحسد و الآثرة، و أرخوا زمام المصالح فالقي الجميع في حضيض نزاع انتهي الي قتل المأمون للأمين، و انحاز كل فريق الي حيث أهواؤه و مطامعه.

لم يسع المأمون الا أن يعارض ما صدر من نزق الأمين ليواجهه بالحلم، و طيشه بالجد، و لهوه بالمثابرة، و بطشه بالعفو، و اساءته بالاحسان، و جهله بالحكمة، و لا نوعز هذا التباين في جبلة المتناقضين الي عفوية الحال، أو صدقة الامور، بل كان ذلك لرغبة المأمون أن يحتل مكانة الحرم في قلب الرشيد



[ صفحه 32]



«الخليفة»، و رعاية الحشمة في نفوس بني العباس «الحاشية» و سمعة الورع في أذهان العامة «الرعية»، و هذه - لعمري - مقومات السلطان، و دواعي ولاية العهد فيما اذا رغب الرشيد اناطة الأمر الي أحدهما يوم ترجع الكفاءة علي رغبات العاطفة، و تلتمس الأهلية حين تحكم في الاختيار...

و لعل للنسب و الحسب شأن في تقرير مصير ما آل الأمر اليه من اختيار الأمين وليا لعهد الرشيد، و كان للمأمون حظ الامرة و الولاية تبعا الي أخيه الأمين... و كان الرشيد يعلم فوارق النقيضين فيسجل شهادته لولديه بقوله:

.. و قد عنيت بتصحيح هذا العهد و تصييره الي من أرضي سيرته، و أحمد طريقته، و أثق بحسن سياسته، و آمن ضعفه و وهنه، و هو عبدالله، و بنوهاشم مائلون الي محمد بأهوائهم، و فيه ما فيه من الانقياد لهواه، و التصرف مع طويته، و التبذير لما حوته يده، و مشاركة النساء و الاماء في رأيه، و عبدالله المرضي الطريقة، الأصيل الرأي، الموثوق به في الأمر العظيم، فان ملت الي عبدالله أسخطت بني هاشم [2] ، و ان أفردت محمدا بالأمر لم آمن تخليطه علي الرعية.. [3] .

و لا نرجح ما رجحه الرشيد في أمر التفاضل علي واقعه، بقدر ما ننقل صورة المأمون التي حاول أن يحسنها للعامة تهالكا علي السلطة، و طمعا في الامرة،



[ صفحه 33]



و ليس دخيلة المأمون أطهر من سيرة الأمين، و لا سريرته بأنقي من طيش أخيه، الا فيما يسبقه بحسن التدبير، و الاحتيال بحظوة الترشيح، و التنافس علي استئثار أحدهما علي الآخر حسدا و طمعا..

و لعل للمأمون دواعيه في انبثاق ذلك السلوك الذي ميزه عن أخيه، فشعوره بالعزلة من قبل بني أبيه و نظرتهم الدونية له دعته الي تأسيس سلوك آخر في التعامل و الرغبة في لفت الأنظار اليه...، فالعباسيون لم يقتنعوا بانحدار المأمون من خؤولته الفارسية بسبب امه مراجل، الأمة المعروفة بعدم حظوتها بين نساء القصر، فهو في العرف العباسي ابن أمة، غير جدير لتقلد أية مسؤولية ترفع من محتده [4] الحقير... و لابد للمأمون أن يسلك سلوكا يرتفع علي هذه النظرة الخسيسة التي قلدها اليه العباسيون، فاذا تمرد علي تقاليد حياة البلاط و تقاليد الامارة من اللهو و المجون و العبث فانه يتمرد الآن علي تقاليد بني أبيه العقائدية، التي ما برحت تقدم أبابكر و عمر علي علي (ع)، و تحاول عبثا أن تنيط الحق الي غير علي (ع)، غير آبهة بمسلمات أحقية الخلافة و وصاية الرسول (ص) لعلي (ع)، و قد رواها العباسيون يوم كانوا يستجدون استعطاف الناس لهم، و ميل القلوب اليهم، كما استجدوا بهذه الفضائل لقمة العيش، و محاباة الناس، و استعطاف قلوبهم، و قد فعل ذلك أبوجعفر المنصور قبل تسلمه الحكم، و قد كان صعلوكا يجوب مواطن



[ صفحه 34]



الاسترزاق و مظان التقمم...

و اذا خالف المأمون بني أبيه في عقيدته فانه مدفوع بالانتقام من تقليدية هؤلاء ليصبح مثار الانتباه و مآل اهتمام أهله و ذويه، و ليتحدثوا به بعد أن كان مغمورا في خسة النسب، و مهملا في بعد شقة الخؤولة الفارسية، و ليحذر منه بنوالعباس فيحسبوا فيه حسابهم، و يأخذوا منه حذرهم، و يحتشموه موثوقا بعقيدة العلوية الزاحفة اليهم خلف الأسواء العباسية الموصدة، فضلا عما سيملكه من رصيد قوة الفرس الذين دخلوا البلاط منافسين للترك، و مبارزين للروم في حصولهم علي حظوة القرب في البلاط العربي بما كان هؤلاء الفرس ينحازون في هواهم لعلي و آل علي عليهم السلام؛ مكافأة منهم علي رفع الحيف منهم يوم كان علي حاكم الكوفة و خليفتها، فقد نظر اليهم؛ ضحية العصبية القبلية حين كانت الكوفة تفاخر بقبائليتها و تفخر علي كل عنصر من غير العرب، تمسكا منهم بما جعله الخليفة عمر تقدما لهم علي غيرهم، و شدد علي الفرس بأن يخرجوهم من جزيرة العرب الي حيث لا يراهم هو و قبيله ممن هم علي سنته و هواه في قوميتهم العروبية، حتي أنه أنقص حظوظ الفرس من العطاء، و زاد للعرب في اعطياتهم دون مراعاة (ان أكرمكم عندالله أتقاكم) [5] .

هكذا نشأت دوافع الفرس في حبها لعلي و لآل علي عليهم السلام، لا لصدفة الاتفاق، أو وثبة النزق، أو طيش التعنت، أو هوي العصبية، بل لداعي الفطرة، و انبعاث الوفاء في النفس الانسانية بميلها الي من أحسن اليها، فان الانسان مجبول علي حب الاحسان، و اذا كان الفرس تواقين لآل علي عليه السلام في هواهم، فما الذي يمنع المأمون



[ صفحه 35]



أن يدين بدينهم انسان يأخذه حب علي، و يملك فيه عافية التطلع الي حياة علي عليه السلام؟ ذلك الانسان الذي يملك من مواصفات الخلافة الالهية ما لا يملك غيره، و يقرأ المأمون في علي عليه السلام سيرة المجاهد كما يقرأ فيه سيرة الزاهد، و يتطلع اليه عالما كما يسبره حكيما، و يبكيه مظلوما كما يعرفه جادا في انتزاع حقه لو لا حرصه علي سلامة الاسلام، و بقاء الدين، و وحدة الأمة من الضياع...

فاذن «علي عليه السلام» ملحمة الانسان المجهول الذي حاول بنو العباس أن يزووه عن مخيلة الباحث عن الحقيقة، و يتجاهلوه حرصا منهم علي أن لا تقوم لبنيه قائمة، و يهملوا ذكره سعيا و راء اخفاء ما يملكه بنوه من رصيد المحبة في قلوب الناس، و هم المعارضة الخفية لسلطان العباسيين، و كل هذا لا يثني عزيمة الباحث عن الحقيقة في علي و آل علي عليهم السلام، و المأمون باحث من الباحثين، و مقتف لآثار الأولين، و فرق بين الباحث عن الحقيقة و بين المعتقد بها، فلرب من يقف علي الحقيقة كمطلع، و رب من يتابعها كمعتقد، و رب من تدعوه دواع الرغبة في معرفة ما تخفيه دواعي الحسد، و دوافع الانتقام، و كأن المأمون ثالث ثلاثة في اقتفاء الأثر، و معرفة الجد في رغبة بني أبيه باخفاء معالم علي عليه السلام، فجد منهمكا في متابعة الحقيقة دون أتباع الحق، و كان حريصا كل الحرص علي ابراز ما أخفاه المنافسون له من بني أبيه تنكيلا منه بهم، و تحقيرا لدعاهم في أحقيتهم للخلافة دون طائل، و امعانا منه في اطفاء سورة المكابرة و قد أشعرتهم بأنهم ظل الله في أرضه، و هم أهل بيت النبي صلي الله عليه و آله مناجزة لأهل البيت النبي، علي عليه السلام و بنيه...

اذن لم يكن المأمون متشيعا لعلي عليه السلام بقدر ما عني في معارضة بني أبيه، تمردا منه عليهم، و بحثا عن الحقيقة دون الاعتقاد بها، و تثبيتا للحق من غير اعتراف به،



[ صفحه 36]



و طلبا للواقع خلافا لما أظهره مع آل علي كما سيأتي... فضلا عن احراز رضا الفرس في دعواه التشيع لعلي؛ ليضمن بذلك مناصرتهم في دفع المعارضين له من بني العباس، و حرصا منه علي كسب ود العلويين الثائرين، و سنجد أن عصر المأمون حفل بثورات المعارضة العلوية، كخروج أبي السرايا، السري بن منصور أحد بني ربيعة بن ذهل بن شيبان، و مناصرة بعض العلويين له، كالحسن بن الحسين بن زيد، و محمد بن محمد بن زيد، و الحسن بن اسحاق بن علي بن الحسين، و محمد بن الحسين بن الحسن، و علي بن عبدالله بن محمد. و كمبايعة أهل المدينة لمحمد بن جعفر بن محمد عند خروجه علي المأمون و خلع نفسه عن البيعة بعد معارك يطول ذكرها، الي غير ذلك من خروج العلويين عليه، و خطورة ذلك تكمن في كون المأمون خرج توا من أخطر معاركه منتصرا علي أخيه الأمين، تاركا في قلوب بني أبيه شعور الخيبة في انشقاق عصبة الخلافة العباسية، و انخرام عصمة الرحم بين وريثي البيت العباسي في الخلافة، و هي أول حالة تقصم فيها عري الاخوة بين متنافسين ينتهي أمرهما بأن يطوف برأس أحدهما في آفاق البلدان، و هو أمر لا يرتضيه العباسيون، حتي يعلنوا تذمرهم علي المأمون ببيعتهم لعمه ابراهيم بن المهدي المغني المعروف، رافضين بذلك المأمون، محتملين ما يصيبهم من عنت الطعن و اللوم علي سوء الاختيار لهذا المغني الماجن، و هو أمر يكشف عن مدي لجاجة الأحداث في أن تصل الي هذا الأمر... و من هذا فعلي المأمون أن يأخذ حذره من تمرد محسوب يؤدي به و بملكه، فما السبيل الي ذلك؟



[ صفحه 37]



و لعل بعضهم يذهب الي غير ذلك، فهو يري أن طبع المأمون كان مجبولا علي حب آل علي عليه السلام دون تكلف المجاملة، أو التربص في ارضاء الخصوم العلويين الذين باتوا يرون ملاحاة العباسيين لهم في العداء أمرا تقتضيه جبلة التنافس، و طبيعة الحريص علي اقتناص فرص الغلبة في بسط هيمنة السطوة علي غيرهم من منافسيهم، و نقرأ فيما أرخه ابن الأثير في كامله أن المأمون لم يتصنع العطف أو يتكلف الحب، أو يستأثر الشفقة علي العلويين درءا لخطر التهالك في الحصول علي حطام الملك، أو دفعا لاحتمال الأسوأ في اتخاذ بعض ما يلومه عليه بنوأبيه من تقديم آل علي في حظوة التكريم و بسط أسباب التبجيل، أو كل ما من شأنه أن يرفع من مقامات آل علي عليهم السلام؛ محتملا لوم اللائمين و تعنيف العاذلين من بني أبيه.

قال ابن الأثير في كامله: قال أبوالعباس أحمد بن عبدالله بن عمار: كان المأمون شديد الميل الي العلويين، و الاحسان اليهم، و خبره مشهور معهم، و كان يفعل ذلك طبعا لا تكلفا، فمن ذلك أنه توفي في أيامه يحيي بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين العلوي، فحضر الصلاة عليه بنفسه، و رأي الناس عليه من الحزن و الكآبة ما تعجبوا منه، ثم ان ولدا لزينب بنت سليمان بن علي بن عبدالله بن عباس - و هي ابنة عم المنصور - توفي بعده، فأرسل له المأمون كفنا، و سير أخاه صالحا ليصلي عليه، و يعزي امه؛ فانها كانت عند العباسيين بمنزلة عظيمة، فأتي اليها و عزاها عنه، و اعتذر عن تخلفه عن الصلاة عليه، فظهر غضبها و قالت لابن ابنها: تقدم فصل علي أبيك، و تمثلت:



سبكناه و نحسبه لجينا

فأبدي الكير عن خبث الحديد



ثم قالت: لصالح: قال له: يابن مراجل، أما لو كان يحيي بن الحسين بن زيد



[ صفحه 38]



لوضعت ذيلك علي فيك و عدوت خلف جنازته. [6] .

و لم تجد ما يعزز نظرة اولئك الذين مالوا الي تشيع المأمون أو أفرطوا فيه بوصفهم أن المأمون قد غالي في تشيعه، كما عن الذهبي في تاريخ الاسلام سنة (201 - 200) ما يضمن لنا قوة الحجة في هذه المقطوعة التاريخية، فلربما كان يدفعه موقف من مواقف الخطر السياسي الذي أحدق بالمأمون و شيعة علي يتربصون به، فأراد بذلك دفع غائلة الثورة و التمرد، أو ربما كانت شبهة اغتيال المأمون للامام الرضا عليه السلام تحيق بالمأمون فيتوجس من خلالها الغوائل، و يدرأ في ذلك عادية الثورات العلوية، أو - لنحسن الظن في هذه الواقعة أن نقول و علي أحسن تقدير: - ان المأمون كان يعجبه آل أبي طالب، فكان تواقا في مواصلتهم و الحرص علي برهم، لا لعقيدة الايمان فيه، بل لجبلة الفتوة التي فطر عليها المأمون، فأحب فتوة الطالبين الموروثة من فتوة علي و آله الطيبين، و الا فليس ذلك ما يبرر تشيع المأمون و انكفاءه علي عقيدة يعلم فيها نهاية ملكه و حتمية مآله.

و لعل ما يدور في خلد العباسيين، و ما يجري في أروقة القصر من التهامس بين الساسة و أنصار العباسيين وقادة الأحداث و اولي الأمر، و ما يدب بين العامة فيما تلقيه الخاصة من كون المأمون قد مال في هواه لآل علي، و غلب عليه نصرتهم، و أخذ بحبهم دفع بالمأمون أن يعتذر لقاضيه يحيي بن أكثم مقرر عقيدة القصر، و السائس لتوجهات البلاط العباسي، و المعروف بعدائه لآل علي و أنصارهم من أنه مأخوذ بتهمة العداء للصحابة، و قد خرج توا من مناظراته في الدفاع عن أحقية



[ صفحه 39]



علي عليه السلام في الخلافة و تقديمه علي بقية الصحابة، و هو أمر يستحق عليه صاحبه في نظر «الآخر» أن يوصم بتهمة العداء لصحابة النبي صلي الله عليه و آله، و هو سلاح طالما يستخدمه اولئك المقلدة من أجل افشال أي مشروع اصلاحي لبيان حقائق تاريخ الامة، و تهمة العداء للصحابة بضاعة جاهزة بخسة الأثمان يسوقها تجار السياسة وقادة الفتن و أصحاب الأهواء المتناحرة، و كأن المأمون قد توجس من نتائج مناظرة عقدها مع فقهاء بغداد و أهل العلم منهم في أمر الخلافة، فأراد أن يبعث برسالة طمأنة الي الخاصة من المقلدة و عامتهم، و هاجس الاصلاح و توجسات التغيير تدور في أذهان أهل الحل و العقد، من ساسة العقائد الحاكمة و الأهواء السائدة يومذاك. فقال المأمون لابن أكثم: يا أبامحمد، كره هذا المجلس الذي جعلناه للنظر طوائف من الناس، بتعديل أهوائهم و تزكية آرائهم، فطائفة عابوا علينا ما نقول في تفضيل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، و ظنوا أنه لا يجوز تفضيل علي عليه السلام الا بانتقاص غيره من السلف! و الله ما أستجيز أن أنتقص الحجاج فكيف السلف الطيب؟! و ان الرجل ليأتيني بالقطيعة من العود أو بالخشية أو بالشي ء الذي لعل قيمته لا تكون الا درهما أو نحوه، فيقول: ان هذا كان للنبي صلي الله عليه و آله، قد وضع يده عليه أو شرب فيه أو مسه، و ما هو عندي بثقة، و لا دليل علي صدق الرجل، الا أني بفرط النية و المحبة أقبل ذلك فأشتريه بألف دينار، أو أقل أو أكثر، ثم أضعه علي وجهي و عيني و أتبرك بالنظر اليه و بمسه، فأستشفي به عند المريض يصيبني، أو يصيب من أهتم به فأصونه كصيانتي لنفسي، و انما هو عود لم يفعل شيئا، و لا فضيلة له يستوجب المحبة الا ما ذكر من مس رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، فكيف لا أرعي حق أصحابه و حرمة من قد صحبه، و بذل ماله و دمه دونه، و صبر معه أيام الشدة و أوقات



[ صفحه 40]



العسرة، و عادي العشائر و العمائر و الأقارب و فارق الأهل و الأولاد، و اغترب عن داره ليعز الله دينه و يظهره دعوته؟!

يا سبحان الله! و الله لو لم يكن هذا في الدين معروفا لكان في الأخلاق جميلا! و ان من المشركين لمن يرعي في دينه من الحرمة ما هو أقل من هذا. معاذ الله مما نطق به الجاهلون... [7] الي آخر ما يعتذر به الي يحيي بن أكثم، و ما يسوغه من دفاعه عن علي عليه السلام في حقه و عن مذهبه في تقديمه علي غيره، و هو بعد لم تثبت لنا صحة اعتقاده الشيعي أو ايمانه الراسخ، ففي مناورات السياسة ما تخفي الأحداث وراءها مقاصد التناحر و دواعي التنافس، و مقتضيات التصفيات السياسية، و قتل الخصوم، و كان علي بن موسي الرضا عليه السلام بعض من نالته كؤوس حتوف الاحتراب السياسي و التنافس المحموم بحمي تداعيات الأثرة و التهالك علي حطام السلطان.

لم يسع المأمون الا أن يأخذ حذره كما قلنا، فما الذي يفعله غير أن ينقلب علي تقليدية آبائه في عدائهم لآل علي، حتي يعمل علي تقريب الامام علي بن موسي الرضا و يتشفع عند العلويين بتوليته ولاية العهد، فضلا عما سيحدثه المأمون من التلويح لبني أبيه باخراج الأمر منهم الي معارضيهم من آل علي، ان لم يحسنوا مع المأمون التصرف و يعملوا معه علي ادارة الأمر، و القضاء علي تمردات العلويين و ثوراتهم، أي سيجعل ولاية العهد قوة ضاغطة علي الوجود العباسي، مهددا اياهم علي مصادرة مجدهم و هيبتهم، و كسر شوكتهم، أي كانت ولاية العهد للامام



[ صفحه 41]



الرضا عليه السلام من قبل المأمون رسالة مفتوحة قرأ فيها العباسيون حاضرهم و استشرفوا فيها مستقبلهم، مما دعاهم الي التخلي عن عزمهم في الابقاء علي ابراهيم بن المهدي بديلا عن المأمون، و مقابل هذا أن يقصي المأمون الامام الرضا عن ولاية العهد بتصفيته سما و اغتياله، ارضاء للنزعة العباسية، و تمت الصفقة الخسيسة بين الطرفين، فشلت يد البائع، و تبت يمين المشتري.

حاول المأمون دون جدوي أن يضع الأمر في عنق الامام، مختبيا خلف نوايا عدة، و الامام كان رافضا له أشد الرفض، محبطا بذلك مشاريع المأمون، و ساعيا الي تحويل ما عزم عليه المأمون من فتح الي هزيمة، و من نصر الي خذلان، و من نجاح الي احباط، فالمأمون أراد أن يدخل اللعبة منتصرا بما يحسنه من تدبير السياسة، و الامام عاجله في افشال اللعبة بما يملكه من حنكة التبصر في عواقب الأمور، و المأمون أضعف من أن يجعل الامام سببا في تنفيذ مآربه، أو قنطرة توصله الي تحقيق مصالحه، و الامام أجل من أن يصغي للمأمون أو يركن الي زبرجة و عوده، فالامام لا يرفعه ما يمنحه المأمون من خلافة مزعومة، و سلبيته حيال عرض المأمون كشف عن تداعيات خلافة بني العباس غير المشروعة، و الامام لا يحول عنه أحد دون الخلافة الشرعية، فهو لم يكن في يوم ما محتاجا الي عرض المأمون، أو مخذولا من ازواء الرشيد، فخلافتهم ملك دنيوي، و خلافته نص الهي.

و هذا أمر جدير بالتأمل و التبصر بما آلت اليه الامور... فعرض الخلافة كان



[ صفحه 42]



مدفوعا من قبل الامام، محتجا علي المأمون بأن الأمر ليس بيدك، فان كانت الخلافة لك فلا معني لمنحها غيرك، و ان كانت لغيرك فلا يجوز أن تجعل لي ما ليس لك، و كان ذلك جدير بادانة المأمون و أسلافه في عدم مشروعية خلافتهم، و لنستمع الي ما دار بين الامام الرضا و بين المأمون في شأن الخلافة؛ لينبلج الحق لذي عينين...

روي الصدوق بسنده، عن علي ابراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن أبي الصلت الهروي قال: ان المأمون قال للرضا عليه السلام: يابن رسول الله، قد عرفت علمك و فضلك و زهدك و ورعك و عبادتك، و أراك أحق بالخلافة مني.

فقال الرضا عليه السلام: «بالعبودية لله عزوجل أفتخر، و بالزهد في الدنيا أرجو النجاة من شر الدنيا، و بالورع عن المحارم أرجو الفوز بالمغانم، و بالتواضع في الدنيا أرجو الرفعة عندالله عزوجل».

فقال له المأمون: فاني قد رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة و أجعلها لك و ابايعك.

فقال له الرضا عليه السلام: ان كانت هذه الخلافة لك و الله جعلها لك فلا يجوز لك أن تخلع لباسا ألبسك الله و تجعله لغيرك، و ان كانت الخلافة ليست لك فلا يجوز لك أن تجعل لي ما ليس لك.

فقال له المأمون: يابن رسول الله، فلابد لك من قبول هذا الأمر.

فقال: لست أفعل ذلك طائعا أبدا.

فما زال يجد به أياما حتي يئس من قبوله.

فقال له: فان لم تقبل الخلافة و لم تجب مبايعتي لك فكن ولي عهدي، تكن لك



[ صفحه 43]



الخلافة بعدي.

فقال الرضا عليه السلام: و الله لقد حدثني أبي، عن آبائه، عن أميرالمؤمنين عليهم السلام، عن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم: اني أخرج من الدنيا قبلك مسموما مقتولا بالسم مظلوما تبكي علي ملائكة السماء و ملائكة الأرض، و ادفن في أرض غربة الي جنب هارون الرشيد، فبكي المأمون!

ثم قال له: يابن رسول الله، و من الذي يقتلك أو يقدر علي الاساءة اليك و أنا حي؟!

فقال الرضا عليه السلام: أما اني لو أشاء أن أقول لقلت من الذي يقتلني.

فقال المأمون: يابن رسول الله، انما تريد بقولك هذا التخفيف عن نفسك و دفع هذا الأمر عنك، ليقول الناس: انك زاهد في الدنيا.

فقال الرضا عليه السلام: و الله ما كذبت منذ خلقني ربي عزوجل، و ما زهدت في الدنيا للدنيا، و اني لأعلم ما تريد.

فقال المأمون: و ما اريد؟

قال: الأمان علي الصدق.

قال: لك الأمان.

قال: تريد بذلك أن يقول الناس: ان علي بن موسي الرضا لم يزهد في الدنيا، بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعا في الخلافة؟

فغضب المأمون ثم قال: انك تتلقاني أبدا بما أكرهه و قد أمنت سطوتي، فبالله اقسم لئن قبلت ولاية العهد، و الا أجبرتك علي ذلك، فان فعلت، و الا ضربت عنقك.



[ صفحه 44]



فقال الرضا عليه السلام: قد نهاني الله أن القي بيدي في التهلكة، فان كان الأمر علي هذا فافعل ما بدا لك، و أنا أقبل ذلك علي أني لا اولي أحدا، و لا أعزل أحدا، و لا أنقض رسما و لا سنة، و أكون في الأمر من بعيد مشيرا.

فرضي بذلك، و جعله ولي عهده علي كراهة منه عليه السلام بذلك. [8] .

لم يثبت النص مفخرة للمأمون، و لم يجعل له مكرمة التنازل عن الخلافة الي الامام الا لعبة ما كرة مكشوفة الأوراق، جلية الغايات، و لم يستطع اولئك الذين يذهبون الي تشيع المأمون أن يثبتوه و بين أيديهم نص الادانة لتصرف المأمون فيما عزم عليه من قتل الرضا ان هو يرفض فكرة تحويل الخلافة، أو مسألة قبول ولاية العهد، و أي ولاء هذا و المأمون ليس له خيار الا خيار القتل فيما اذا تسبب الامام الرضا في احباط مشروع المأمون؟! و أي تشيع هذا و الامام يتعرض لكراهية القبول في أمر لم يكن هو راضيه، فصار المأموم متبوعا، و غدا الامام تابعا؟! فأي تشيع بعد هذا يبقي للمأمون؟!

نعم، كان المأمون قد استهواه التشيع كانسان تحكمت فيه رغبة الحق كمعرفة مجردة عن كل دواعي السلطان، و هواية البحث تأخذ الانسان الي مديات الرغبة الصادقة حينما يتخلي عن نوازع السطوة، بل قد يتأصل الخير في كوامن الفطرة ليدفع الانسان لأن يعود الي انسانيته كانسان مجرد عن كل النقائص العارضة علي توجهات الخير، المستوحاة من سلامة الفطرة اذا ما هي نجت من معائب النفس



[ صفحه 45]



الهابطة الي حضيض الأشياء.

كان المأمون - كما أشرنا - يعاني من عقدة النقص التي تلقي بظلالها علي شخصيته المنعزلة و الطموحة كذلك، فالنقص أشعر المأمون بدونية الانتساب لامه الفارسية، و كانت مراجل عنوانا كبيرا لمعاناة المأمون التي خلقتها نظرة العباسيين اليه.

و الذي نريد قوله: أن المأمون شذ في «عباسيته» الخاصة به، فهو لم يحمل معه «عباسية» الرشيد و لم يتخل منها كما في «عباسية» الناصر... و لم يختر الوسطية في عباسيته بعد ذلك، فعباسيته لغز محير خاض فيه الكثير، فمنهم من أقصاه عن عباسيته و أحاله شيعيا خالصا، و منهم من ذهبت به المذاهب دون أن ينتهي بنتيجة معينة، و هكذا تضاربت آراء المحققين، و تعارضت روي الباحثين، فلم يحطوا رحالهم الي ما تطمئن له نفوسهم، أو يتفقون علي رأي يقطعون به شأفة العصيبة في الاستنتاج التاريخي، و أي استنتاج لأية قضية تاريخية لا يمكن الوقوف منها موقف المتحيز ما لم يتجرد المؤرخ عن نزعاته العصبية، أو نظرته القبلية، ليلقي عنان الحقيقة الي حيث تسلكه من وهاد التحقيق الي مكامن قضايا أخفتها نزعات الرغبة في اثبات ما يستسيغه هو و ما تهواه نفسه.

و مهما يكن من أمر فان تهمة تصفية الامام الرضا لن تتخطي المأمون، أو تتعداه الي ابني الفضل، أو تتجاوزه بتآمر الحاشية علي قتله، فان سنة تصفية الخصوم قد عرفت منذ زمان، و سعد بن عبادة أول من ذاق كأس حتوف المعارضة السياسية، و أوعزوا تصفيته الي الجن فقالوا: «قتلت الجن سعدا»، و لم نسمع قبل و بعد مصرع



[ صفحه 46]



سعد أن تدخلت الجن في تصفية الخصوم، فان جن السياسة أفتك و أشد بطشا... و لم يخف التاريخ ما ابتكره ابن أبي سفيان في دس السم بالعسل، فأودي بخصومه الي حيث شاءت لهم «جنود الله من العسل»، و هو ما استساغه ابن أبي سفيان أن يطلق علي مكائده فيوعزها الي «جنود الله»...

و في معرض تحليله لشخصية المأمون السياسية ذكر يوسف العشر في تاريخ عصر الخلافة العباسية ما نصه: (... و كان اذا فاجأته حادثة أخر حلها حتي يستقيم له الرأي فيها. و هو علي كل حال يحل المسائل هادئا دون أن يكون في الأمر اثارة أو استثارة، ليس فيه عنف و لا قسوة، يرغب في أن يكون حلا هادئا ناعما لطيفا [9] ، لعل الناس في عصره ما كانوا يشعرون بأهمية الحل، و لا يقدرون قيمته، قد يلجأ في هذا الحل الي السم أو الي قتل الناس، و لعله كان يفعل ذلك لصالح الدولة. [10] و لعله كان يفضل الحلول الهادئة هذه علي ارسال الجيوش و قتال الناس، و كان بعد أن يوعز بالسم و يقتل من يقتل من يقتل يتبرأ من هذا الفعل، و يعلن سخطه عليه، بل يحاول أن يخفي تدبيره وراء ترتيب جديد: ينعم علي أهل الشخص المقتول، و يضفي عطفه علي اسم المسموم و اسم ذويه...

و لعله كان من خطته أيضا أن يفتدي نفسه بعلي الرضا بن موسي، فانه ما مضي علي وفاة الفضل بن سهل عدد من الأشهر حتي تناول علي الرضا بن موسي كمية



[ صفحه 47]



كبيرة من العنب يحبه فمات [11] لعلنا لا نصدق أن انسانا يموت من أكل العنب اذا لم يكن في العنب ما يؤثر في الحياة كالسم مثلا، أعلن المأمون حزنه علي وفاة الرضا، و لم يغير سياسته في الأمر، بل استمر علي لبس الخضرة [12] .

و هكذا هي سيرة المأمون، فانه ليس بدعا من ذوي السياسة و أهل الرئاسة حيث يختمون تحالفاتهم بالاغتيال لمنافسيهم الأقوياء... فالمأمون فكر في بيعته علي الرضا، فأعظم أن يرجع عنها، و خاف اذا رجع أن يثور عليه أهل خراسان فيقتلوه، فعمد الي سياسة الفتك، فدس اليه من أطعمه عنبا مسموما فمات) [13] .

و لم يكن هذا الرأي قد اختص به جرجي زيدان حتي وافقه أحمد شلبي بقوله: ان ثورة بغداد قد أرغمت المأمون علي التخلص من الرضا... [14] .

و ليس المحدثون قد انفردوا في هذا الرأي، فان أبي الفرج الاصفهاني ذكر في مقاتل الطالبيين ما يؤكد ذلك، فقال: (و كان المأمون عقد له علي العهد من بعده - أي الرضا - ثم دس اليه بعد ذلك سما فمات) [15] .

و لم ينكر ابن الطقطقي في آدابه السلطانية ما ارتكبه المأمون من قتل الامام الرضا عليه السلام، و ألمح الي أنه كان في قتله للرضا استرضاء لبني العباس، و أن في موته



[ صفحه 48]



ذهابا لخوفهم و توجسهم مما ستؤول اليه ولاية عهد الرضا بزعمهم، فقال في معرض تأريخه للمأمون: (ثم دس الي علي بن موسي الرضا عليه السلام سما في عنب فمات من ساعته، ثم كتب الي بني العباس ببغداد يقول لهم: ان الذي أنكرتموه من أمر علي بن موسي قد زال، و ان الرجل مات، فأجابوه أغلظ جواب) [16] .

و حسبنا جواب عبدالله بن موسي بن عبدالله بن الحسن بن علي علي رسالة بعث بها المأمون اليه، حيث تواري عنه، فأرسل اليه أمانا و أوعده بولاية العهد، فقال عبدالله في معرض جوابه اليه:

وصل كتابك و فهمته، تختلني فيه عن نفسي ختل القانص، و تحتال علي حيلة المغتال القاصد لسفك دمي، و عجبت من ذلك العهد و ولايته لي بعدك، كأنك تظن أنه لم يبلغني ما فعلته بالرضا، ففي أي شي ء ظننت أني أرغب من ذلك؟! أفي الملك الذي قد غرتك نضرته و حلاوته، فوالله لئن اقذف - و أنا حي - في نار تتأجج أحب الي من أن ألي أمرا بين المسلمين، أو أشرب شربة من غير حلها مع عطش شديد قاتل... أم في العنب المسموم الذي قتلت به الرضا؟! [17] .

و في خبر آخر:

فبأي شي ء تغرني؟ ما فعلته بأبي الحسن - صلوات الله عليه - بالعنب الذي أطعمته اياه فقتلته [18] .

و أحسب أن هذه الرسالة من شأنها قطع عادية اللجاج في أمر شهادة الرضا



[ صفحه 49]



علي يد المأمون. فعبدالله بن موسي هذا قريب عهد علي حادث الاغتيال، و هو مترصد لسلوك المأمون و مذهبه في تصفية الخصوم، و دم الرضا من ذحول الهاشميين المعارضين لسياسة العباسيين، الذين ما فتأوا يتخلصون من آل علي بمثل هذه الغيل و تلك الدسائس سبب في غليان الهاشميين بالثورة، انتقاما مما أقدم عليه المأمون في التمادي بقتل الامام...

و لأبي فراس الحمداني موقف من العباسيين يحاججهم بسوءاتهم، و أشهرها اغتيال الرضا و تصفيته بسم المأمون، ففي رائعته الميمية يذكر بها أمر الاغتيال بقوله:



ليس الرشيد كموسي في القياس و لا

مأمونكم كالرضا ان أنصف الحكم



باؤوا بقتل الرضا من بعد بيعته

و أبصروا بعض يوم رشدهم و عموا



و لم تقف التهمة في حدود الاغتيال المروع، بل عمد المأمون أن ينفي تهمة كهذه عن نفسه، فأرسل الي ابن الرضا و خليفته «محمد صلي الله عليه و آله و سلم»، فكان من أمره ما يتكفله بحثنا هذا...


پاورقي

[1] انظر الأخبار الطوال للدينوري: 399.

[2] يعني بذلك: بني العباس دون آل علي، فان العلويين ليس لهم شأن في الرغبة عن هذا و تقديم ذاك فيما يخص خلفاء بني العباس، الذين لم يشاركوهم في الأمر، و لم يقرؤا لهم بشي ء.

[3] مروج الذهب 3 : 386.

[4] المحتد: الأصل و الطبع و المقام و المنزلة و الخالص من كل شي ء. لسان العرب 3 : 40 (مادة: حتد).

[5] الحجرات: 13.

[6] الكامل في التاريخ، 6 / 438. عصر المأمون لأحمد فريد رفاعي: 368.

[7] عصر المأمون: 369 لأحمد فريد رفاعي عن تاريخ بغداد.

[8] عيون أخبار الرضا عليه السلام للصدوق 2 : 151.

[9] من العجيب أن يصف الكاتب حلول الاغتيال بأنها حلول ناعمة لطيفة، و الا فمن القبيح أن تكون المعارضة أو الاختلاف في الرؤي سببا للتصفيات الجسدية، بل و حتي الفكرية كذلك.

[10] و هذا تعليل أعجب، اذ يستحسن الكاتب مثل هذه الحلول اللاأخلاقية و يسوغها بأنها لمصلحة الدولة، فأي دولة هذه تقوم علي تصفيات الخصوم و صراع الارادات، ثم هي بعد ذلك تسوقها بأنها لمصلحة عقلانية؟!.

[11] هذا ما حاوله بعضهم أن يشوهوا الحقائق و يدعوا أن الامام الرضا عليه السلام قد مات من تناول كمية كبيرة من العنب؛ ليحاولوا أن يبعدوا شبهة قتل المأمون له، و لم نعهد من قبل أن أحدا مات من كثرة أكل العنب، بل ثبت علميا بأن العنب من المواد التي يتقبلها الجسم دون أية مضاعفات صحية، كثر ذلك أو قل، الا أن المؤرخين يشاركون الحاكم في جريمة قتل الخصوم بتبريرات يفتعلونها لا تطرأ علي بال حتي منفذ الجريمة نفسه.

[12] تاريخ عصر الخلافة العباسية، ليوسف العشر: 90 و ما بعدها.

[13] تاريخ التمدن الاسلامي 4 : 44.

[14] التاريخ الاسلامي و الحضارة الاسلامية 3 : 107.

[15] مقاتل الطالبيين: 454.

[16] الآداب السلطانية.

[17] مقاتل الطالبيين: 500.

[18] المصدر السابق. 499.