بازگشت

الامام في تقييم الأعلام


عد المؤرخون لمسيرة الامام القيادية من خلال التجربة القائمة علي أسس الموازنة الموضوعية أن الامام أبرز رجال عصره عزة و كرامة و شهامة، و أوسع علماء جيله ثقافة و حضارة و معارف، و أشهر عظماء أمته علما و عملا و أصالة، و هو بهذه المميزات العالية يعتبر المؤهل الوحيد دون منازع لمنصب الامامة الشرعية، لتوافر الشرائط الأساسية فيه دون سواه، و اذا كانت أقلام الخلف هي ألسنة الصدق والتقييم و ادراك حقائق الأشياء، فقد ظفر الامام محمد الجواد (عليه السلام) بأجلها قدرا، و أسماها كعبا، و أروعها ذكرا، و أشرفها أثرا لدي جمهرة من الباحثين المستقلين، و ان لم يكن بحاجة الي ذلك و قد رفعه الله تعالي، و وهبه من القابليات الكريمة مما تجاوز الآفاق.

و اذا كان التأريخ الرسمي يدور في محور السلطان و زمرته الخاصة، و لا يخرج عن دائرة التسبيح بحمده، حتي حرفت الوقائع و شوهت صفحات التوثيق، فعاد تدوين الأمجاد الزائفة سجلا حافلا بما هب و درج من الأنباء المضخمة زورا و بهتانا، فان ما يخطه - و لو جزئيا - للحالات الصادقة يعتبر فتحا جديدا في ظواهر التاريخ المنحرف، و اذا تحدث عن أمجاد بناة الاسلام الحقيقيين، و أشاد بذكر هداة العباد و أئمة الرشاد فسيكون ذلك الحديث علي صدقه استثناء من القاعدة، و من خلال هذه الاستثناء الذي قد يتجسد نادرا لمسنا جزءا سليما من الشذرات الثمينة المتناثرة بأعماق هذا التاريخ و هي تروي بأمانة و حذر فضائل الامام محمد



[ صفحه 46]



الجواد (عليه السلام) و تؤكد سيرورة كرائمه النابضة بالحركة و الحيوية و تشير عن قرب الي مستوي شمائله النادرة.

و البحث اذ يورد بعض تلك الشذرات و قد غطي علي قسم منها شي ء من التصبيب المتعمد أو الاختزال المقصود بما يؤوله بعض الباحثين بقصر عمره و اخترام حياته بالغيلة و الغدر، فانما يورد ما وضع يده علي أفضلها ذكرا، و انسبها تعبيرا، و أيسرها و جودا، و ما خفي عنا من ذلك أكثر فأكثر، و ما كتمه المؤرخون أوسع مما أبا نوا عنه، و مع هذا و ذاك فما لا يدرك كله لا يترك كله، و هي قاعدة نلجأ اليها في مثل هذه الحالة التي تفرض ارهاصاتها فرضا، و تتنفس عن أبنائها بعد طول عنت و مخاض.

بادي ذي بدء نورد ما رواه الامام محمد الجواد نفسه، عن النحو الغيبي الذي سخره الله تعالي و يسره لأصفيائه من الأئمة المعصومين و هو أحدهم يقول الامام:

(قال أبو جعفر الباقر (عليه السلام):

ان الأوصياء محدثون، يحدثهم روح القدس و لا يرونه) [1] .

و الامام الجواد تاسع الأوصياء باجماع الامامية و رعيل كبير من جمهور المسلمين، و روح القدس هو جبرائيل (عليه السلام).

و ليس هذا بغريب علي عباد الله المخلصين فقد حدثت مريم بنت عمران من قبل روح القدس (فتمثل لها بشرا سويا) [2] .



[ صفحه 47]



(و اذا قالت الملائكة يا مريم ان الله اصطفاك و طهرك و اصطفاك علي نساء العالمين) [3] .

و كذلك (اذ قالت الملائكة يا مريم ان الله يبشرك بكلمة منه) [4] .

و كذلك أوحي الي أم موسي فقال تعالي فيما خاطب به موسي (عليه السلام): (اذ أوحينا الي أمك ما يوحي - أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم) [5] .

فاذا حدثت مريم ابنة عمران، و أوحي الي أم موسي بن عمران، فما المانع أن يحدث أوصياء محمد (صلي الله عليه و آله و سلم)، و هم بعد جدهم خير البشر.

و من هذا المنطلق القرآني قال الامام الرضا (عليه السلام) في حق ولده الامام الجواد: (كان أبوجعفر محدثا) [6] .

و هذه البداية الأولية ليست من التاريخ، و لكنها من التراث الذي ندين به، فاذا التمسنا المأثور التدويني وجدنا محمد بن طلحة الشافعي يقول:

«و أما مناقب أبي جعفر الجواد، فما اتسعت حلبات مجالها، و لا امتدت أوقات آجالها، بل قضت عليه الأقدار الالهية بقلة بقائه في الدنيا بحكمها و أسجالها، فقل في الدنيا مقامه، و عجل القدوم عليه لزيارة حمامه، فلم تطل بها مدته، و لا امتدت فيها أيامه» [7] .



[ صفحه 48]



و واضح أن ابن طلحة ينعي علي الأيام حكمها، اذ لم يتمتع الامام الجواد (عليه السلام) بطول العمر، و انما اختطف شهيدا في أول شبابه، و سجل ملامح له من القول المجتزئ.

و تحدث الصفدي عن الامام قائلا:

«كان محمد يلقب بالجواد و بالقانع و بالمرتضي، و كان من سروات آل بيت النبود... و كان من الموصوفين بالسخاء و لذلك لقب بالجواد» [8] .

و عزي أبو العيناء ابن الرضا عن أبيه (عليه السلام)، فقال:

«أنت تجل عن وصفنا، و نحن نقل عن عظتك، و في علم الله ما كفاك، و في ثواب الله ما عزاك» [9] .

و هي عبارات بليغة تحكي عند مدي منزلة الامام في النظر العام.

و قال عنه يوسف بن اسماعيل النبهاني:

«محمد الجواد بن علي الرضا أحد أكابر الأئمة و مصابيح الأمة، من ساداتنا أهل البيت» [10] .

و قال ابن تيمية:

«محمد بن علي الجواد كان من أعيان بني هاشم، و هو معروف بالسخاء لهذا سمي بالجواد». [11] .

و طبيعي من ابن تيمية أن يختزل ذكر الامام الجواد اختزالا، فهو معروف بوجهة نظره المعاكسة لمنهج أهل البيت عليهم السلام.



[ صفحه 49]



و قال ابن شهرآشوب، و هو يعدد ألقاب الامام و يثني علي مكانته:

«... الجواد، و العالم الرباني، ظاهر المعاني، قليل التواني، المعروف بأبي جعفر الثاني، المنتجب المرتضي، المتوشح بالرضا، المستسلم للقضا، له من الله أكثر الرضا، ابن الرضا، توارث الشرف كابرا عن كابر، و شهد له بهذا الصوامع، استسقي عروقه من منبع النبوة، و رضعت شجرته ثدي الرسالة، و تهدلت أغصانه ثمر الامامة» [12] .

و قال ابن الصباغ المالكي:

«الامام التاسع... عرف بأبي جعفر الثاني «و هو» و ان كان صغير السن، فهو رفيع الذكر، كبير القدر، القائم بالامامة بعد علي بن موسي الرضا» [13] .

و قال علي بن عيسي الأربلي:

«الجواد في كل أحواله جواد... فاق الناس بطهارة العنصر، و زكاء الميلاد، و امترع قلة العلاء فما قاربه أحد و لا كاد، مجده عالي المراتب، و مكانته الرفيعة تسمو علي الكواكب، و منصبه يشرف علي المناصب، اذا آنس الوفد نارا قالوا ليتها ناره لا نار غالب، الي المعالي سمو، و الي الشرف رواح و غدو، و في السيادة اغراق و غلو، و علي هام السماك ارتفاع و علو، و عن كل رذيلة بعد، و الي كل فضيلة دنو، تتأرج المكارم من أعطافه، و يقطر المجد من أطرافه، و تروي أخبار السماح عنه و عن أبنائه و أسلافه، فطوبي لمن سعي في ولائه، و الويل لمن رغب في خلافه، اذا اقتسمت غنائم المجد و المعالي و المفاخر كان له صفاياها، و اذا امتطيت غوارب السؤدد كان له أعلاها و أسماها، يباري الغيث



[ صفحه 50]



جودا و عطية، و يجاري الليث نجدة و حمية، و يبذ السير سيرة مرضية، فمن له أب كأبيه، أوجد كجده، فهو شريكهم في مجدهم، و هم شركائه في مجده، بهم اتضحت سبل الهدي، و بهم سلم من الردي، و بحبهم ترجي النجاة و الفوز غدا، و هم أهل المعروف أولوا الندي»... [14] .

و هنا نجد الأربلي يعطي مسحا شاملا لمساحة كبيرة من أمجاد الامام الجواد بصفاته و خلائقه و شمائله، و يثني علي ذكر معاليه و مكانته و سؤدده وجوده و كرمه، و يتحدث عن شرفه و محتده و مجده، و يعقب بذكر ولائه و حبه، و يشارف بالاشارة المعبرة الي مفاخره في سجاياه، و مآثره في آبائه و أسلافه، و يعرض لمقامهم الأسمي بعباراته المهذبة الموحية. و كان الشيخ المفيد قدس سره قد تحدث عن الامام محمد الجواد من ذي قبل، فقال:

«و كان المأمون قد شغف بأبي جعفر (عليه السلام) لما رأي من فضله مع صغر سنه، و بلوغه في العلم و الحكمة و الأدب و كمال العقل ما لم يساوه أحد من مشايخ أهل الزمان... و كان متوافرا علي اكرامه و تعظيمه و اجلال قدره» [15] .

و قد اتكأ عليه في هذا التقرير الطبرسي بما ذكره السيد الأمين:

(كان (عليه السلام) قد بلغ في وقته من الفضل و العلم و الحكمة و الآداب مع صغر سنه منزلة لم يساوه فيها أحد من ذوي الأسنان من السادة و غيرهم، و لذلك كان المأمون مشغوفا به لما رأي من علو مرتبته و عظيم منزلته في جميع الفضائل فزوجه ابنته، و كان متوافرا علي اعظامه و تبجيله» [16] .



[ صفحه 51]



و قال الأستاذ خير الدين الزركلي:

«محمد بن الرضا بن موسي الكاظم، الطالبي، الهاشمي، القرشي، أبوجعفر، الملقب بالجواد، تاسع الأئمة الاثني عشر عند الامامية، كان رفيع القدر كأسلافه ذكيا، طليق اللسان قوي البديهة» [17] .

و قال السيد محسن الأمين الحسيني العاملي:

«قد كان أفضل أهل زمانه علما، و عملا، و ورعا، و عبادة، و سخاء و كرما، و في جميع صفات الفضل، و قد روي عنه من أنواع العلوم و أجوبة المسائل المشكلة الشي ء الكثير» [18] .

و قال السيد هاشم معروف الحسني رحمه الله و هو يستعرض شذرات قيمة من حكم الامام و شوارده و أوابده:

«و قد أحاطت كلماته هذه بجميع الجوانب التي تشد الانسان الي الخلق الكريم و الأدب الرفيع و السلوك القويم و كل ما يرفع من شأن الانسان، و يوفر له السعادة و الكرامة في دنياه و آخرته، بهذا و نحوه من القيم و المبادئ وهب الأئمة من أهل البيت حياتهم و وجدوهم، و تحملوا كل أنواع العسف و الجور و التشريد من الحكام و الطغاة و رحلوا عن دنيا الناس بأجسادهم، و ظلوا فيها أحياء بسيرتهم و مبادئهم و تعاليمهم التي تلهم الأجيال كل معاني الخير و النبل و الفضيلة في كل زمان و مكان» [19] .

و تحدث الأستاذ باقر شريف القرشي عن الموقع النفسي للامام في ضمائر قواعده الشعبية من الجماهير المؤمنة فقال:



[ صفحه 52]



«و أحيط الامام محمد الجواد (عليه السلام) بهالة من الحفاوة و التكريم و قابلته جميع الأوساط بمزيد من الاكبار و التعظيم، فكانت تري في شخصيته امتدادا ذاتيا لآبائه العظام الذين حملوا مشعل الهداية و الخير الي الناس، الا أنه لم يحفل بتلك المظاهر التي أحيط بها و انما آثر الزهد في الدنيا، و التجرد عن جميع مباهجها... و اعتبره بحق: (من منابع الفكر و العلم في الاسلام، و أحد مفاخر هذه الأمة و قادتها الطليعيين و قد ملأ الدنيا بفضائله و علومه و زهده و تقواه» [20] .

و قال الأستاذ محمد حسن آل ياسين:

«انه ابن الأئمة المنتجبين، و سليل الأمناء الميامين، و أحد حلقات تلك السلسلة الذهبية المشار اليها بالبنان في تاريخ الاسلام، و قد دلتنا النصوص الثابتة التي تضمنتها كتبنا السابقة المعنية بسير آبائه الأكارم - و هم الصفوة المختارة من أهل الأرض علما، و دينا، و زهدا، و نقي، و هديا، و صلاحا، و سلوكا، و أخلافا - أنهم كانوا المؤهلين دون غيرهم باعتراف القريب و البعيد، و المؤالف و المخالف، للامامة الحقة، و ولاية الأمر الشرعية كما أرادها الله تعالي لعباده المؤمنين، و ان أولئك الذي تقمصوا الخلافة بالقوة و القهر أو بالخداع و المكر، أو بالاغراء و شراء الذمم، لم يكونوا خلفاء الرسول و أئمة الدين، و ان زعموا ذلك، لفقدانهم صفات التأهيل المقررة في مدونات الفقه الاسلامي و الأحكام السلطانية» [21] .



[ صفحه 55]




پاورقي

[1] ظ: المجمع العالمي لأهل البيت / الامام محمد بن علي الجواد / 31، و انظر مصدره.

[2] سورة مريم، 17.

[3] سورة آل عمران، 42.

[4] سورة آل عمران، 45.

[5] سورة طه، 39 - 38.

[6] المسعودي / اثبات الوصية / 212.

[7] ابن طلحة / مطالب السؤول / 2 / 74.

[8] الصفدي / الوافي بالوفيات / 4 / 105.

[9] ابن شهرآشوب / المناقب / 4 / 362.

[10] ظ: المجمع لأهل البيت / الامام محمد بن علي الجواد / 24 / من جامع كرامات الأولياء.

[11] ابن تيمية / منهاج السنة / 2 / 127.

[12] ابن شهرآشوب / المناقب 3 / 486.

[13] ابن الصباغ المالكي / الفصول المهمة 1035 / 2.

[14] الأربلي / كشف الغمة / 3 / 163.

[15] المفيد / الارشاد / 359.

[16] ظ: محسن الأمين الحسيني / المجالسي السنية / 5 / 464.

[17] الزركلي / الأعلام / 7 / 155.

[18] الأمين الحسيني العاملي / أعيان الشيعة / 4 / ق 3 / 225.

[19] هاشم معروف الحسني / سيرة الأئمة الاثني عشر / 4 / 464.

[20] باقر شريف القرشي / حياة الامام محمد الجواد / 1 / 12 و 17.

[21] محمد حسن آل ياسين / الامام محمد بن علي الجواد / 20.