بازگشت

علم أهل البيت في تراث الامام


ليس أمرا جديدا علي سليل النبوة و وليد الامامة أن يكون أحد رموز التراث العلمي في الدنيا منذ نعومة أظفاره، فآباؤه أساطين العلم و منبع الحكمة، و ببوتهم مهبط الوحي و مدارج الملائكة، و محافلهم أندية الفضل و الفيض الالهي.

و كان تراث الامام محمد الجواد (عليه السلام) في الذروة في المعارف الانسانية السائرة، اذ فجر ينبوعا عليما ثرا عذب الموارد، استوعب لباب العلم و مقتطفاتها الندية، و سلط الأضواء الكاشفة علي أصوله و جذوره الأولي، حتي عاد ظاهرة من ظواهر الاعجاز الحضاري، لم يخضع لمقاييس التعلم و التعليم، و لا اتبع الأسلوب التقليدي في طلب العلم، فالامام لم يحضر حلقات الدرس عند أحد، و لم يحدثنا التأريخ حتي الرسمي مه أنه أخذ عن شيوخ و أساتيذ منذ صباه حتي استشهاده في الخامسة و العشرين من العمر، فقد تركه أبوه الامام علي بن موسي الرضا في المدينة المنورة خماسي الأسنان، و لم يعهد لمعلم ما أن يعلمه شيئا علي الاطلاق، بل أمر أولياءه و شيعته بالاغتراف من معينه و الرجوع اليه باعتباره الوريث الشرعي لمكنون علمه و خزانة أسراره، فعن معمر بن خلاد، قال:

«سمعت الامام الرضا (عليه السلام) و ذكر شيئا، فقال:

ما حاجتكم الي ذلك؟



[ صفحه 146]



هذا أبو جعفر قد أجلسته مجلسي و صيرته مكاني، و قال:

انا أهل بيت يتوارث أصاغرنا عن أكابرنا القذة بالقذة» [1] .

بل ينسب الي الامام محمد الجواد نفسه، أنه قال - في سن الصبا - ما هو أعظم أثرا، و أوسع شمولا:

«اني و الله لأعلم ما في سرائرهم و خواطرهم، و اني و الله لأعلم الناس أجمعين بما هم اليه صائرون، أقول حقا، و أظهر صدقا، علما قد نبأه الله تعالي قبل الخلق أجمعين، و قبل بناء السماوات و الأرضين» [2] .

و كأن الامام يريد أن ينبه الأمة الي حقيقة أكبر من العلم الاعتيادي، و هي حقيقة العلم اللدني الذي خص به هو و آباؤه من ذي قبل، و قد أشرنا لذلك في الفصل السابق.

و الحق أن العلم اللدني هو أحد مصادر علم الامام محمد الجواد، و سبق أن بحثنا ذلك مفصلا في عمل مستقل. [3] .

و هذا العلم بمواهبه الالهية هو ما يتناسب بالفعل مع الانباء بالغيب المأثور عن الامام، و هو ما ينسجم مع السيل المتدافع من الأسئلة التي أجاب عليها في حياته في شتي العلوم الفقهية و الفلسفية و العرفانية و الكلامية كما ستري ذلك في موقعه من هذا الكتاب.

و هو الأمر الذي تعلل به ظاهرة استقراء الغيب المجهول في سن مبكرة مما لا يتوافر رصده الا عند المرسلين و الأئمة المعصومين (عليهم السلام).



[ صفحه 147]



وهو - أيضا - التفسير الأمثل لما تحدث به الرواة عن غزارة علم الامام و شمولية عطائه الفكري، بما يحفظ لنا المعادلة المتوازنة لأبعاد علم الامام المترامية الأطراف في سجل تاريخه المعرفي، مما لا يحيط به الفكر التقليدي في تصور أولي. و قد يرفضه المثقف العصري ابتداء قبل التمحيص و التحقيق، و لكن التجربة التأريخية الصادقة قد أثبتت بما لا يقبل الشك أنه حقيقة واقعة لا فرضية جدلية، فما اتفق للامام محمد الجواد أن تلكأ في اجابة، و لا توقف عند مسألة، و لا تسامح في بيان جزئي أو كلي، و لا استمد معلومة لا صغيرة و لا كبيرة من راو، أو محدث أو عالم، أو تابعي، أو سوي هؤلاء من المتخصصين.

و هذا العلم لطف الهي لاستكمال رسالة الامامة باعتبارها وريثا لرسالة السماء، و هو بعيد كل البعد عن الغلو علي الاطلاق، و لكنه فوق مدرسة العلم الكسبي، و قد صرح به القرآن العظيم فيما اقتص من خبر موسي و صاحبه، حين التقيا العالم الذي أبهم ذكر اسمه في القرآن، و تبين في الروايات أنه الخضر (عليه السلام)، و ذلك في قوله تعالي:

(فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا و علمناه من لدنا علما) [4] .

و الامامية لا تستكثر امداد العلم اللدني و مصاحبته لائمة أهل البيت (عليهم السلام)، سيما أن ذوي النظر العقلي من أهل الاسلام يشاركون الامامية في هذا الملحظ، و ذلك لانتشار شواهده في السيرة العطرة للائمة (عليهم السلام)، و هم يرفدون العقل البشري بما يستجد لطالبيه من الأسئلة



[ صفحه 148]



و الاستفسارات الدقيقة، و معالم هذا المشهد أكثر من أن تحصي في مفرداتها كثرة.

و هذا العلم ليس من قبيل الوحي، و لكنه يتأتي بوسائط لخصها الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) في تقسيمه لمبلغ علم أهل البيت، و منه العلم الحادث، فعبر عنه بقوله:

«و أما الحادث فقذف في القلوب، و نقر في الأسماع» [5] .

و قد يكون ذلك من الالهام اليقيني الخالص، كما عن علي بن يقطين قال: قلت للامام موسي (يعني الامام الكاظم (عليه السلام)):

«علم عالمكم سماع أم الهام؟

فقال: قد يكون سماعا، و يكون الهاما، و يكونان معا» [6] .

و هذا الأمر ليس حادثا، بل هو قديم يمتد الي عصر الامام علي (عليه السلام)، و الأئمة من بعده، و كل امام يؤكد هذه الحقيقة بضرس قاطع، و قد قال الامام جعفر الصادق (عليه السلام) لعبد الله النجاشي:

«و الله ان فينا من ينكث في قلبه، و ينقر في أذنه، و تصافحه الملائكة»... [7] .

و لا أدل هذا علي هذا من هلع الطغاة و خوف الجبابرة من هذه الظاهرة، فهم يتحسسون منها، و ترتعد لها فرائصهم، اذ قد تتحدث عن



[ صفحه 149]



مستقبلهم، و قد تكشف عما خبأ الدهر لهم [8] .

و كان الامام الجواد في صباه قد أخبر فيما أخبر به في ضوء هذا العلم، حديثه بموت أبيه الامام الرضا (عليه السلام) في خراسان و هو في المدينة المنورة، و البريد لا يأتي بالخبر الا بعد أيام و ليال، لبعد المسافة. فعن أمية بن علي، قال:

«كنت بالمدينة و كنت أختلف الي أبي جعفر، و أبوالحسن بخراسان، و كان أهل بيته و عمومة أبيه يأتون و يسلمون عليه، فدعا يوما بجارية، فقال لها: قولي لهم يتهيأون للمأتم، فلما تفرقوا، قالوا: هلا سألناه مأتم من؟ فلما كان من الغد فعل مثل ذلك، فقالوا مأتم من؟ فقال الامام محمد الجواد (عليه السلام):

خير من علي ظهرها!!

فأتانا خبر أبي الحسن بعد ذلك بأيام، فاذا هو قد مات في ذلك اليوم» [9] .

و لا أدل علي ذلك من اخبار الامام محمد الجواد بوفاته نفسه، و قد كابد المحن و المآسي العامة و الخاصة في عصر المأمون، و هو ينتظر الفرج فيما يبدو، فعن أبي بزيع العطار: قال أبو جعفر: الفرج بعد المأمون بثلاثين شهرا.

قال: فنظرنا، فمات بعد ثلاثين شهرا من وفاة المأمون. [10] .



[ صفحه 150]



و كان الأصل الطبيعي لعلم الامام محمد الجواد(عليه السلام) هو ذلك الموروث العلمي الذي يتوارثه كل امام عن آبائه عن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) حتي انتهي الأمر اليه.

و هذا العلم غير قابل للرد من جهة، و غير خاضع لعملية الاجتهاد من جهة آخري، و غير معارض فيهما معا، فهو نص، و لا اجتهاد في قبال النص و اذا ثبت تلقي الامام له مباشرة أو بوساطة فهو السنة نفسها، و اذا أفتي به الامام فهو السنة أيضا، و ليس من شي ء يصدر عن الامام محمد الجواد الا من خلال الكتاب و السنة مضافا الي علم الموهبة، فنحن - اذن - بين يدي علمه الزاخر: أمام مخزون من العلم يعتمد القرآن أولا، و السنة الشريفة ثانيا، و هذان الأثران هما المصدر الأساس للتشريع، و ما أبداه الامام محمد الجواد (عليه السلام) من خلالهما فهو التراث الخالد الذي لا يزول.

يقول الأستاذ محمد حسن آل ياسين:

«و كان المنبع الأكبر لعلم الامام الجواد - بعد هذه المواريث المشار اليها من مدونات آبائه الغر الميامين، و قد رووها مسندة عن جدهم أميرالمؤمنين - [11] ما تعلمه و رواه مباشرة عن أبيه الامام الرضا (عليه السلام) خلال تلك السنوات القليلة التي عاشها في ضلاله» [12] .

فاجتمع له ببركة هذين المنبعين المقدسين ما تسامي به شأنا و مقاما، و تعالي شرفا و رفعة، بما ضم من لباب علم النبوة و أسرار حقائق التنزيل



[ صفحه 151]



و ما انتهي اليه بواسطة تلك السلسلة المباركة الزاهية عن جده الأعظم (صلي الله عليه و اله و سلم) مما كان يحدث به عن لسان الوحي و بلاغ السماء، و حكم الله في أمور العباد و مصالح البلاد.

و من هنا كان تراث الامامة المأثور عن الامام الجواد (عليه السلام) بهذه الدرجة العليا من التقدير بل التقديس [13] .

و ان الباحث لتأخده الدهشة و هو يغوص في أعماق ما خلفه الامام محمد الجواد من تراث حضاري أصيل علي ما كان عليه من شدة الرقابة و دقيق الرصد من قبل السلطة العباسية، فهي تحصي عليه الأنفاس، و تسجل الخطوات، و تلتقط ما يتفوه به أولا بأول، و تنكل بالأتباع و الموالين من حملة علمه و فقه و حضارته، و مع قصر عمره الشريف، و مراوغه المأمون، و غطرسة المعتصم، و ملاحقة والي المدينة عمر بن فرج الرخجي، فقد برزت للعيان تلك المشاهد الحافلة بالافتاء، و الفقاهة، و المناظرة، و الاحتجاج بكتاب الله و السنة، و تبرعمت تلك المعارف العليا بمفرداتها الضخمة، و هي تزحف بركبها الصاعد لتطوير حياة الانسانية جمعاء، و التي سنتناول بعض مظاهرها علي سبيل النموذج في مباحث لا حقة بأذن الله تعالي.

و يبدو للبحث أن الامام الجواد (عليه السلام)، كان قد استشف من وراء الغيب أن السلطان سيقضي عليه في وقت مبكر. الامام بأطروحته الصادقة في الوعي و الفكر و الشريعة قد أكذب أحدوثتهم في الدجل و الزيف و الانحراف عن الخط الاسلامي، و سفه أحلامهم في بناء الحكم



[ صفحه 152]



علي جماجم الأبرياء و الشهداء، و لقي ما أفاض به من المعارضة في حدودها دويا هائلا في العواصم الاسلامية. و ليس من الطبيعي أن تقف منه السلطة موقف اللامبالاة، و الأمة تنظر اليه بمنظور القداسة و الاجلال ذاتيا، و تكن له الحب في أعماقها تلقائيا، و استيقظت علي ملامح النور الذي يخطف الأبصار في علمه و فضله و امكاناته المعرفية، فالتفت حوله زرافات و وحدانا بما لا مثيل له أو نظير، بحيث استطاع الامام أن يرسخ كثيرا من الثوابت التي جحدت، و أن يجدد جمهرة من العوالم التي درست، و اذا به ينهض بها شاهقة متعالية، و هي تسخر بزوبعة الأعاصير المفتعلة و تهزأ بتضليل تلك الأوهام المرجفة، معتمدا بعد الله تعالي علي صلابته في المبدأ أولا، و علي التأييد الشعبي المتلاحق ثانيا، و علي الأصالة و الموضوعية و الاستقلال لمدرسة أهل البيت ثالثا، و كان دوره في تعميق هذا الاستقلال عظيما لاثباته له بالبرهان و الممارسة و التجديد.

«و استقلالية مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) حقيقة زمنية شاخصة، فهي لا تستمد كيانها من السلطات القائمة، و هي لا تسير بركات الحاكمين، و هي لا تستعين بالقوة لفرض سيطرتها علي الأمة، و هي لا تتوسل بالمال لتعزيز نفوذها، و هي لا تلجأ الي الأساليب الشائعة في العصر للتغلغل في ضمائر الناس. بل قامت علي سجيتها، فطرية الأداء عفوية الارادة» [14] .

و قد أرسي الامام محمد الجواد (عليه السلام) قواعد هذه المدرسة بتراثها الكبير علي أصول صلبة بما أوتي من قوة تعبيرية و ملكة بيانية، و موهبة خارقة في النقض و الابرام، و قدرة متميزة لدي تناول المسائل المعقدة،



[ صفحه 153]



و هو يطرحها طرحا موضوعيا دقيقا، تقف مدارك القوم أمامه حائرة من جهة، و معترفة بالعجز من جهة ثانية، حتي انتشر ذكره العطر في الآفاق انتشار النار في الحطب الجزل، فأذعنت له العلماء، و تحاشاه الفقهاء، و تقاصر عن مداه أهل الكلام.

و قد كثر تداول هذه الحقيقة تاريخيا، و دونتها أقلام الصدق بأحرف من نور في مختلف الأجيال، حتي برز في كل جيل في تأريخ الاسلام من يسجل مآثر الامام محمد الجواد (عليه السلام)، بقدر الطاقة التي تسمح بها الظروف السياسية.

و قد عبر الأستاذ باقر شريف القرشي عن مدي اعتداده بتلك القابليات الخلاقة التي سيرها الامام محمد الجواد في هدف مركزي عميق يتبني وسائل الحفاظ علي تراث أهل البيت غضا جديدا متواصلا، يقول:

«من أروع صور الفكر و العلم في الاسلام الامام أبو جعفر الثاني محمد الجواد (عليه السلام) الذي حوي فضائل الدنيا و مكارمها، و فجر ينابيع الحكمة و العلم في الأرض، فكان المعلم و الرائد للنهضة العلمية و الثقافية في عصره، و قد أقبل عليه العلماء و الفقهاء و رواة الحديث، و طلبة الحكمة، و المعارف، و هم ينتهلون من نمير علومه و آدابه، و قد روي عنه الفقهاء الشي ء الكثير مما يتعلق بأحكام الشريعة الاسلامية من العبادات و المعاملات و غير ذلك من أبواب الفقه، و قد دونت في موسوعات الفقه و الحديث.

لقد كان هذا الامام العظيم أحد المؤسسين لفقه أهل البيت (عليهم السلام) الذي يمثل الابداع و الأصالة و تطور الفكر. و روي عنه العلماء ألوانا ممتعة



[ صفحه 154]



من الحكم و الآداب التي تتعلق بمكارم الأخلاق و آداب السلوك، و هي من أثمن ما أثر عن الاسلام من غرر الحكم التي عالجت مختلف القضايا التربوية و الأخلاقية» [15] .

و هذا ما يدعو البحث الي تسليط الضوء علي عملية النقل الثقافي التي مهد بها الامام محمد الجواد (عليه السلام) لتراث جده رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)، و أميرالمؤمنين (عليه السلام) علي سبيل الاستدلال في اشارات موحية و لقطات معبرة، و هو ما يحاوله المبحث الآتي.



[ صفحه 155]




پاورقي

[1] المفيد / الارشاد / 357.

[2] ابن شهرآشوب / المناقب / 3 / 493، المجلسي / البحار / 50 / 9.

[3] ظ: المؤلف الامام جعفر الصادق زعيم مدرسة أهل البيت / 269 - 243.

[4] سورة الكهف، 65.

[5] الكليني / الكافي / 1 / 264.

[6] المفيد / الاختصاص / 286، المؤلف / الامام موسي بن جعفر ضحية الارهاب السياسي / 59.

[7] الأربلي / كشف الغمة / 2 / 416.

[8] ظ: المؤلف / الامام موسي بن جعفر ضحية الارهاب السياسي / 62.

[9] الأربلي / كشف الغمة / 3 / 162.

[10] المصدر نفسه / 3 / 156.

[11] كان الأستاذ آل ياسين / تحدث عن الجعفر و الجامعة باشارات فصلها في كتابه / الامام جعفر بن محمد الصادق / 169 - 155، اليافعي / مرآة الجنان 2 / 81، ابن طولون الدمشقي / الائمة الاثنا عشر / 103 / بيروت 1377 ه.

[12] ظ: الخطيب البغدادي / تاريخ بغداد / 3 / 54.

[13] محمد حسن آل ياسين / الامام محمد بن علي الجواد / 63.

[14] المؤلف / الامام موسي بن جعفر / ضحية الارهاب السياسي / 53.

[15] باقر شريف القرشي / حياةالامام الجواد / 9.