بازگشت

قضايا التوحيد الالهي


من أبرز ملامح عصر الامام (عليه السلام) في مسائل علم الكلام، ما يتعلق بقضايا التوحيد، و ما يدور في فلك معرفة الله تعالي، و ما يثار حول أسماء الباري و صفاته، و ما يراد من معاني الألفاظ في الذات و الرؤية و التشبيه و التجسيم، و ما يجري هذا المجري من مصطلحات كلامية ولدتها حركة الترجمة للفلسفة الاغريقية لدي المسلمين، و أوجدتها موجات الامتزاج بين الشعوب المختلفة في ظل الاسلام نتيجة اتساع الدولة الاسلامية بالفتوح لبلاد المشرق و قصبات المغرب، و ما أثارته مدارس الشك و الارتياب لدي الوافدين علي الديار الاسلامية من أشتاب الجنس البشري، و ما زرعه أولئك الحاقدون علي مبادئ الشريعة الغراء، فسيروا الشبه و المقالات، و أوردوا الأسئلة الاعتراضية أو الاحتجاجية لكل ما هو جديد علي الساحة أو غريب عنها أحيانا.

و لما كانت مهمة الامام محمد الجواد (عليه السلام) مهمة رسالية، فقد شمر عن ساعديه جدا و نشاطا و حيوية، فرد الشبهات، و صد الهجمات، و فسر ما يدور في معجم القوم من مصطلحات و اشارات، و فند ما جاء فيها من نزغات جارحة و اعتداءات صارخة، و أعاد الحق الي نصابه، و ذلك من خلال اجاباته و استدراكاته في الوصول الي حقائق الأشياء، باعتباره الامام المفترض الطاعة علي المسلمين، و هو المعني الأول و الأخير في عصره للذب عن أصالة الاسلام حينا، و الكشف عن قيمة و مثله العليا



[ صفحه 234]



حينا أخر، لهذا كان النضال في الميدان الكلامي أصلا من أصول جهاده العلمي الذي طبق الخافقين، و هو يؤكد هذا الملحظ، و يخلص الي الاشارة الصريحة لذاته في أولوية النصرة و الدفاع فيقول:

«ان الله خلق الاسلام فجعل له عرصة، و جعل له نورا، و جعل له حصنا، و جعل له ناصرا، فأما عرصته فالقرآن، و أما نوره فالحكمة، و أما حصنه فالمعروف، و أما أنصاره فأنا و أهل بيتي»... [1] .

و الامام في هذا الحصر يصدر عن واقعية لا مبالغة معها، و يؤكد علي جانب امامته فيه و في أهل بيته علي عادة الأئمة عليهم السلام في اعلان ذلك و التصريح به في أحلك الظروف رغم كل المخاطر التي تحيط بهذا التصريح الجري ء، لأنه بمثابة الثورة المضادة لكل ولاية ظالمة و خلافة مدعاة.

و فيما نحن فيه من حياة المناظرة و الحوار الكلامي نجد الامام محمد الجواد (عليه السلام) فارس هذه الحلبة في عصره، و خريت هذه الصناعة في تمرسه.

روي أبوهاشم الجعفري قائلا:

كنت عند أبي جعفرالثاني (عليه السلام)، فسأله رجل - و يبدو أنه كان علي جانب من الفلسفة الالهية - فقال: «أخبرني عن الرب تبارك و تعالي، له أسماء وصفات في كتابه؟ فأسماؤه و صفاته هي هو؟

فانبري له الامام محمد الجواد (عليه السلام) محللا و مبرمجا و مقسما، فقال: «أن لهذا الكلام وجهين، ان كنت تقول: هو هي، أي أنه ذو عدد و كثرة!! فتعالي الله عن ذلك.



[ صفحه 235]



و ان كنت تقول: لم تزل هذه الصفات و الأسماء، فان (لم تزل) يحتمل معنيين:

فان قلت: لم تزل عنده فعلمه، و هو مستحقها، فنعم. و ان كنت تقول: لم يزل تصويرها، و هجاؤها، و تقطيع حروفها، فمعاذ الله أن يكون معه شي ء غيره، بل كان الله و لا خلق، ثم خلقها وسيلة بينه و بين خلقه، يتضرعون بها اليه، و يعبدونه، و هي ذكره، و كان الله و لا ذكر، و المذكور بالذكر هو الله القديم، الذي لم يزل و الأسماء و الصفات مخلوقات المعاني، و المعني بها هو الله الذي لا يليق به الاختلاف و الائتلاف، و انما يختلف و يأتلف المتجزئ، فلا يقال: الله مؤتلف، و لا الله كثير، و لا قليل، و لكنه القديم في ذاته، لأن ما سوي الواحد متجزئ، و الله واحد لا متجزئ، و لا متوهم بالقلة و الكثرة، و كل متجزئ متوهم بالقلة و الكثرة فهو مخلوق دال علي خالق له.

فقولك: ان الله قدير، خبرت انه لا يعجزه شي ء، فنفيت بالكلمة العجز، و جعلت العجز سواه، و كذلك قولك: عالم، انما نفيت بالكلمة الجهل، و جعلت الجهل سواه، فاذا أفني الله الأشياء أفني الصور و الهجاء، و لا ينقطع و لا يزال من لم يزل عالما.

فقال الرجل: فكيف سمينا ربنا سميعا؟

فقال الامام محمد الجواد (عليه السلام):

«انه لا يخفي عليك ما يدرك بالأسماع!! و لم نصفه بالسمع المعقول بالرأس، و كذلك سميناه بصيرا، لأنه لا يخفي عليه ما يدرك بالأبصار من لون و شخص و غير ذلك، و لم نصفه بنظر لحظ العين. و كذلك سميناه



[ صفحه 236]



لطيفا لعلمه بالشي ء اللطيف مثل البعوضة و أخفي، و موضوع النشوء منها، و العقل و الشهوة للسفاد و الحدب علي نسلها، و افهام بعضها عن بعض، و نقلها الطعام و الشراب الي أولادها في الجبال و المفاوز و الأودية و القفار، فعلمنا أن خالقها لطيف بلا كيف، و انما الكيفية للمخلوق المكيف.

و كذلك سمي ربنا قويا لا بقوة البطش المعروف من المخلوق، و لو كانت قوته قوة البطش المعروف من المخلوق، لوقع التشبيه و لاحتمل الزيادة، و ما احتمل الزيادة احتمل النقصان، و ما كان ناقصا كان غير قديم، و ما كان غير قديم كان عاجزا.

فربنا تبارك و تعالي لا شبه له و لا ضد، و لا ند، و لا كيف، و لا نهاية، و لا تبصار بصر، و محرم علي القلوب أن تمثله، و علي الأوهام أن تحده، و علي الضمائر أن تكونه، جل و عز عن أداة خلقه، و سمات بريته، و تعالي عن ذلك علوا كبيرا» [2] .

و ينظر الي افادة الامام محمدالجواد (عليه السلام) في هذا العرض الفلسفي من خلال مستويين:

المستوي الأول: كون الامام (عليه السلام) منظرا علي سوية عالمية بحيث استطاع من خلال اجابته الدقيقة المنظمة، و من خلال استدراك حيثيات الموضوع أن يستوعب قضايا التوحيد في جزئياتها المتشعبة، فلم يغادر صغيرة و لا كبيرة الا استقطبها شرحا و تفصيلا ملك علي المسائل سمعه و بصره.



[ صفحه 237]



المستوي الثاني: ان الامام (عليه السلام) بحث ما يسمي في علم الكلام بالصفات الثبوتية و السلبية، و استدل علي مفاهيمها بالدليل البديهي تارة، و بالاستقراء المنطقي تارة أخري، فالله سميع بصير لطيف، بمعني لا يشمل الحواس المتداولة و المعروفة فيما تعارفنا عليه، فهو سميع بمعني أنه لا يخفي عليه ما يدرك بالأسماع، و هو بصير بمعني أنه لا يخفي عليه ما يري بالأبصار، و هو لطيف بمعني علمه باللطيف الدقيق من حقائق الأشياء و أجناس المخلوقات و خفيات الأمور، و ما جري هذا المجري.

و من هذا الباب سأله أحدهم:

هل يجور أن يقال الله تعالي: انه شي ء؟

فقال (عليه السلام): نعم، و يخرجه عن حد التعطيل وحد التشبيه [3] .

و من هذا القبيل ما سأله به محمد بن عيسي قائلا:

اني أتوهم شيئا!!

فأجاب الامام (عليه السلام):

«نعم، غير معقول، لا محدود، فما وقع و همك عليه من شي ء فهو خلافه، لا يشبه شي ء، و لا تدركه الأوهام، و هو خلاف ما يتصور في الأوهام، انما يتصور شي ء غير معقول و لا محدود» [4] .

و الامام (عليه السلام) يعالج المناظرة في صيغة كلامية واضحة بحيث يستوعبها السائل بحسب ثقافته و ادراكه، فتبدو له الاجابة يسيرة الفهم، واضحة البعد، دقيقة التشخيص، لا لبس فيها و لا ايهام.



[ صفحه 238]



سأله أبوهاشم الجعفري عن قوله تعالي: (لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار) [5] .

فقال الامام محمدالجواد (عليه السلام): «يا أباهاشم أوهام القلوب أدق من أبصار العيون، أنت قد تدرك بوهمك السند و الهند والبلدان التي لم تدخلها، لم تدركها ببصرك، فأوهام القلوب لا تدركه، فكيف أبصار العيون؟» [6] .

و روي أن أحد أصحابه سأله عن معني الواحد، فقال (عليه السلام):

اجماع الألسن عليه بالوحدانية كقوله تعالي: (و لئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله...) [7] [8] .

و في هذا السياق يسأله داود بن القاسم عن معني الصمد في قوله تعالي: (الله الصمد) [9] .

فيقول الامام: «يعني المصمود اليه في القليل و الكثير» أي المقصود [10] .

هذه الاجابات السريعة الموجزة لم تكن مرتجلة و لا اعتباطية ولكنها صادرة عن فكر تنظيري عميق ذي تجربة احتجاجية نادرة.



[ صفحه 239]




پاورقي

[1] الكليني / الكافي / 2 / 46.

[2] ظ: الكليني / الكافي 1 / 117 - 116، الصدوق / التوحيد / 143 - 142، الطبرسي / الاحتجاج 2 / 468 - 467.

[3] الكليني / الكافي / 1 / 82.

[4] الصدوق / التوحيد / 164.

[5] سورة الأنعام، 103.

[6] الصدوق / التوحيد / 69.

[7] سورة الزخرف، 87.

[8] الكليني / الكافي / 1 / 118.

[9] سورة الاخلاص، 2.

[10] الكليني / الكافي 1 / 123.