بازگشت

خصائص الامام الانسانية


لا يختلف الامام محمد الجواد عن آبائه المعصومين في مميزاته و خصائصه و لا يتجاوزهم في مثله العليا في الزهد و التقوي و الانابة و الخلق الرصين العالي، فهو امتداد لهم و شجنة منهم، اشتدت أواصره بأواصرهم و اشتبكت جذوره بجذورهم، فهم كالحلقة المفرغة في أمهات الفضائل و أصول المواهب، فالخصائص بينهم مشتركة و المميزات متساوقة ولكنه اشتهر شهرة كبري مستفيضة بين أعدائه و أوليائه بالبر و الايثار و عرف بالكرم و السخاء المجرد عن الرياء و المن، و تسامي بوفرة العطاء و بسط اليد و لهذا سمي بالجواد. [1] .

فهو لقب خاص به، و سمة امتاز بها، و الأئمة (عليهم السلام) يشاركونه فيها كما يشاركهم في تلك الكنايات النادرة، و هذا الكتاب و ان نهد الي البحث في فكر الامام محمد الجواد و قيادته للأمة في صباه و ريعان الشباب كما هو الشأن في أجزاء (موسوعة أهل البيت الحضارية) بما صدر منها و ما سيصدر بأذن الله تعالي، فانها ركزت القول و عمقت الحديث عن أفكار الأئمة المعصومين و سلطت الضوء علي أبرز المعالم التي تغلب علي كل امام بحسب ظروفه الاجتماعية و ما سمح له الزمن من تجسيد للقيادة النضالية أو العلمية أو الحضارية أو السياسية أو الابداعية أو الريادية أو التنظيمية أو الدعائية أو الاعلامية و سوي ذلك



[ صفحه 26]



من الميادين الرفيعة التي خاض غمارها المعصومون بكل أصالة و موضوعية و انتقاء، و لكن هذا لا يعني أن تهمل بعض الجوانب الأساسية في المثل و القدوة و الاهتداء و سنن الوعي و الحياة و الجهاد بالمال، فلكل من هذه المفاهيم مصاديقها الحية النابضة في سيرة الأئمة الطاهرين، و هذا ما يشير أن البحث قد يعني باثبات شذرات من هذه الظواهر و ابداء لقطات من تلك المشاهد ليستدل من خلالها بما ذكر علي ما لم يذكر.

و من هذا المنطلق ارتأي البحث أن نقتصر بالحديث عن ظاهرة السخاء الذاتي و حياة الايثار في منظور تناول خصائص الامام من أنباء و طرائف و أساليب قد نلمس في بعضها نحوا من اللمح الغيبي في العطاء بقدر أو بغير سؤال، مما يضيف للمؤشر الاعجازي في مسيرة الامام بعدا جديدا يصطف في منظومة الرؤية الاعجازية لأبعاده التي سنقرؤها و تسمع فيما يأتي من البحث.

و ما سنذكره هنا لا يعدو كونه نماذج علي سبيل المثال لا الحصر، و ينبغي الالتفات في هذا الملحظ من السلوك الايثاري الكريم أن أباه الامام علي بن موسي الرضا (عليه السلام) كان يحضه علي البر و السخاء و الاحسان، و يحثه علي الاسراع في الخيرات، و يأمره بحمل المال معه حيثما سار أو اتجه لاسعاف ذوي الحاجة و الفاقة و تلبية صراخ المحرومين بنفحة من العطاء الجزل، و صلة الأرحام و ذوي القربي بما أجزي و أغني فعن محمد بن أحمد بن أبي نصر البزنطي، قال: قرأت كتاب أبي الحسن الرضا الي أبي جعفر (عليه السلام):



[ صفحه 27]



(يا أبا جعفر؛ بلغني أن الموالي اذا ركبت أخرجوك من الباب الصغير و انما ذلك من بخل بهم، لئلا ينال منك أحد خيرا، أسألك بحقي عليك: لا يكن مدخلك و مخرجك الا من الباب الكبير، و اذا ركبت فليكن معك ذهب و فضة، ثم لا يسألك أحد الا أعطيته و من سألك من عمومتك أن تبره فلا تعطه أقل من خمسين دينارا، و الكثير اليك، و من سألك من عماتك فلا تعطها أقل من خمسة و عشرين دينارا، و الكثير اليك، اني أريد أن يرفعك الله فانفق و لا تخش من ذي العرش اقتارا) [2] .

و أمر الامام بأن يحمل ولده الذهب و الفضة، تعبيرا عن الدنانير و الدراهم، فالدينار ذهبي و الدرهم فضي، و المبلغ الذي وجهه بعطائه يغني السائل بالنسبة للقيمة السوقية آن ذاك فهو ثمن لشراء دار مناسبة في ذلك العصر.

و كانت صلة الرحم من الأهداف المركزية لدي الامام الرضا،و كان يراسل في شأنها ولده الامام الجواد من خراسان و ولده في المدينة و هو صبي صغير، و كان هدف هذه المراسلات التأكيد علي بر الأرحام، و الانتداب الي صلة الموالين لأبيه و جده، فمن كتب للرضا اليه (عليه السلام):

«بسم الله الرحمن الرحيم: أبقاك الله طويلا، و أعاد من عدوك يا ولدي، فداك أبوك، قد فسرت لك مالي و أنا حي سوي، رجاء أن ينميك الله بالصلة لقرابتك، و لموالي (موسي و جعفر) رضي الله عنهما... قال الله:

(من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة...) [3] .



[ صفحه 28]



و قال: (لينفق ذو سعة من سعته و من قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله...) [4] .

و قد أوسع الله عليك كثيرا يا بني، فداك أبوك، و لا تستر دوني الأمور لحبها، فتخطي حظك، و السلام) [5] .

و اتخذ الامام محمد الجواد نصائح أبيه منهجا فقد روي سهل بن زياد عن أحمد بن حديد، قال:

«خرجت مع جماعة حجاجا، فقطع علينا الطريق، فلما دخلت المدينة لقيت أبا جعفر (عليه السلام) في بعض الطريق فأتيت المنزل، فأخبرته بالذي أصابنا فأمر لي بكسوة و أعطاني دنانير، و قال:

فرقها علي أصحابك علي قدر ما ذهب!!

فقسمتها بينهم، فاذا هي علي قدر ما ذهب منهم لا أقل و لا أكثر» [6] .

و كان الحسن بن علي الوشا يقول في نفسه: كنت أردت أن أسأل أبا الحسن الرضا (عليه السلام) قميصا من ثيابه فلم أفعل!! فاذا عاد أبوجعفر فاسأله... و اذا برسول الامام (عليه السلام) يأتيه بقميص من دون أن يسأله، و يقول عن الامام:

هذا من ثياب أبي الحسن التي كان يصلي فيها» [7] .



[ صفحه 29]



و في الخبرين معا دلالة علي علم موهبي يضاف الي الكرم المعهود.

في عهد المعتصم العباسي، كان ركب الامام الجواد، كما يستفاد من أصحابه الذين رافقوه في سفر الحج هذا و ان مائدة كانت تمد بأمره في كل يوم لاطعام الحجيج [8] .

و هناك نصوص أخري تتحدث عن كرم الامام في الاطعام ففي بعضها أن الامام كان يطعم أصحابه بل و يأمرهم بالجلوس عنده و بالأكل و قد يأتيه الضيف فيقول الامام للغلام: كل معه ينشط. [9] .

و كان الامام محمد الجواد (عليه السلام) جوادا بما في يده زاهدا في ذاته فلا يأسي علي ما فاته و لا يحزن لما أصابه منم حرب في ماله أو فقدان لشي ء من الحطام الزائل فقد روي أنه حمل اليه (عليه السلام) حمل بز له قيمة كبيرة، فسل في الطريق فكتب اليه الذي حمله يعرفه الخبر، فوقع بخطه (عليه السلام):

«ان أنفسنا و أموالنا من مواهب الله الهنيئة و عواريه المستودعة يمتع بما متع فيها في سرور و غبطة و يأخذ ما أخذ منها في أجر و حسبة فمن غلب جزعه علي صبره حبط أجره، نعوذ بالله من ذلك» [10] .

و ربما شاهده بعض المغفلين في حالة رفاه ظاهري لدي استدعائه الي بغداد، فظن أنه مقيم فيها بمدارج النعيم أو ساكن اليها في بحبوحة من العيش الرغيد، و الامام بعلمه اللدني و فراسته التي لا تخطئ، يقرأ النفوس، و يترجم الأفكار، فهذا الحسين قد ظن أن الامام في



[ صفحه 30]



ذلك المناخ المتصور من السعادة و الاطمئنان فقرأ (عليه السلام) ما في نفسه من خواطر و ما في ذهنه من شطحات و قال له: (يا حسين خبز شعير، و ملح جريش في حرم رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) أحب الي مما تراني فيها) [11] .

و هذا القول يحكي عما يضم بين جوانح الامام من الزهد و الاعراض عن زخارف الدنيا و مناهجها.

و بقي أن ننبه أن مصدر سخاء الامام كان من موارده الخاصة و مصادر الأوقاف في قم التي ترد عليه فيضعها و الحقوق الشرعية التي لا تتعدي حدود المسلمين لها، كل أولئك ينفقه الامام علي أهله من الضعفاء و الفقراء و المساكين، مضافا الي ممتلكاته ارثا و اكتسابا، تأتي الروافد الأخري لتسد احتياجات الآخرين كرما وجودا و شهامة.

و لابد أن نشير الي الامام علي سخائه بماله، كان سخيا بجاهه و رعايته لأوليائه و هو أهم نوعي السخاء و ذلك مما يضاف لخصائصه كما ستقرأ في المبحث الآتي.



[ صفحه 31]




پاورقي

[1] ابن تيمية / منهاج السنة 2 / 127، الصفدي / الوافي بالوفيات 4 / 105.

[2] الكليني / الكافي 4 / 34، الصدوق / عيون أخبار الرضا 2 / 8.

[3] سورة البقرة. 245.

[4] سورة الطلاق، 7.

[5] العياشي / تفسير العياشي / 1 / 131، المجلسي / البحار 50 / 103.

[6] ظ: المجلسي / بحارالأنوار 50 / 44، و انظر مصدره.

[7] ظ: المجلسي / بحارالأنوار 50 / 52، و انظر مصدره.

[8] ظ: محمد حسن آل ياسين / الامام محمد بن علي الجواد / 49.

[9] ظ: المجلسي / بحارالأنوار 50 / 87، و انظر مصدره.

[10] ابن شعبة / تحف العقول / 479.

[11] الحر العاملي / اثبات الهداة 6 / 185.