بازگشت

علل الأحكام عند الامام


و ولج الامام محمد الجواد باب بيان علل الأحكام، و فيه الحكم الفقهي و علة ذلك الحكم، و كان الامام قاصدا الي ذلك لتبديد تلك السحب الكثيفة التي تلبدت في الأفق السياسي من قبل الحكم العباسي و وعاظ السلاطين، و شرائح كبيرة من الموالين للنظام علي حد سواء.

لقد أثيرت في طريق الامام عدة شبهات مضللة كان أقربها الي أذهان السذج و البسطاء من الناس هي مسألة حداثة السن و صغر العمر، و قد شاء الحكم اللعب بهذه الورقة فما استطاع الي ذلك سبيلا.

و علي الرغم من أن الامام قد برهن ميدانيا علي امامته في تلك السن المبكرة من خلال اجاباته العلمية، و الفقهية. و العقائدية. و التفسيرية. و الفلسفية، فأن هذه الشبهة تثار في الوسط الرسمي بين الآونة و الأخري، لسبب و آخر.

قال الرواي: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): انهم يقولون في حداثة سنك!! فقال: «أن الله تعالي أوحي الي دواد أن يستخلف سليمان و هو صبي يرعي الغنم، فأنكر ذلك عباد بني اسرائيل و علماؤهم!! فأوحي الله الي داود (عليه السلام):

أن خذ عصي المتكلمين و عصا سليمان، و اجعلها في بيت و اختم عليها بخواتيم القوم، فاذا كان من الغد، فمن كانت عصاه



[ صفحه 222]



قد أورقت و أثمرت فهو الخليفة، فأخبرهم داود (عليه السلام)، فقالوا: قد رضينا و سلمنا. [1] .

و في نص آخر، قال الراوي للامام محمد الجواد (عليه السلام):

يا سيدي ان الناس ينكرون عليك حداثة سنك!!

فقال: و ما ينكرون من ذلك، قول الله عزوجل؟ لقد قال عزوجل لنبيه: (قل هذه سبيلي أدعوا الي الله علي بصيرة أنا و من اتبعني...) [2] .

فو الله ما تبعه الا علي (عليه السلام)، و له تسع سنين، و أنا ابن تسع سنين» [3] .

و أنت تجد الامام (عليه السلام) في هاتين الروايتين ينطلق تكوينيا و تشريعيا بوقت واحد لرد هذه الشبهة باستخلاف سليمان من قبل داود بأمر الله تعالي، و سليمان صبي يرعي الغنم، فأقام له الحجة حتي رضوا و سلموا. و من ثم يعطف الامام علي هذا اتباع علي (عليه السلام) لرسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) و عمره تسع سنين، و قبل منه ذلك الاتباع، و عمر الجواد آنذاك تسع سنين أيضا، فهذه كتلك. هذا كله فضلا عن الاختبار الدقيق الذي أسفر عن تقدم الامام العلمي في الأسئلة المعمقة من قبل أوليائه و أعدائه، فانجلي عنها ألق الجبين بما سخره من براهين و أدلة و حجج و افاضات لا تتأتي الا لعلماء الأمة الأفذاذ.



[ صفحه 223]



و في هذا المجال نجد الامام (عليه السلام) مفيضا بجملة من علل الأحكام الشرعية علي قدر بما يرفع فيه هذه الشبهة علي الأقل من جهة، و بما يعزز الملحظ التشريعي القائم علي أساس من الحكمة و مصلحة البشر.

و قد يسال الامام سؤالا فقهيا و لا يراد منه الا الافتاء به، و لكنه - (عليه السلام) - يفتي به، و يعلل في الموضوع، فيبين علة الحكم و سببه، لعلمه أن ما يفتي به سوف ينتشر بين الناس، و الناس يختلفون في مدي استيعابهم للاجابة، فبعضهم يغنيه التلميح عن التصريح، و بعضهم يكتفي بالايجاز و الاختصار، و بعضم يريد الا طالة و الاسهاب. و لم يكن الامام ليبخل بالعطاء فيفيض من علمه ما يلبي رغبات الجميع، كما شاهدنا هذا في اجاباته ليحيي بن أكثم و سواه.

و الامام في عطائه الثر هذا ينظر الي عدة توجهات أساسية، فقد جرد العباسيون من فقهاء العصر أداة يراد منها تعجيز الامام، فما أفلحوا بذلك قط، بل كان الأمر عكسيا اذا انقلب السحر علي الساحر، ففلجوا بالحجة و المنطق. و فشلت مسألة العمر، و كانت اجاباته العلمية دليلا علي امامته، و ادعوا فيما زعموا أن لا خبرة للامام فقهيا و كان الرد حاسما، و التطلعات المولوية في افاداته الفقهية عتيدة حاضرة، ذلك كله بما أصابهم جراء تواترة و توافره بالهلع حينا، و بالحسد حينا آخر.

«قال المأمون ليحيي بن أكثم: اطرح علي أبي جعفر محمد بن علي الرضا (عليه السلام) مسألة تقطعه فيها!!



[ صفحه 224]



فقال يحيي بن أكثم للامام:

يا أباجعفر: ما تقول في رجل نكح امرأة علي زنا؟ أيحل أن يتزوجها؟

فقال الامام محمدالجواد (عليه السلام):

يدعها حتي يتسبرئها من نطفته و نطفة غيره، اذ لا يؤمن منها أن تكون قد أحدثت مع غيره حدثا كما أحدثت معه، ثم يتزوج بها ان أراد، فانما مثلها مثل النخلة أكل رجل منها حراما ثم اشتراها، فأكل منها حلالا».

فانقطع يحيي. [4] .

و كانت هذه الاجابات ضرورية لاثارة الوعي و تمكين السائل من استيعاب فلسفة الحكم الشرعي، و نشر رأي أهل البيت.

و للامام (عليه السلام) في هذا الجانب مجالات عديدة.

روي أن محمد بن سليمان سأله عن العلة في جعل عدة المطلقة ثلاثة قروء، بينما عدة المتوفي عنها زوجها أربعة أشهر و عشرة أيام، فأجاب الامام:

أما عدة المطلقة ثلاثة قروء، فلاستبراء الرحم من الولد، و أما عدة المتوفي عنها زوجها، فان الله تعالي شرط للنساء شرطا، و شرط عليهن شرطا، فلم يحابهن فيما شرط لهن، و لم يجر فيما اشترط عليهن.



[ صفحه 225]



أما ما شرط لهن في الايلاء... أربعة أشهر، اذ يقول الله عزوجل: (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر...) [5] .

فلم يجوز لأحد أكثر من أربعة أشهر في الايلاء، لعلمه تبارك اسمه أنه غاية صبر المرأة عن الرجل.

و أما ما شرط عليهن فانه أمرها أن تعتد اذا مات زوجها أربعة أشهر و عشرا، فأخذ منها له عند موته ما أخذ لها منه في حياته عند الايلاء، قال الله عزوجل:

(يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر و عشرا)... [6] .

و لم يذكر العشرة أيام في العدة الا مع الأربعة أشهر في ترك الجماع، فمن ثم أوجبه عليه و لها. [7] .

و كان هذا التفصيل حكيما في نظر الشارع الأقدس لغاية صبر المرأة عن الزوج، و ما جاء من التعليل واضح لا يحتاج الي بيان.

و مرة أخري يسأل محمد بن سليمان الامام محمد الجواد (عليه السلام) عن العلة فيما اذا قذف الرجل امرأته بجريمة الزنا كون شهادته أربع شهادات بالله، و اذا قذفها غيره سواء أكان قريبا لها أم بعيدا جلد الحد، أو يقيم البينة علي ما قال!!

فأجابه الامام محمد الجواد قائلا:

«قد سئل أبوجعفر - يعني الامام محمد الباقر (عليه السلام) - عن ذلك فقال: ان الزوج اذا قذف امرأته فقال: رأيت ذلك بعيني، كانت شهادته



[ صفحه 226]



أربع شهادات بالله. و اذا قال: انه لم يره، قيل له، أقم البينة علي ما قلت: و الا كان منزلة غيره.

و ذلك ان الله تعالي جعل للزوج مدخلا لا يدخله غيره، والد و لا ولد يدخله بالليل و النهار، فجاز أن يقول: رأيت، و لو قال غيره: رأيت، قيل له: و ما أدخلك الذي تري هذا فيه وحدك؟ أنت متهم، فلابد أن يقيم عليك الحد الذي أوجبه الله عليك» [8] .

و قد تروي هذه المسألة بصورة أخري و النتيجة واحدة في الجواب. [9] .



[ صفحه 229]




پاورقي

[1] الكليني / أصول الكافي / 1 / 314.

[2] سورة يوسف، 108.

[3] الكليني / أصول الكافي / 1 / 315.

[4] ابن شعبة / تحف العقول / 454.

[5] سورة البقرة، 226.

[6] سورة البقرة، 234.

[7] الحر العاملي / وسائل الشيعة / 15 / 452، الصدوق / علل الشرائع / 72.

[8] الحر العاملي / وسائل الشيعة / 15 / 594.

[9] المجتمع العاملي لأهل البيت / الامام محمد بن علي الجواد / 180 / و انظر مصدره.