بازگشت

نشأة الامام المثالية


نشأ الوليد المبارك في ظل أبيه الامام علي بن موسي الرضا (عليه السلام)، و في بيت المجد و الشرف الشامخ، بيت النبوة، و معدن الوحي، و مستقر التنزيل، و مختلف الملائكة المقربين.

و قد غذاه أبوه روح الوحي و اليقظة، و منحه الحب الأبوي الخالص، و أشرف علي تربيته الفذة بذاته المقدسة، فعاد مثلا للطفولة البريئة الواعية، و للصبا المتطور، فبرز منذ ذلك الحين نموذجا جديدا في الأدب و الخلق و الفضيلة، و اعتبر مثالا فريدا للعلم و الحلم و الدين و المعارف الانسانية في شتي حقولها.

اتجهت له الأنظار صغيرا، و انجذبت له المشاعر و الأحاسيس يافعا، فهذا الصبي الامام حالة جديدة خارقة، لا شبيه له في مؤهلاته، و لا نظير له في قابلياته، فهو ابن أبيه حقا حذو القذة بالقذة، و غصن من تلك الشجرة الطبيبة التي (أصلها ثابت و فرعها في السماء) [1] و من الذين أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا.

و لا مغالاة فيما قدمت، بل هو حكاية أمينة لواقع الامام الجواد (عليه السلام)، اذ كان الرمز الأسمي للمثالية بأدق معانيها و النموذج الأرقي للانسانية في تفتح مداركه و مواهبه، و توهج معارفه و قيمه، و تبلور أفكاره و ذهنيته، و هو في سن مبكرة رشحته للامامة في السابعة من عمره،



[ صفحه 22]



تحديا لجبروت السلطان، و مقاومته لفقدان الشرعية في الحكم، فكان مل ء السمع و البصر قدرة و افاضة في نشأة رائعة خلاقة.

يقول الأستاذ محمد حسن آل ياسين:

«و هكذا فتح محمد بن علي (الثاني) عينيه علي الدنيا في تلك الأجواء النقية المطهرة، و تربي و ترعرع في تلك الأحضان الدافقة بالحب و الحنان، و حبا و سار علي ذلك الصعيد المبارك المقدس، و نما و شب في تلك البيئة الصالحة المصفاة، حتي أصبح ذلك الشارب الملائكي الذي تتطلع اليه النفوس قبل العيون، و تتملاه البصائر قبل الأبصار، و تنجذب اليه الأفئدة قبل الأسماع» [2] .

و كان تكريم الامام الرضا لولده بالغا، و عنايته به فائقة، حتي روي أنه ما كان يذكره الا بكنيته، يقول:

«كتب الي أبوجعفر، و كنت أكتب الي أبي جعفر و هو صبي في المدينة فيخاطبه بالتعظيم»، و ترد كتب أبي جعفر في نهاية البلاغة و الحسن فسمعته يقول:

«أبوجعفر وصيي و خليفتي في أهلي من بعدي».

هذا ما رواه محمد بن أبي عباد كاتب الامام الرضا (عليه السلام) [3] .

و الامام يكرر هذا المعني و يشيعه بين أوليائه و أصحابه ليكونوا علي بينه من الأمر، فعن محمد بن خلاد، قال:

سمعت الرضا (عليه السلام)، و ذكر شيئا قال: ما حاجتكم الي ذلك؟



[ صفحه 23]



«هذا أبوجعفر قد أجلسته مجلسي، و صيرته مكاني، و قال: انا أهل بيت يتوارث أصاغرنا أكابرنا حذو القذة بالقذة» [4] .

و كان الامام ينوه بخلافة ولده الامام محمد الجواد له من بعده، فقد قال جعفر بن محمد النوفلي للامام الرضا (عليه السلام) ما تأمرني؟

قال الامام الرضا: عليك بابني محمد من بعدي... [5] .

و قد تكرر هذا المعني من قبل الامام حتي في منفاه بخراسان فعن مسافر؛ قال: أمرني أبوالحسن (عليه السلام) بخراسان فقال:

«الحق بأبي جعفر فأنه صاحبك» [6] .

و هكذا فهم أتباع أهل البيت منزلة الامام الجواد و شأنه، و موقعه من الامامة، و بدأوا يعظمونه و يجعلونه كما هو أهل لذلك.

فهذا عم أبيه العبد الصالح علي بن الامام جعفر الصادق (عليه السلام) يكرمه و يحتفي به، بما يرويه محمد بن الحسن بن عمار، قال:

(كنت جالسا عند علي بن جعفر بن محمد بالمدينة، و كنت أقمت عنده سنتين أكتبت عنه ما سمع من أخيه، يعني أبا الحسن - الامام موسي بن جعفر - اذ دخل عليه أبوجعفر محمد بن علي الرضا المسجد - مسجد رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) -، فوثب علي بن جعفر بلا حذاء و لا رداء فقبل يده و عظمه.

فقال له أبوجعفر (عليه السلام): يا عم أجلس رحمك الله.



[ صفحه 24]



فقال: يا سيدي كيف أجلس و أنت قائم؟

فلما رجع علي بن جعفر الي مجلسه، جعل أصحابه يوبخونه، و يقولون: أنت عم أبيه!! و أنت تفعل به هذا الفعل؟ فقال اسكتوا، اذا كان الله عزوجل - و قبض علي لحيته - لم يؤهل هذه الشيبة، و أهل هذا الفتي، و وضعه حيث وضعه، أنكر فضله؟ نعوذ بالله مما تقولون، بل أنا له عبد» [7] .

و يؤكد هذه الحقيقة ما كان يدور بأذهان الخلص من أصحاب الرضا، و تساؤلهم الحثيث عن الخلق من بعده، و ما كان من الامام الرضا (عليه السلام) لينص علي الامام الجواد فحسب، بل يصفه بأنه حجة الله تعالي من بعده، فعن بنان بن نافع، قال:

«سألت علي بن موسي الرضا (عليه السلام)، فقلت:

جعلت فداك، من صاحب الأمر بعدك.؟

فقال لي: يا ابن نافع يدخل عليك من هذا الباب من ورث ما ورثته ممن هو قبلي، و هو حجة الله تعالي من بعدي.

فبينا أنا كذلك اذ دخل علينا محمد بن علي (عليه السلام)» [8] .

و يستخلص مما تقدم؛ ان الامام محمد الجواد قد نشأ في ظل أبيه، و رباه تربية صالحة، و رعاه رعاية فائقة، و بشر أصحابه به، و أظهر مقامه و كيانه، و نص علي امامته، و أوصي اليه من بعده فكان الامام المفترض الطاعة.



[ صفحه 25]




پاورقي

[1] سورة ابراهيم، 24.

[2] محمد حسن آل ياسين / الامام محمد بن علي الجواد / 21.

[3] الصدوق / الكافي 1 / 320، المفيد / الارشاد / 357.

[4] الكليني / الكافي 1 / 320، المفيد / الارشاد / 357.

[5] ظ: الصدوق / عيون أخبار الرضا 2 / 216.

[6] ظ: المصدر نفسه 2 / 216.

[7] الكليني / الكافي 1 / 322، البحار 50 / 36.

[8] ابن شهرآشوب / المناقب / 3 / 494، البحار 5 / 50.