بازگشت

الامام في حكم المأمون


امتدت أصابع الاتهام مشرئبة نحو المأمون باغتيال الامام علي بن موسي الرضا (عليه السلام) و كان يبرأ من ذلك، و يظهر الحزن و الجزع علي الامام، و يذكره بالخير و الثناء العاطر، و تلك أساليب السلاطين في المكر و الدهاء السياسي.

و في محاولة للمأمون من أجل التغطية علي هذا الحدث المرعب، وجدناه يحكم أمره في تضليل القائلين بقتله الامام الرضا (عليه السلام) فمضافا الي مظاهر الأسي المفتعل علي الامام، فقد استدعي ولده الامام الجواد (عليه السلام) الي بغداد، و أنزله قريبا من قصر الخلافة، و أظهر بره و الاحسان اليه، و بالغ في اكرامه مكرا و تصنعا ليبدد من حوله تلك السحب الغائمة في قضية اتهامه باغتيال أبيه، و أبقاه معه في بغداد ما شاء، و حينما بلغ سن الزواج زوجه بابنته أم الفضل، و أجري عليه راتبا مجزيا، و تلك سياسية ايجابية تجاه التدبر السلبي المبيت للامام محمد الجواد (عليه السلام)، فكانت مراقبته سريه، و تتبع نشاطه الديني قد أحيط بالكتمان، و هو يصل الي المأمون أولا بأول، فغض عن ذلك الطرف و قابله بالصبر.

ولدي مكث الامام محمد الجواد (عليه السلام)، في بغداد استطاع أن يجمع حوله كوكبة من أصحابه و أمدهم بالأحاديث و الروايات التي توضح لهم معالم الدين و قد يكون اتصال بعضهم بالامام مباشرة،



[ صفحه 66]



و يروي عنه مشافهة و قد يكون ذلك عن طريق المكاتبة و تسلم الجواب، علي أن ذلك كان بحدود، الا أن مجالس المناظرة و المحاورة التي أعدت للامام الجواد (عليه السلام)، أكسبته شهرة مدوية في الوسط العلمي، و قداسته و هديه جعلاه في مصف الأولياء الذين لا خوف عليهم و لا هم يحزنون.

و كان للمجتمع أن يقارن بين سيرة الامام و معارفه، و بين سيرة المأمون و فراغه العقائدي، و قد مر فيما سبق في كتابنا (الامام علي الرضا / قيادة الأمة و ولاية العهد)، القاء جزء من الأضواء علي حياة المأمون العابثة و شمائله المتقلبة بين التظاهر بالورع جزافا، و بين الانحدار في مزالق الشهوات انجذابا، و هو علي ما هو عليه من المنصب المدعي ظلما و بهتانا، كان يخالفه الي السقطات في سلوكه، فقد ولع بالغناء و الموسيقي ولعا خاصا، و قرب أبا اسحاق الموصلي كبير العازفين و زعيم المغنين في العراق، و ذكره بالقول:

«كان لا يغني أبدا الا و تذهب عني و ساوسي المتزايدة من الشيطان» [1] .

و كان هذا مما يجلب عليه السخرية و يغري به المستهزئين، فالغناء من أسلحة الشيطان فكيف يذهب بوساوس الشيطان.

و لم يكن هنا لك شي ء من الملاهي أحب الي المأمون من الشطرنج، فقد ولع به. [2] .



[ صفحه 67]



و قد وصف لعبة الشطرنج وصفا دقيقا ذكرها الأبشيهي [3] .

و الي جانب هذا اللهو، يضيف اليه العبث الماجن الخليع، فتراه في عيد الشعانين أحد أعياد النصاري و بين يديه عشرون و صيفة جلبت، و هن روميات مزنرات قد تزين بالديباج الرومي و علقن في أعناقهن صلبان الذهب، و في أيديهن الخوص و الزيتون و كان يقول فيهن الشعر و يغني به، (فلم يزل يشرب و ترقص الوصائف بين يديه أنواع الرقص) [4] .

و ثمة مظاهر أخري من اللهو تتمثل في تهارش الديوك و الكلاب [5] .

و عرف باللعب بالميسر حتي انتشر ذلك في حانات الفقراء [6] .

أما الاسراف في المأكل و المشرب فحدث و لا حرج، ففي بعض الوثائق عن جعفر بن محمد الأنماطي أنه تغدي عند المأمون، فوضع علي المائدة ثلاث مائة نوع من الطعام. [7] .

و قد عقب الدكتور صالح أحمد العلي علي ذلك بأنه نظرا لتعدد ألوان الطعام فقد فسدت أسنانهم مما اضطرهم الي شدها بالذهب للعلاج. [8] .



[ صفحه 68]



و كانت اللامبالاة في مقدرات الأمة من صفات المأمون الأساسية فقد ترك أحد وزرائه ما يقرب من ثمانية ملايين دينار ذهبا بعد وفاته، فأخبر بذلك المأمون في رقعة فكتب عليها: (هذا قليل لمن اتصل بنا، و طالت خدمته لنا، فبارك الله لولده فيه) [9] .

و في هذا اغراء بنهب المال و استدعاه للناس بالانخراط في سلك موظفي البلاط العباسي ليحصلوا علي مثل هذه المكاسب التي كانت تفوق حد الثراء بل الثراء الفاحش.

و أخبار المأمون في الاسراف لا تقف عند حد، و ما صنع في زواجه ببوران بنت الحسن بن سهل، قد ناف علي مظاهر السرف في كل شي ء، هبات و عطايا، و اقطاع أراضي، و نثر بنادق العنبر و فيها الرقاع و الصكوك و المنح و الأعطيات الضخمة، بما ألمحنا اليه في حياة المأمون بعصر الامام الرضا (عليه السلام)، و بما أورده الطبري و ابن الأثير و سواهما في لمحات التأريخ، و الي جانب هذا اللهو المشين و التبذير المحرم كان المأمون معروفا بالشدة و الغلظة و حب الانتقام، و ان تظاهر بالعفو و الرحمة، فقد غدر بالفضل بن سهل بعد أن مهد له الأمور، و قد ضحي بقواد الجيش و زعماء العسكر بعد أن ضبطوا له الدولة، و قد قتل الامام الرضا (عليه السلام) بالسم و في يده، و قد أمر ولاته و عماله بقتل العلويين تحت كل حجر و مدر، و كان قتله لأخيه الأمين بداية للترويع السياسي الذي أنكره عليه حتي العباسيون، و كان بعد كل هذه الجرائر يبدو و كأنه الحمل الوديع



[ صفحه 69]



طيبة و سلوكا، فيعفو عن هذا، و يمسك عن ذاك و يتقرب لسواهما، حتي اذا واتته الفرصة بطش بطش الجبارين.

و الأغرب من هذا أن يدعي المأمون التشيع تارة، و يتأزر بمئزر الخلافة الشرعية تارة أخري، و هو يتجاهر بالكبائر و يقترف المحرمات علي رؤوس الأشهاد، و من أطرفها استهتارا بالدين، و هتكا لحرمة شهر رمضان لدي زواجه ببوران سنة عشر و مأتين من الهجرة فقد أفطر الخليفة (هو و الحسن بن سهل و العباس... حتي اذا فرغوا من الافطار و غسلوا أيديهم فدعا المأمون بشراب فأتي بجام ذهب، و صب فيه و شرب، و مد يده بجام فيه شراب الي الحسن، فتباطأ عنه الحسن لأنه لم يكن يشرب قبل ذلك، فغمز دينار بن عبد الحسن فقال له الحسن:

يا أميرالمؤمنين؟ اشربه باذنك و أمرك؟

فقال له المأمون: لو لا أمري لم امدد يدي اليك. فأخذ الجام و شربه) [10] .

فما عسي أن تقول في خليفة يأمر وزيره في رمضان بتناول الخمرة و الوزير يتعفف عن ذلك؟

و قد قضي الامام الجواد (عليه السلام) زهرة أيامه في حياته مع المأمون منذ استشهاد أبيه الرضا عام ثلاثة و مائتين من الهجرة حتي وفاة المأمون يوم الخميس لثلاث عشر ليلة بقيت من رجب عام ثمانية عشر بعد المائتين من الهجرة.



[ صفحه 70]



و أعاد المأمون خلال هذه الحقبة سيرته الدبلوماسية مع الامام محمد الجواد (عليه السلام)، و اغترف بيد مستطيلة من دهائه السياسي المعروف، فمال في مسلكيته مع الامام الي الوادعة و الموادعة و اظهار الحب و الاحترام، مما أغاظ بني العباس، و قد غاص سهمه في الأعماق.

و قد أخذ المؤرخون هذا العطف المغلف و التخطيط المبرمج علي أنه ظاهرة من ظواهر التبجيل و التعظيم للامام، و ذلك لما ظهر له (من فضله و علمه و كمال عظمته و ظهور برهانه مع صغر سنه) [11] .

و الأكثر من هذا أن سبط ابن الجوزي قد لمس من اعجاب المأمون بالامام أن فكر بأن يعهد الي ابن الرضا بولاية العهد، و منعه من ذلك شغب بني العباس عليه، و خشيته من الفتنة و النزاع الذي قد يؤدي الي خروج الأمر من يد بني العباس و بني علي كليهما بسبب الاختلاف [12] .

و قد نظر الشيخ المفيد «قدس سره» الي الأمر علي ظاهره فقال:

«كان المأمون قد شغف بأبي جعفر (عليه السلام) لما رأي فضله مغ صغر سنه، و بلوغه في العلم و الحكمة و الأدب و كمال الفضل ما لم يساوه فيه أحد من مشايخ أهل الزمان... و كان متوافرا علي اكرامه و تعظيمه و اجلال قدره» [13] .

و البحث لا يستبعد علي المأمون انتهاج هذه السياسة، فهي سليمة، له نفعها و عليه درها، و هو غير آسف علي ما فعل من التكريم الظاهري،



[ صفحه 71]



فله مخططه الخاص الذي ينفذ فيه لأغراضه، فضلا عن اسدال الستار - و لو جزئيا - علي الماضي القريب و قد وجهت اليه التهمة علنا باغتيال الامام الرضا (عليه السلام) فما ضره من دفع الشبهات عنه بالمصافحة و الاصهار في السياسة لا يخشي عليه منها.

و كانت البداية في اللقاء بين الامام و المأمون ما أشار اليه المسعودي صراحة أن المأمون لدي استقراره ببغداد، و تهدئة الفتنة استدعي الامام محمد الجواد من المدينة المنورة الي بغداد، و أنزله بالقرب من داره. [14] .

و انزال الامام قرب دار المأمون يعني رصد التحركات، و احصاء الأولياء و الأتباع، و الرقابة الدقيقة الفاحصة، و النظر في أمر الامام محمد الجواد من كل زواياه و وجوهه، اذ لم يكن المأمون مغفلا بحيث يترك الامام في حرية مطلقة و هو يري نصف الامة تقول بامامته و أولويته بمنصب الخلافة الشرعية للمؤهلات و الهدي و العلم الخارق.

أما ما يروي بأن لقاء المأمون بالامام محمد الجواد كان من خلال مرور المأمون ببعض أزقة بغداد، و كان الصبيان يلعبون و الامام يقف معهم!! فلما شاهدوا موكب المأمون تركوا لعبهم و فروا، باستثناء الامام محمد الجواد الذي بقي في مكانه و لم يفر معهم، مما أثار تعجب المأمون، فتساءل عنه أو سأله فعرفه. [15] .

فموضوع لا أصل له من عدة جهات:



[ صفحه 72]



1- متي أتاحت مشاغل الامامة و النهوض بالأمر فرصته للامام الجواد أن يلعب أو يقف مع الصبيان؟؟

2- كيف يعقل أن المأمون لا يعرف الامام الجواد؟ و قد استدعاه الي بغداد! و من ثم يسأل عنه فاذا علم به أعجب فيه!!

3- أين الامام الجواد من الأزقة و الشوارع و قد احتفلت به الدواوين ببغداد علما و فقاهة و احتجاجا!!

و الأمر الذي لا نشك فيه أن المأمون رأي سياسيا أن يبدد ما تراكم من ضبابية موقفه من الامام الرضا (عليه السلام)، فعزم علي العودة من جديد الي سياسة المراوغة و الموازنة بين الأحداث فتظاهر باعادة الصلات المنبثة بين العباسيين و أهل البيت، و مهد لذلك بتقريب الامام محمد الجواد(عليه السلام)، و التحدث عن قابلياته و مواهبه، و من ثم قراره بتزويج الامام من ابنته أم الفضل، حتي تناهي الخبر الي بني العباس فأنكروا ذلك، و خافوا أن ينتهي الأمر معه الي ما انتهي للامام الرضا عليه السلام، فخاضوا في ذلك، و قالوا للمأمون:

(ننشدك الله يا أميرالمؤمنين أن تقيم علي هذا الأمر الذي عزمت عليه من تزويج ابن الرضا، فانا نخاف أن يخرج به عنا أمر قد ملكنا الله عزوجل و ينزع منا عزا قد ألبسناه الله، و قد عرفت ما بيننا و بين هؤلاء القوم قديما و حديثا، و ما كان عليه الخلفاء الراشدون قبلك من تبعيدهم و التصغير بهم، و قد كنا في وهلة من عملك مع الرضا (عليه السلام) ما عملت، فكفانا الله المهم من ذلك، فالله الله أن تردنا



[ صفحه 73]



الي غم قد انحسر عنا و اصرف رأيك عن ابن الرضا، و اعدل الي من تراه من أهل بيتك ليصلح لذلك دون غيره!!

فقال لهم المأمون: أما ما بينكم و بين آل أبي طالب فأنتم السبب فيه، و لو أنصفتم القوم لكانوا أولي بكم، و أما ما كان يفعله من قبلي بهم، فقد كان قاطعا للرحم و أعوذ بالله من ذلك، و الله ما ندمت علي ما كان مني من استخلاف الرضا (عليه السلام)، و لقد سألته أن يقوم بالأمر و انزعه من نفسي فأبي، و كان أمر الله قدرا مقدورا.

و أما أبوجعفر محمد بن علي فقد اخترته لتبريزه علي كافة أهل الفضل في العلم و الفضل، مع صفر سنه، و الأعجوبة فيه بذلك، و أنا أرجو أن يظهر للناس ما قد عرفته منه، فيعلمون أن الرأي ما رأيت فيه!!

فقالوا له: ان هذا الفتي و ان راقك منه هديه، فانه صبي لا معرفة له و لا فقه، فأمهله حتي يتأدب ثم اصنع ما تراه بعد ذلك!! فقال لهم: و يحكم أني أعرف بهذا الفتي منكم!!

و ان أهل هذا البيت علمهم من الله تعالي و مواده و الهامه، لم تزل آباؤه أغنياء في علم الدين و الأدب عن الرعايا الناقصة عن حد الكمال، فان شئتم فامتحنوا أبا جعفر بما يتبين لكم به ما وصفت لكم من حاله.

قالوا: قد رضينا لك يا أميرالمؤمنين و لأنفسنا بامتحانه، فخل بيننا و بينه لننصب من يسأله بحضرتك عن شي ء من فقه الشريعة، فان أصاب في الجواب عنه لم يكن اعتراض في أمره، و ظهر للخاصة و العامة سديد



[ صفحه 74]



الرأي أميرالمؤمنين فيه، و ان عجز عن ذلك فقد كفينا الخطب في معناه، فقال لهم المأمون: شأنكم و ذلك متي أردتم!! فخرجوا من عنده و اجتمع رأيهم علي مسألة يحيي بن أكثم و هو يومئذ قاضي الزمان علي أن يسأله مسألة لا يعرف الجواب فيها، و وعدوه بأموال نفيسة علي ذلك، و عادوا الي المأمون و سألوا أن يختار لهم يوما للاجتماع فأجابهم الي ذلك.

و جرت الأسئلة علي رسلها، و اعترض الامام عليها و طلب من ابن أكثم الرد علي اشكالياته و تحير يحيي بما سنذكره في موضعه) [16] .

و مهما يكن من أمر، قال المأمون بعد انتصار الامام الجواد:

(الحمد لله علي هذه النعمة و التوفيق لي في الرأي... ثم أقبل علي الامام (عليه السلام) فقال له: أخطب لنفسك، فقد رضيتك لنفسي، و ان رغم قوم ذلك، فقال أبو جعفر (عليه السلام):

(الحمد لله اقرارا بنعمته، و لا اله الا الله أخلاصا لوحدانيته، و صلي الله علي محمد سيد بريته، و الأصفياء عترته، أما بعد:

فقد كان من فضل الله علي الأنام أن أغناهم بالحلال عن الحرام و قال سبحانه: (و أنكحوا الأيامي منكم و الصالحين من عبادكم و امائكم ان يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله و الله واسع عليم) [17] .



[ صفحه 75]



ثم أن محمد بن علي بن موسي يخطب أم الفضل بنت عبدالله المأمون، و قد بذل لها من الصداق مهر جدته فاطمة بنت محمد عليهماالسلام، و هو خمسمائة درهم جيادا؛ فهل زوجتني يا أميرالمؤمنين علي الصداق المذكور؟

قال المأمون: نعم قد زوجتك يا أبا جعفر ابنتي علي هذا الصداق المذكور، فهل قبلت النكاح؟

فقال أبو جعفر (عليه السلام): و قد قبلت ذلك رضيت به.

فأمر المأمون: أن يقعد للناس علي مراتبهم الخاصة و العامة. [18] .

و كان الشيخ الصدوق من ذي قبل قد روي خطبة الزواج بصيغة أخري، قال:

لما تزوج أبوجعفر محمد بن علي الرضا (عليه السلام)، ابنة المأمون خطب لنفسه فقال:

«الحمد لله متمم النعم برحمته، و الهادي الي شكره بمنه، و صلي الله علي محمد خير خلقه، الذي جمع فيه من الفضل ما فرقه في الرسل قبله، و جعل تراثه الي من خصه بخلافته، و سلم تسليما:

و هذا أميرالمؤمنين زوجني ابنته علي ما فرض الله عزوجل للمسلمات علي المؤمنين، من امساك بالمعروف، أو تسريح باحسان، و بذلك لها من الصداق ما بذله رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) لأزواجه و هو: اثنتا



[ صفحه 76]



عشر أوقية و نش (نصف) و علي تمام الخمسمائة، و قد بجلتها من مالي مائة ألف. زوجتني يا أميرالمؤمنين؟

قال: بلي. قال: قبلت و رضيت» [19] .

قال الريان: و لم نلبث أن سمعنا أصوات تشبه أصواب الملاحين في محاوراتهم، فاذا الخدم يجرون سفينة مصنوعة من الفضة مشدودة بالحبال من الابريسم علي عجل مملوءة من الغالية. فأمر المأمون أن يخضب لحاء الخاصة من تلك الغالية، ثم مدت الي دار العامة فطيبوا منها.

و وضعت الموائد فأكل الناس و خرجت الجوائز الي كل قوم علي قدرهم. [20] .

قال الشيخ المفيد و المسعودي و ابن شعبة و ابن شهرآشوب، و الطبرسي مع الاختلاف البسيط:

«فلما كان من الغد حضر الناس، و حضر أبو جعفر (عليه السلام)، و صار القواد و الحجاب و الخاصة و العامة لتهنئة المأمون و أبي جعفر (عليه السلام)، فأخرجت ثلاثة أطباق من الفضة فيها بنادق مسك و زعفران معجون في أجواف تلك البنادق رقاع مكتوب عليها بأموال جزيلة و عطايا سنية و اقطاعات فأمر المأمون بنثرها علي القوم في خاصته، فكان من وقع في يده بندقه أخرج الرقة التي فيها و التمسه فأطلق له، و وضعت البدر، ففرق ما فيها علي القواد و غيرهم.



[ صفحه 77]



و انصرف الناس و هم أغنياء بالجوائز و العطايا، و تقدم المأمون بالصدقة علي كافة المساكين» [21] .

و استبشر فريق من أولياء أهل البيت بهذا الزواج حتي قال أبوهاشم الجعفري للامام محمد الجواد (عليه السلام):

(يا مولاي لقد عظمت علينا بركة هذا اليوم!!

فقال: يا أباهاشم، بركات الله علينا فيه.

قلت: نعم يامولاي؛ فما أقول في اليوم؟

فقال: تقول فيه خيرا فانه يصيبك.

قلت: يا مولاي أفعل هذا و لا أخالفه.

قال: اذا ترشد و لا تري الا خيرا) [22] .

و مهما يكن من أمر، فقد تحقق هذا الزواج لدوافع خفية و أخري ظاهرية، فقد ادعي المأمون في أسباب هذا الزواج أمرا بريئا و سببا و جيها في ظاهره، فقال:

«اني أحببت أن أكون جدا لمرء ولده رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)، و علي بن أبي طالب (عليه السلام)» [23] .

و يميل الأستاذ باقر شريف القرشي الي أن المأمون حاول الوقوف علي نشاط الامام الجواد (عليه السلام)، و الاحاطة باتجاهاته السياسية، و معرفة



[ صفحه 78]



العناصر الموالية له و القائلة بامامته، و ذلك من طريق ابنته التي ستكون زوجة له.

و أردف قائلا: (لعل من أهم الأسباب و أكثرها خطورة أن المأمون حاول من هذه المصاهرة جر الامام الي ميادين اللهو اللعب ليهدم بذلك صرح الامامة الذي تدين به الشيعة، و الذي كان من أهم بنوده و عصمة الامام و امتناعه من اقتراب أي ذنب عمدا كان أم سهوا، و كان من الطبيعي أن يفشل في ذلك، فان الامام (عليه السلام) لم يتجاوب معه بأي شكل من الأشكال) [24] .

و هذا الافتراض ليس من السهل علي المأمون الجراءة عليه، أو التفكير به علي الاطلاق فيما نعتقد، فالمأمون أعلم الناس بورع الامام و تقواه، و هو الخبير الستراتيجي بما عليه شأن الأئمة المعصومين (عليه السلام)، و ان احتال علي الامام بكل حيلة فلم يمكنه فيه شي ء علي حد تعبير الشيخ الكليني. [25] .

ولدي زواج الامام محمد الجواد (عليه السلام) في بغداد، عزم علي السفر الي مسقط رأسه: المدينة المنورة، فانصرف عن بغداد و صار الي شارع باب الكوفة، و معه الناس يشيعونه، فانتهي الي دار المسيب عند مغيب الشمس فنزل و دخل المسجد و كان في صحنه نبقة لم تحمل بعد، فدعا بكوز فيه ماء، فتوضأ في أصل النبقة، و قام (عليه السلام) و صلي بالناس صلاة المغرب، فقرأ في الأولي منها: الحمد و اذا جاء نصر الله، و قرأ في الثانية



[ صفحه 79]



الحمد و قل هو الله أحد، و قنت قبل ركوعه فيها، و صلي الثالثة و تشهد و سلم، ثم جلس هنيئة يذكر الله جل اسمه، و قام من غير أن يعقب فصلي النوافل أربع ركعات، و عقب تعقيبها، و سجد سجدتي الشكر ثم خرج، فلما انتهي الي النبقة رآها الناس و قد حملت حملا حسنا، فتعجبوا من ذلك و أكلوا منه فوجدوا نبقا حلوا لا عجم فيه و ودعوه و مضي من وقته الي المدينة. [26] .

و رأي الطبري أن خروج الامام الجواد (عليه السلام) من بغداد كان أيام الحج فقصد مكة المكرمة حاجا، ثم أتي منزله بالمدينة. [27] .

(انه لم يتعرض أحد خاصة الامام التقي - يعني الجواد - فلم يوقف أو يزعج طول مدة حكم المأمون) [28] .

بينما ذهب الشيخ المفيد الي أكثر من هذا، فاعتبر المأمون:

(لم يزل مكرما لأبي جعفر (عليه السلام)، معظما لقدره مدة حياته، يؤثره علي ولده و جماعة من أهل بيته) [29] .

و لكن العلاقة بين الامام محمد الجواد (عليه السلام) و زوجته أم الفضل لم تكن علي ما يرام، فقد اعتادت حياة باذخة مسرفة في ظل القصور



[ صفحه 80]



و مرافق السلطان، و اذ بها تحيا حياة جديدة من الورع و الزهد و التقوي، فاختلف عليها المناخ النفسي و الأسري، و بدأت تشكو لأبيها علاقتها بالامام.

قال الشيخ المفيد قدس سره:

«و قد روي الناس أن أم الفضل كتبت الي أبيها تشكو أبا جعفر عليه السلام و تقول: انه يتسري عليه و يغيرني.

فكتب اليها المأمون: يا بنية انا لم نزوجك أبا جعفر لنحرم عليه حلالا، فلا تعاودي لذكر ما ذكرت بعدها» [30] .

فامتنعت أم الفضل عن مخاطبة أبيها بشي ء من أمر الامام، و لم ترزق منه الذرية فتأصلت عقدتها النفسية، و لم يكن زواجها من الامام خالصا من الأوشاب و لم نجد علاقتها بريئة من الامام، فأقدمت علي سمه كما ستري.

و مهما يكن من أمر فقد رأيت حياة الامام في حكم المأمون، و بقي الامام و انتهت حياة المأمون بطرطوس احدي أعمال الشام عن تسعة و أربعين عاما و ذلك في سنة 218 ه.



[ صفحه 81]




پاورقي

[1] ظ / الحضارة العربية / جاك. س. ريسلر / 108.

[2] ظ: ابن عبد ربه / العقد الفريد / 3 / 254.

[3] الأبشيهي / المستطرف / 2 / 306.

[4] أبوالفرج الأصبهاني / الأغاني / 19 / 138.

[5] ظ: المصدر نفسه / 6 / 75.

[6] الدميري / حياة الحيوان / 5 / 115.

[7] ظ: طيفور / تأريخ بغداد / 36.

[8] ظ: باقر شريف القرشي / حياة الامام محمد الجواد / 225 عن التنظيمات الاجتماعية و الاقتصادية / 177.

[9] محمد كرد علي / الاسلام و الحضارة العربية / 2 / 231.

[10] ظ: الطبري / التأريخ / 8 / 578، 8 / 656، الأصبهاني / الأغاني / 10 / 130، 161، 164.

[11] ابن حجر / الصواعق المحرقة / 123.

[12] ظ: سبط ابن الجوزي / تذكرة الخواص / 366 - 365.

[13] المفيد / الارشاد / 359.

[14] ظ: المسعودي / اثبات الوصية / 186.

[15] ظ: ابن الصباغ / الفصول المهمة / 248، ابن شهرآشوب / المناقب / 2 / 433، ابن طلحة الشافعي / مطالب السؤول / 2 / 74.

[16] ظ: المسعودي / اثبات الوصية / 189 - 187، المفيد / الارشاد / 360 -359، الطبرسي الاحتجاج 229 - 227، ابن شعبة / تحف العقول / 338 - 335، المجلسي / بحارالأنوار / 50 / 75 - 74.

[17] سورة النور. 32.

[18] ظ: المفيد / الارشاد / 361 - 362، الطبرسي الاحتجاج 2 / 475.

[19] الصدوق / من لا يحضره الفقيه / 3 / 252.

[20] المفيد / الارشاد / 362، المجلسي / بحارالأنوار / 50 / 77.

[21] ظ: المفيد / الارشاد / 364، المسعودي / اثبات الوصية / 189، ابن شعبة / تحف العقول 338، الطبرسي / الاحتجاج / 477.

[22] ابن شعبة / تحف العقول / 479 / المطبعة الاسلامية.

[23] اليعقوبي / تاريخ اليعقوبي / 3 / 182.

[24] باقر شريف القرشي / حياة الامام محمد الجواد / 238.

[25] ظ: الكليني / أصول الكافي / 1 / 494.

[26] ظ: المفيد / الارشاد / 364.

[27] ظ: الطبري / تاريخ الامام و الملوك / 8 / 623.

[28] دونالدسن / عقيدة الشيعة / 202.

[29] المفيد / الارشاد / 33364.

[30] المصدر السابق.