بازگشت

الأحداث الحاسمة


و في صفر سنة (203 ه) كان الأجل موعده مع الامام الرضا عليه السلام بعد تصفية المأمون له، فرحل راضيا مرضيا، و كان «محمد» الثماني تنتظره وراثة أبيه في الامامة، فهو وحيده الذي تشخص اليه الأبصار، و ترمقه أنظار العامة و الخاصة، فمحمد اليوم يتصدي لمهمة السماء... و حداثة سنه تثير تساؤلات هؤلاء و تحفظات



[ صفحه 68]



اولئك... انها محنة التسليم كذلك لامامة مبكرة تستشعر معها محنة يحيي الذي شهد له القرآن: (و آتيناه الحكم صبيا) [1] ، و نوه عن عيسي و هو في مهده: (اني عبدالله آتاني الكتاب و جعلني نبيا) [2] فلا غرابة اذن لدي اولئك النفر الذين لم تغب عنهم ارادة الله في عباده الذين اصطفي و هدي منهم ليكونوا حججه البالغة..

في خضم هذه التجاذبات الفكرية بين أتباع الامام الجواد و بين مناوئيه يعلن المأمون دعوته للجواد بالمجي ء الي بغداد، و لم تكن تلك الدعوة الا ضريبة الظرف الخانق الذي يعيشه المأمون، فهو الآن محاصر بتهمة تصفية الامام الرضا، و آل علي عليهم السلام و من تبعهم لا يترددون في تهمة الخيانة التي ارتكبها المأمون في شأن الرضا، و هم اليوم يعيدون قواهم للاقتصاص من المأمون.

فبالأمس القريب استجابت ثوراتهم للهدوء بعد غليان لم يمهل العباسيين الا قتلا و تنكيلا، و كانت هدنتهم استجابة لظروف الامام الرضا الذي يتحمل مسؤولية هذه الثورات علي المستوي الرسمي و الامام تحرجه تحركات العلويين، فالمأمون لا يلقي باللائمة الا علي الرضا حينذاك، فكان العلويون أكثر تعقلا من أن يحرجوا الامام في ظرف كهذا، أما اليوم فلا معني للسكوت عن دم مهدور متهم فيه المأمون و نظامه، و لا يجد آل علي عليهم السلام غير النهوض بوجه عادية الغدر و الخيانة التي يمثلها نظام المأمون، هذا من جهة.

و من جهة اخري فان العباسيين يشعرون بالانقباض مما تصرف به المأمون، و قد خشي هؤلاء من ضياع ملكهم بعد ما أعلن المأمون أن للرضا ولاية العهد،



[ صفحه 69]



فكانت هواجس العباسيين تتجه نحو ملك أهدره المأمون بعمله هذا، فهم لا يرتضون بغير الاقتصاص منه ليرجعوا ملكا مضاعا و سلطنة مقطعة الأوصال.

هكذا كانت الأوضاع بعيد شهادة الامام الرضا عليه السلام و لم يكن مندوحة للمأمون غير أن يعيد الكرة ثانية مع الجواد، فالجواد الثماني من العمر لعله يفشل في خطة أبيه و يساعد المأمون في انجاح خطته، و المأمون يريد أن يعيد تجربته ليعوض ما خسره بالأمس. هذه هي هواجس المأمون الخائبة اذن..

و لم يكن للجواد مندوحة سوي القبول بعرض المأمون تحت طائلة ضغوط هي نفسها التي واجهها والده من قبل... و يحط الجواد رحله في بغداد الجولة الخطيرة من مهام امامته، فهو الآن يواجه عدوا قد أحسن اللعبة في التعامل مع الظروف الهائجة و التي تحيط به و بمصيره المجهول في ظل ما ينتظره من معارضتين قويتين: احداهما تقليدية محكمة تلك هي معارضة العلويين، و الأخري مستجدة متزلزلة تلك هي معارضة العباسيين. و بين المعارضتين بون شاسع من الرفض و القبول، أو من التمرد و السكوت، و بين المعارضتين رؤية الاختلاف، أو فقل: الخلاف كما هو بين أطروحتيهما المتناقضتين.

و لم تقنع المعارضتين بالذي يفعله المأمون من تقريب الجواد اليه، أو الأصح في الواقع: تقرب المأمون من الجواد ليقضي أمرا لا يخفي علي أحد منهم.

و لم يقتنع آل علي عليهم السلام بسياسة المأمون الجديدة، فهي لا تتعدي اسكات الخصوم و الاظهار بمظهر الحريص المتباكي علي حقوق أهل البيت، و لم تكن هذه الخديعة تستغفل العلويين حينذاك، فحسبهم ما كان من مصير الرضا علي يده، و ما ينتظر الجواد مصير أبيه.



[ صفحه 70]



فلم تهدأ للعلويين ثورة، و لا تحط لهم أوزار فورة، فثوراتهم ملأت أركان مملكة المأمون، فكان لصدي ثورة أبي السرايا و آثارها ما جعلت المأمون يعيش ذكرياتها المرعبة، و هواجسها المهددة له، و لسطوته علي أركان دولته، حتي كأن ثورته لا زالت تشحذ همم الثوريين من آل علي عليهم السلام.

فكانت حركة عبدالله بن جعفر بن ابراهيم بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام [3] ، و ثورة عبدالرحمن بن أحمد بن عبدالله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عليه السلام في اليمن، فبايعه خلق كثير. [4] .

و كان للقميين هياج و تمرد علي حكومة المأمون في سنة (210)، انتهت بثورة مسلحة تصدي لها المأمون بقيادة علي بن هشام و جيش آخر بقيادة عجيف بن عنبسة، و يبدو أنها صدي لتذمر القميين المعروفين بولائهم لآل علي عليهم السلام؛ جراء سياسة المأمون الطائشة مع الامام الرضا، و ان كان المؤرخون يجعلونها ثورة اقتصادية يدفعها كثرة الخراج الذي فرضه عليهم المأمون آنذاك. [5] .

ظروف حرجة اذن تحيط بالمأمون، و تكاد تطيح به لولا اجراءاته المشددة فضلا عن سياساته التي كان يسكت بها اولئك الثائرين، أو يهادنهم بعد ما أقدم اليه محمد بن الرضا و المأمون متهم بتصفية والده، و المأمون كذلك يتمتع بحصانة و لو ظاهرية من تفاهم المد الثوري لشيعة علي، فهو الآن عرف كيف يتعامل مع تلك الثورات المؤجلة، أو يهادن اولئك العلويين المسلحين الذين ما فتئوا يتربصون للمأمون و لأمثالهم من العباسيين.



[ صفحه 71]



و لم يكتف المأمون بتقريب «محمد» الي دار الخلافة، بل عمد الي تزويجه من ابنته ام الفضل، كما ذكر الطبري ذلك، و أرخ في سنة (202) زوج المأمون علي ابن موسي ابنته ام حبيب، و زوج محمد بن علي بن موسي ابنته ام الفضل. [6] .

و لا ترجيح فيما أرخه الطبري عندنا، اذ كان أبوجعفر في المدينة و كان له من العمر أقل من ثمان سنين، و لم يأت الي خراسان بعد. نعم، فلعله عزم في هذه السنة تزويج أبي جعفر من ابنته ام الفضل، اذ لم يكن للعباسيين رضا في مثل هذا التزويج، بل أثار ذلك حفيظتهم و أزعجهم أيما ازعاج، فان ذلك يعني مصاهرة سياسية غير محمودة لا يرتضيها بنوالعباس، فذلك ضياع لملكهم و تفريط في أمرهم، هكذا تصوروه.

و للمأمون خلاف ما يرونه في الظاهر اذا أراد أن يتقرب لآل علي عليه السلام و لفتاهم هذا الذي زق العلم زقا، و ورث ما كان لآبائه من الحظوة في العلم و الجلالة في القدر، و الخطر في الأمور، هكذا قدم المأمون أباجعفر لبني العباس، و حقيقة الأمر غير ما يدعيه من الحرص لأبي جعفر الجواد، فان للمأمون حنكة السياسة في ترتيب الامور، و غدرة المناور في دفع التهم، و ابعاد الخطر من معارضة العلويين الذين تحفزوا للثأر من المأمون الذي قتل الرضا غيلة.

و لعل زواج الجواد محمد من ابنة المأمون كانت مناورة جديدة يرتكبها المأمون. فلما أراد المأمون أن يزوج ابنته ام الفضل أباجعفر محمد بن علي عليهماالسلام بلغ ذلك العباسيين، فغلظ عليهم، و استنكروه منه، و خافوا أن ينتهي الأمر معه الي ما ينتهي مع الرضا عليه السلام، فخاضوا في ذلك، و اجتمع منهم أهل بيته الأدنون منه، فقالوا:



[ صفحه 72]



ننشدك الله يا أميرالمؤمنين أن تقيم علي هذا الأمر الذي عزمت عليه من تزويج ابن الرضا، فانا نخاف أن يخرج به عنا أمر قد ملكناه الله عزوجل و ينزع منا عزا قد ألبسناه الله و قد عرفت ما بيننا و بين هؤلاء القوم قديما و حديثا، و ما كان عليه الخلفاء الراشدون قبلك من تبعيدهم و التصغير بهم، و قد كنا في وهلة من عملك مع الرضا ما عملت فكفانا الله المهم من ذلك فالله الله أن تردنا علي غم قد انحسر عنا، و اصرف رأيك عن ابن الرضا، و اعدل الي من تراه من أهل بيتك يصلح لذلك دون غيره.

فقال لهم المأمون:

أما ما بينكم و بين آل أبي طالب فأنتم السبب فيه، و لو أنصفتم القوم لكانوا أولي لكم. و أما ما كان يفعله من قبلي بهم فقد كان قاطعا للرحم.

ما كان مني من استخلاف الرضا، و لقد سألته أن يقوم بالأمر و أنزعه من نفسي فأبي، و كان أمر الله قدرا مقدورا.


پاورقي

[1] مريم: 12.

[2] مريم: 30.

[3] مقاتل الطالبيين: 453.

[4] المجدي في أنساب الطالبيين: 295.

[5] راجع تاريخ الطبري: 7 / 184.

[6] تاريخ الطبري: 149.