بيئة الفكر الكلامي في عصر الامام
ازدهرت الحياة العقلية في عصر الامام محمد الجواد (عليه السلام)، و كانت النهضة الحضارية قد بلغت قمتها في عهده. فقد أولاها الامام جهاده و جهوده، و ربي جيلا متحفزا من العلماء النابهين، و تزعم جمهرة من الفقهاء الأكابر، و ثقف طائفة من المتكلمين و علماء الاحتجاج، و درب ناشئة من المتلهفين علي تلقي المعرفة، و من هنا انطلقت الثقافة في فنونها المعددة تغزو الميدان الاجتماعي، ابتعادا عن المناخ السياسي المتعثر بالدماء و الحروب و الفتن و المؤامرات.
و كان لهذا الانقلاب المفاجئ في حياة الأمة المسلمة أسبابه و مسوغاته و مؤثراته في كثير من الأبعاد و لعل الأستاذ نيكلسون من أبرع من صور ذلك تصويرا مقاربا للواقع من الناحية الاجتماعية فقال: «و كان لانبساط رقعة الدولة العباسية، و وفرة ثروتها، و رواج تجارتها أثر كبير في خلق نهضة ثقافية لم يشهدها الشرق من قبل، حتي لقد بدا أن الناس جميعا... غدوا فجأة طلابا للعلم، أو علي الأقل أنصارا للأدب، و في عهد الدولة العباسية كان الناس يجوبون ثلاث قارات سعيا الي موارد العلم و العرفان، ليعودوا الي بلادهم كالنحل يحملون الشهد الي جموع التلاميذ المتلهفين، ثم يصنفون بفضل ما بذلوه من جهد متصل هذه المصنفات التي هي أشبه شي ء
[ صفحه 230]
بدوائر المعارف، و التي كان لها أكبر الفضل في ايصال هذه العلوم الحديثة الينا بصورة لم تكن متوقعة من قبل» [1] .
و كانت حواضر العالم الاسلامي تعج بالعلماء و المتعلمين في كل من: مكة المكرمة، و المدينة المنورة، و الكوفة الغراء، و البصرة الفيحاء، و بغداد دارالسلام التي تميزت بكونها مقر الدولة، و ملتقي العلماء، و قبلة المهاجرين و الدارسين.
يقول الدكتور غوستاف لوبون: «كان العلماء و رجال الفن و الأدباء من جميع الملل و النحل من يونان، و فرس، و أقباط، و كلدان، يتقاطرون الي بغداد، و يجعلون منها مركزا للثقافة في الدنيا» [2] .
و كانت مدارس الافادة و الاضاءة غزيرة العطاء عند الفرق الاسلامية الثلاث: الامامية، و المعتزلة، الأشاعرة. الا أن مدرسة الامامية كانت أعمقها أصولا، و أرسخها جذورا، لأنها تستمد أصالتها من روافد جامعة أهل البيت عليم السلام، بما عرفت به من العمق و دقة الآراء التي فجرها الأئمة المعصومون متصلة برسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم).
فكانت علوم القرآن. و الحديث الشريف، و التفسير، و الفقه، و الأصول، و الفلسفة، و علم الكلام، و النحو، و اللغة، مضافا الي جزء كبير من العلوم الصرفة كالطب و الكيمياء و الفيزياء، و الهندسة، و الفلك، و الرياضيات من أبرز مظاهر التنوع الثقافي الذي حفل به عصر الامام محمد الجواد (عليه السلام).
[ صفحه 231]
و كانت الأمة الاسلامية بأغلبيتها الساحقة تمثل التأييد الصامت لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، و تستمد معارفها مها رغم الرصد و كثافة الرقابة و تحسسن الدولة.
و كان المكر السياسي للسلطة العباسية يشجع الخوض بمتاهات علم الكلام، فهو يريد اشغال الأمة بنفسها عن نفسها، و يجدلها فيما بينها عن مشاكلها، و بتحزبها الكلامي عن تجمعها السياسي.
و يبدو للبحث أن الهدف من وراء علم الكلام قد انحرف عن الخط الأساسي الذي يجب أن يسير عليه، فبدلا من أن تكرس الجهود لرد الزنادقة و الملحدين و المشككين، تحولت الي صراع غبي مقيت بين المعتزلة و الأشاعرة الي الحد الذي كفر بعضهم بعضا، و ليست تلك مهمة علم الكلام في أي حال من الأحوال.
بينما وقفت الامامية موقف الحذر المتيقظ من هذا المناخ، فأعرض صفحا عن كثير من المهاترات، و اتجه اتجاها ايجابيا في نقض شبهات المنحرفين، و رد مزاعم الزندقة و الالحاد، و حمل علي المشككين ليعود بالمناخ الفعلي الي جذره التاريخي في الدفاع عن حوزة الاسلام.
و مهما يكن من أمر، فأن الحياة الكلامية بايجابياتها و سلبياتها و تناقضاتها قد أبقت لنا ثروة حافلة بالابداع و عصارة الآراء، مما قد يعد خلاصة التجربة الاسلامية في الجدل و المناظرة و الاحتجاج.
و كان الخط الهادئ المتزن يمتثل في أولياء أهل البيت عليهم السلام، فكان علم الكلام لديهم وسيلة الي دحض الشبهات، و ابطال
[ صفحه 232]
آراء المنحرفين، و قد برز من أساطينهم في هذا الفن جمع مشهود و له بالاستقامة و حسن التأني علي طول الخط الممتد من العصر الأموي حتي نهاية العصر العباسي الأول. و هي حقبة امتدت قرنين من الزمان في حضرة الأئمة و قيامهم بالأمر الالهي سبق لنا الاشارة اليه في كتبنا السابقة من هذه الموسوعة.
«و الذي يراه البحث أن الحياة الجديدة لم تكن هادئة أو مستقرة، بل هي الي الصخب و الضجيج أقرب، و هي تمثل مدي الانشطار الاسلامي الي فرق و جماعات و تكتلات...
و كانت حتمية تجربة السماء الفطرية تقتضي أن ينتصر الاتجاه العقلي الرصين علي تلك التهاويل الغريبة التي اجتاحت العالم الاسلامي في سرعة مذهلة، و هي تتضخم ضمن مخطط سياسي صاعق، أبرم بنوده سلاطين الجور و أدعياء الفكر الوافد» [3] فانجر كثير من النزاع الي مداخلات غير بريئة.
بيد أن الامام محمد الجواد (عليه السلام) قد ابتعد بثقله الرسالي عن هذه المظاهر، و اتجه الي اصلاح ما فسد من عقائد المسلمين، و اثراء الشعلة الوهاجة في درب الموحدين كما ستري.
[ صفحه 233]
پاورقي
[1] حسين ابراهيم حسن / تاريخ الاسلام السياسي / 322.
[2] غوستاف لوبون / حضارة العرب / 218.
[3] ظ: المؤلف / الامام موسي بن جعفر ضحية الارهاب السياسي / 113.