بازگشت

فقهاء نظريات الاعتذار


و لم تحد مضايقات فقهاء البلاط من نشاط محمد بن علي الجواد عليه السلام، فقد شمخ في عطائه شموخ الأوائل، دون أن تراوده فكرة الاحباط رغم ما يعانيه من مؤامرات اولئك المتوجسين؛ خيفة من منافسة «محمد» لمقاماتهم الرسمية التي زعزعتها الرياح العاتية لحركة المأمون، فتقتلع معها الثوابت التي دعا اليها «محمد» و نافح من أجلها آباؤه من قبل.

كان البلاط يترصد تحركات الامام، و فقهاء البلاط يتربصون به ليوقعوه في قضية ساخنة تجره الي مواجهات غير محمودة، و هم يسعون لاذكاء روح العداء بين الامام الجواد عليه السلام و بين الامة التي ما فتأت تتحدث في قابلياته و لياقته، و هي لا تخفي اعجابها به، فانه امتداد لسلالة النبوة، و مستودع العلوم، و كان اعجاب الامة بحفيد النبي صلي الله عليه و آله يوصل نظرية السماء في خلافة الله علي الأرض، و ليس الفقهاء بغافلين عن ذلك الذي تستشعره الامة في حفيد محمد صلي الله عليه و آله، و لا تخفي عليها مناورات التآمر حينما تريد أن توقع ما يثير الامة و يستفزها من مطارحات عقائدية تؤجج شحناء العامة و تقدمها مادة للفرقة و الاحتراب.

و لم يغب عن الجواد محمد أنه عليه السلام صاحب رسالة ورثها عن آبائه عن النبي صلي الله عليه و آله، فهو اليوم يؤسس لنظرية أسلافه، كما هو يؤصل و يقتن، فخلاف الخلافة بات يؤرق الامة حيثما لم تهتد في ظل رؤي النظام و التأريخ المسيس و قتذاك، و لابد ليحيي بن أكثم المنهزم بالأمس أن يوقع بمحمد بن علي الذي كشف عواره و أظهر للناس سذاجة ما يحمله يحيي من علم أغدق عليه النظام لقب «قاضي القضاة»، فهو اليوم يثأر لكرامته المهدورة و شخصيته الممتهنة بالأمس، فبادر في



[ صفحه 86]



اليوم الثاني أن يسأل يحيي هذا السؤال للامام محمد عليه السلام:

قال يحيي بن أكثم: ما تقول يابن رسول الله في الخبر الذي روي: أنه نزل جبريل عليه السلام علي رسول الله صلي الله عليه و آله و قال: يا محمد، ان الله عزوجل يقرؤك السلام و يقول لك: سل أبابكر هل هو عني راض فاني عنه راض؟! [1] .

فقال أبوجعفر عليه السلام: «لست بمنكر فضل أبي بكر، ولكن يجب علي صاحب هذا الخبر أن يأخذ مثال الخبر الذي قاله رسول الله صلي الله عليه و آله في حجة الوداع: قد كثرت علي الكذابة و ستكثر بعدي، فمن كذب علي معتمدا فليتبوأ مقعده من النار، فاذا أتاكم الحديث عني فأعرضوه علي كتاب الله و سنتي، فما وافق كتاب الله و سنتي فخذوا به، و ما خالف كتاب الله و سنتي فلا تأخذوا به، و ليس يوافق هذا الخبر كتاب الله، قال الله تعالي: (و لقد خلقنا الانسان و نعلم ما توسوس به نفسه و نحن أقرب اليه من حبل الوريد) [2] فالله عزوجل خفي عليه رضا أبي بكر من سخطه حتي سأل عن مكنون سره؟! هذا مستحيل في العقول!».

ثم قال يحيي بن أكثم: و قد روي: «أن مثل أبي بكر و عمر في الأرض كمثل



[ صفحه 87]



جبرائيل و ميكائيل في السماء».

فقال عليه السلام: «و هذا أيضا يجب أن ينظر فيه؛ لأن جبرائيل و ميكائيل ملكان لله مقربان لم يعصيا الله قط، و لم يفارقا طاعته لحظة واحدة، و هما قد أشركا بالله عزوجل و ان أسلما بعد الشرك، فكان أكثر أيامهما الشرك بالله، فمحال أن يشبههما بهما».

قال يحيي: و قد روي أيضا «أنهما سيدا كهول أهل الجنة». فما تقول فيه؟

فقال عليه السلام: «و هذا الخبر محال أيضا: لأن أهل الجنة كلهم يكونون شبابا و لا يكون فيهم كهل، و هذا الخبر وضعه بنوامية؛ لمضادة الخبر الذي قاله رسول الله صلي الله عليه و آله في الحسن و الحسين عليهماالسلام بأنهما سيدا شباب أهل الجنة».

فقال يحيي بن أكثم: و روي: «أن عمر بن الخطاب سراج أهل الجنة».

فقال عليه السلام: «و هذا أيضا محال؛ لأن في الجنة ملائكة الله المقربين، و آدم و محمد، و جميع الأنبياء و المرسلين لا تضي ء الجنة بأنوارهم حتي تضي ء بنور عمر؟!».

فقال يحيي: روي: «أن السكينة تنطق علي لسان عمر».

فقال عليه السلام: (لست بمنكر فضل عمر، ولكن أبابكر أفضل من عمر، فقال علي رأس المنبر: ان لي شيطانا يعتريني، فاذا ملت فسددوني».

فقال يحيي: قد روي: أن النبي صلي الله عليه و آله قال: «لو لم ابعث لبعث عمر».

فقال عليه السلام: «كتاب الله أصدق من هذا الحديث، يقول الله في كتابه: (و اذ أخذنا من النبيين ميثاقهم و منك و من نوح) [3] فقد أخذ الله ميثاق النبيين فكيف يمكن أن يبدل ميثاقه؟! و كل الأنبياء عليهم السلام لم يشركوا بالله طرفة عين فكيف يبعث بالنبوة من أشرك و كان أكثر أيامه مع الشرك بالله؟! و قال رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم: نبئت و آدم بين الروح و الجسد».



[ صفحه 88]



فقال يحيي بن أكثم: «و قد روي أيضا: أن النبي صلي الله عليه و آله قال: «ما احتبس عني الوحي قط الا ظننته قد نزل علي آل الخطاب».

فقال عليه السلام: «و هذا محال أيضا: لأنه لا يجوز أن يشك النبي صلي الله عليه و آله في نبوته، قال الله تعالي: (الله يصطفي من الملائكة رسلا و من الناس) [4] ، فكيف يمكن أن تنتقل النبوة ممن اصطفاه الله تعالي الي من أشرك به؟!».

قال يحيي: روي أن النبي صلي الله عليه و آله قال: «لو نزل العذاب لما نجا منه الا عمر».

فقال عليه السلام: «و هذا محال أيضا: لأن الله تعالي يقول: (و ما كان الله ليعذبهم و أنت فيهم و ما كان الله معذبهم و هم يستغفرون) [5] فأخبر سبحانه أنه لا يعذب أحدا ما دام فيهم رسول الله صلي الله عليه و آله و ما داموا يستغفرون. [6] .

و لم يكن يحيي قد ألقي علي الامام الجواد عليه السلام هذه الأسئلة لمجرد كونها أسئلة نقلها يحيي عن الرواة ليقف علي الصحيح منها، بقدر ما هي محاولات استدراج استفز بها أباجعفر أمام المأمون، و أهل الحل و العقد من أصحاب القرار في الدولة العباسية يحضرون هذا الحوار... و لم يكن بوسع الامام السكوت عن كل ما طرحه يحيي، فالامام في طور التأسيس لمبتنيات أفقدتها السياسة حضورها، و همشت توجهاتها في خضم صراع سياسي تقليدي ألغي معها جميع الثوابت عند ذاك، و كان يحيي في موقع التنظير لنظرية الخلافة و التأصيل لتداعيات السقيفة حينما قدمت رجالاتها، دون أن يجد المسلمون اي فضل لأصحابها، و كان نظرية السقيفة حوصرت من قبل معارضة أهل البيت الصامتة، الا أنها كانت ناطقة بفضل أصحابها



[ صفحه 89]



و مقامات أهلها، و كانت تدين اولئك الذين تدافعوا علي مقام الخلافة بمحاولات الغلبة السياسية و مناوراتها... و لم يجد أتباعها بعد ذلك مندوحة من السكوت أو الغض عن كل ما يلمزه المتسائلون عن حقيقة الاستحقاق الذي دعا أهل السقيفة الي ترشيح أنفسهم، و دفع الآخرين بقوة السيف عن كل معارضة تطيح بمشروعهم هذا.

و وجد هؤلاء الأتباع أنهم تحت طائلة التساؤل الحثيث في تقديم رؤية عن قابليات أصحاب السقيفة، الذين أغلقوا الطريق علي كل أحد للوصول الي منصب الخلافة... فهم الآن مطالبون بوضع ملامح الصورة الجديدة لأصحاب السقيفة، و وضع رتوش التجميل حتي علي حساب المبادئ.. و هم اليوم أحوج الي ذلك من أي وقت كان بعد أن صار للمعارضة العلوية حضورها...

اذن فليكن يحيي و غير يحيي من أصحاب نظرية السقيفة أن يبرمجوا نظريتهم حديثيا، أي محاولة استيعاب الحديث النبوي لنظرية السقيفة علي أساس لون من ألوان الفضائل؛ و ليجدوا الحديث الآن حاضرا في قولبة نظرية السقيفة و حضورها ضمن مخططات رواة الحديث، و قصاري ما تجيب المعارضة العلوية في نظر هؤلاء: أن هذه الأحاديث موضوعة، و أقصر الطرق لرد المنكرين لهذه الأحاديث بأن هؤلاء لم يستطيعوا استيعاب هذه الفضائل حسدا منهم لأهل الشأن من السقيفيين الأوائل، و أهل السلف من الأصحاب، و بذلك فستكون في نظر يحيي و فريقه أجوبة المعارضة واهية لا تنفع شيئا..

و في غمرة هذه التمنيات التي توقعها هؤلاء تفاجؤهم أجوبة الامام الجواد بقرآنية الأدلة و سنن النبي صلي الله عليه و آله التي يتفق عليها الفريقان، أي كان للقرآن حضوره،



[ صفحه 90]



و صار الامام يحاكم هذه النصوص بآيات الكتاب، و لم تجد ليحيي بعد ذلك أية مشاركة علي صعيد الدفاع عن مبتنياته التي صاغها علي أساس الحديث النبوي فهو مجرد متلق لصناعات الاجابة بكل تسليم دون أن يقوي علي ردها أو انكارها علي الأقل، مما سجل هذا الحوار سببا في دفع نظرية الامامة الي تقدم واسع شهده المأمون و سمعه الآخرون، و لعل هذا الانتصار الرائع من مقتضيات نشر عقيدة آل البيت عليهم السلام في الأوساط السياسية المتشنجة ضدهم، و في الوقت نفسه كان هذا الانتصار داعيا كذلك للتآمر علي حياة الامام من قبل فقهاء الاغتيالات «الاسلامية»، أي التصفيات الجسدية للمعارضة و هي ترتدي لباسها الديني الفتوائي.


پاورقي

[1] ذكره الخطيب البغدادي في تاريخه هكذا عن ابن عمر، قال: كنت عند النبي صلي الله عليه و آله و عنده أبوبكر الصديق، عليه عباءة قد خلها علي صدره بخلال، فنزل عليه جبريل فقال: مالي أري أبابكر عليه عباءة قد خلها علي صدره بخلال؟ قال: أنفق ماله علي قبل الفتح. قال: فأقرئه عن الله السلام و قل له: يقول لك ربك: يا أبابكر، أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟ قال: فالتفت النبي صلي الله عليه و آله الي أبي بكر، فقال: يا أبابكر هذا جبريل يقرئك عن الله السلام، و يقول لك: أراض عني في فقرك هذا أم ساخط؟ قال: فبكي أبوبكر، و قال: أعلي ربي أسخط؟! أنا عن ربي راض، أنا عن ربي راض، أنا عن ربي راض. تاريخ بغداد للخطيب البغدادي: 2 / 6، و العجيب أن الخطيب سكت عما رواه مما يدل علي ارتضائه لهذه الأعاجيب.

[2] ق: 16.

[3] الأحزاب: 7.

[4] الحج: 75.

[5] الأنفال: 33.

[6] الاحتجاج للطبرسي: 2 / 480 - 477، ح 323، و عنه البحار: 50 / 80، ح 6.