بازگشت

الامام محمد الجواد في خضم الاختبار العلمي


و كان من افرازات هذه الظاهرة الصادقة في واقعها و أطروحتها الفريدة، أن تعرض الامام محمد الجواد (عليه السلام) و هو في أول الصبا لاختبارات كثيرة من قبل الأولياء و الأعداء، كما تعرض لامتحان الباحثين عن الحقيقة مجردة، و يضاف الي هذا كله حيرة السلطة العباسية و استغرابها في أمره و الكل - الا النادر من الرساليين - بين مشكك و مضطرب، و الناس من خلال هذا و ذاك بين مصدق و مكذب بمؤهلات هذا الصبي للامامة الشرعية، حتي قام الدليل علي صحة الدعوة بعد اثبات الامام نتيجة الاختبارات المكثفة أنه: أعلم الأحياء في التشريع، و أبلغ الناطقين بالقرآن، و أجمع الناس بأشتات المسائل، و أفقه الأمة بفروع الدين و أقدر البشر علي استنباط الأحكام و أصدق العالمين لهجة و لسانا و أكثرهم احاطة بشؤون الدنيا و الدين بلا استثناء.

و لم تأت هذه النتيجة اعتباطا أو ارتجالا و انما جاءت بعد اختبار اثر اختبار، و سؤال بعد سؤال، و استيعاب لما أفاد به الامام، و دراسة شاملة في المحاورة و المناظرة و الاستقصاء لمعارف الامام التي أذهلت كل الفرقاء المتطلعين الي النتائج سواء أكانت ايجابية أم سلبية أم بين السلب و الايجاب.

فهنالك فريق من الأولياء جدوا في طلب الخلف الصالح للامامة بعد وفاة الامام الرضا (عليه السلام) فتيقنوا بما لا يقبل الشك بعد التجربة الامتحانية، أن الامام محمد الجواد (عليه السلام) هو الامام المفترض الطاعة.



[ صفحه 106]



و هنالك فريق من أعداء أهل البيت جدوا من خلال أزمة العمر فيما يزعمون في البحث عن المبررات التي يوقعون بها الامامية في التشكيك بصلاحية هذا الصبي لمنصب الامامة.

و هنالك البلاط العباسي المتربص لتغذية حملة التشكيك بامامة هذا الصبي المعجزة بشتي الأساليب و الطرق التي تتوافر لدي القصر و أعوانه و وعاظ سلاطينه.

و بعد اقناع الفريق الأول تجربة و دراية و نصوصا صك الفريقان الآخران بفارس الحلبة و جواد السبق، حينما طرحت المسائل الكبري علي الامام، فانجلي في اجاباته الدقيقة أغر الجبين، طلق المحيا، فخضع حينذاك رجال الفتيا و أصحاب السلطان و فقهاء البلاط اذعانا بعظيم تفوق الامام الفقهي، و اقرارا بأعلميته المطلقة، بعد أن بزهم بتيار معارفه المتدفق، و رفيع استدراكه المتميز، و جميل استدراجه الاقناعي، و فيض مخزونه الثقافي الذي لا ينضب.

و كان الامام محمد الجواد، و قد علم سرائر القوم و استلهم مخطط العابثين و تطلع في الأفق البعيد الي تلك المحاولات اليائسة، أول من خرق تلك الحجب و - الأستار - بادئ ذي بدئ، ولدي موت أبيه مباشرة، فقد جاء الي مسجد رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)، صعد منبر رسول الله، و رقا منه درجة، و قال فيما يروي عنه:

«أنا محمد بن علي الرضا، أنا الجواد، أنا العالم بأنساب الناس في الأصلاب، أنا أعلم بسرائركم و ظواهركم، و ما أنتم صائرون اليه، علم منحنا به من قبل خلق الخلق أجمعين و بعد فناء السماوات و الأرضين.



[ صفحه 107]



و لولا تظاهر أهل الباطل و دولة أهل الضلال و وثوب أهل الشك، لقلت قولا تعجب منه الأولون و الآخرون، ثم وضع يده الشريفة علي فيه، و قال: يا محمد أصمت كما صمت آباؤك من قبل» [1] .

و هذه اللغة العاصفة أوضحت باصرار و وثوق: منزلة الامام العلمية من جهة، و خصائصه المميزة من جهة أخري، و ما وهب هو و الأئمة (عليهم السلام) من منح ليست من جنس ما يحسن الناس، و لا من وصف ما يعرفون، بما فيها من ادراك الحقائق المغيبة، و رصد الظواهر الخفية، و علم السرائر في بواطنها، و قد أنحي - بعد ذلك - بالأئمة علي أهل الباطل في تألبهم ضد مسيرة أهل البيت الرسالية، و تمرد دولة الضلال و الريب و الشك عليهم، مما دعا أهل الحق الي السكوت، و الي صمته تلقائيا تحت هذا الضغط كما صمت آباؤه من ذي قبل.

و الأمر الجدير بالتنبيه اشارته المعبرة أنه ابن الامام الرضا و سليل هذه العترة فهو - اذن - امتداد لهم، و هو الناطق باسمهم، و هو القائم مقامهم في الامامة.

و لعل سبط ابن الجوزي من أبرع من أدرك هذه الخصيصة، و اعتبر الامام محمد الجواد امتدادا لمدرسة أبيه الامام الرضا. و الرضا امتداد لمدرسة آبائه و جده رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)، فهم يصدرون عن مورد واحد. قال عن الامام الجواد فأوجز:

«كان علي منهاج أبيه في العلم و التقي و الزهد و الجود» [2] .



[ صفحه 108]



و ليس جديدا أن يفوق الامام محمد الجواد (عليه السلام) أبناء عصره في هذه المظاهر الأربعة التي حددها سبط ابن الجوزي فقد كان اشتهاره بالعلم مثار اعجاب الدنيا و حديث المسلمين في مشارق الأرض و مغاربها حتي اعتبر دون مغالاة: الامام المعجزة، و ذلك لكثرة ما ورد عليه من السؤال و دقة ما أجاب عليه من مسائل، بالنسبة لصغر سنه و حداثته فكان اجماعا كونه أعلم الأمة.

يقول الأستاذ محمد حسن آل ياسين:

«و أما كونه أعلم الناس بالشريعة، و أفقههم بأحكام الدين في عصره، فهو الذي أدركه ذلك «الخلق الكثير» الذي قدم من سائر البلدان الي المدينة المنورة بعد وفاة الامام الرضا (عليه السلام) سائلين و باحثين عن الخلف القائم مقامه، فعلموا أنه ابنه محمد الجواد (عليه السلام) فدخلوا عليه مسلمين معزين، و وجهوا اليه أسئلتهم و استفساراتهم، و ربما كان فيها ما هو امتحاني، يريدون به اختبار امامته و كفايته، فأجابهم علي ذلك كله، بما أوضح لهم جلية الأمر، و حملهم علي التصديق و الاذعان به بقناعة و اطمئنان» [3] .

و قد روي علي بن ابراهيم عن أبيه قال:

«لما مات أبوالحسن الرضا (عليه السلام) حججنا فدخلنا علي أبي جعفر (عليه السلام)، و قد حضر خلق من الشيعة من كل بلد لينظروا الي أبي جعفر (عليه السلام)،... و خرج أبوجعفر (عليه السلام) من الحجرة... و قعد علي كرسي، و نظر الناس بعضهم الي بعض تحيرا لصغر سنه...

فقالوا: يا سيدنا أتأذن لنا أن نسألك؟



[ صفحه 109]



فقال: نعم، فسألوه عن ثلاثين ألف مسألة فأجابهم فيها و له تسع سنين» [4] .

و لك أن تتساءل عن مصير أجوبة هذه المسائل المتطاولة، و التي تعدت حدود التصور في رقمها الكبير، و لعل تفاصيلها قد جرت في أماكن متعددة و أزمان متفاوتة في تناوب الشيعة علي الالتقاء بالامام لاستقصاء حاله و حقيقته، و لما كان التأريخ قد ضن علي أهل البيت (عليه السلام)، بتسجيل وقائعهم فقد غمر أكثرها متلاشيا بين الضياع و عدم التدوين.

و كانت مفاجأة العمر الصغير تدعو الي البحث والنظر عند الأكثرين، الا أن الامام الرضا (عليه السلام)، قد سبق الي بيان ذلك و الاستدلال عليه فقد قال له صفوان بن يحيي: «ان كان كون فالي من؟ فأشار الامام الي أبي جعفر (عليه السلام) و هو قائم بين يديه. فقلت: جعلت فداك و هو ابن ثلاث سنين، فقال الامام الرضا: و ما يضره من ذلك؟

و قد قام عيسي بالحجة، و هو ابن أقل من ثلاث سنين» [5] .

و كان جراء هذا الملحظ من العمر أن توافد الناس من الأقطار لمعرفة هذا الأمر الجديد، و فوجئوا بالأمر الواقع - بعد الاختبار - فأذعنوا خاضعين خاشعين لدي قيام الحجة عليهم.

و قد أورد صاحب المناقب طائفة من أعيان الشيعة بأسمائهم ممن وردوا المدينة المنورة بعد وفاة الامام الرضا لاستطلاع جلية الأمر في الامام بعده، فكان الامام محمد الجواد ضالتهم فسلموا [6] .



[ صفحه 110]



و الدلالة البارزة في هذا التجمع يمثل ظاهرة استقرائية في التحري و الاستقصاء و البحث عن الامام القائم بالأمر، اذ يتوارد هذا الخلق الكثير و هو يؤم المدينة متسائلين عن الخلف بعد السلف، و أعناقهم مشرئبة لمطالعة الامام.

و لا أدل علي ذلك مما أورده المجلسي عن عيون المعجزات:

«لما قبض الرضا (عليه السلام) كان سن أبي جعفر (عليه السلام) نحو سبع سنين، فاختلفت الكلمة من الناس ببغداد و في الأمصار، و اجتمع الريان بن الصلت و صفوان بن يحيي و محمد بن حكيم، و عبدالرحمن بن الحجاج، و يونس بن عبدالرحمن، و جماعة من وجوه الشيعة و ثقاتهم في دار عبدالرحمن بن الحجاج في بركة زلول يبكون و يتوجعون من المصيبة فقال لهم يونس بن عبدالرحمن، دعوا البكاء! من لهذا الأمر و الي من نقصد بالمسائل الي أن يكبر هذا؟ يعني أبا جعفر (عليه السلام). فقام اليه الريان بن الصلت و وضع يده في حلقه و لم يزل يلطمه و يقول له: أنت تظهر الايمان لنا و تبطن الشك و الشرك، ان كان أمره من الله جل و علا فلو أنه كان ابن يوم واحد لكان بمنزلة الشيخ العالم و فوقه، و ان لم يكن من عندالله فلو عمر ألف سنة فهو واحد من الناس، و هذا مما ينبغي أن يفكر فيه، فأقبلت العصابة عليه تعذله و توبخه.

و كانت وقت الموسم فاجتمع من فقهاء بغداد و الأمصار و علمائهم ثمانون رجلا فخرجوا الي الحج، و قصدوا المدينة ليشاهدوا أبا جعفر (عليه السلام)، فلما وافوا أتوا دار جعفر الصادق (عليه السلام)، لأنها كانت فارغة و دخلوها و جلسوا علي بساط كبيرة ففتح عليهم باب من صدر المجلس و دخل موفق و قال: هذا أبوجعفر!!



[ صفحه 111]



فقاموا اليه بأجمعهم و استقبلوه و سلموا عليه فدخل صلوات الله عليه، و عليه قميصان و عمامة بذؤابتين، و في رجليه نعلان، و جلس و أمسك الناس كلهم فقام صاحب مسألة فسأله عن مسائله، فأجاب عنها بالحق ففرحوا و دعوا له و أثنوا عليه»... [7] .

و كان عمه عبدالله بن موسي قد سئل عن أشياء فأجاب عنها بغير الواجب، فورد عليهم ما حيرهم و غمهم و اضطربت الفقهاء و العلماء و قاموا و هموا بالانصراف فأنقذهم الله باجابة مسائلهم من قبل الامام. [8] .

و لم يكن الامام منغلقا علي نفسه بل كان منفتحا رحيب الصدر علي قومه و شيعته و أمته و قد اتسع علمه و حلمه لمئات الأسئلة المحرجة لغيره، و اليسيرة عليه، حتي تعدي السؤال دائرة الانصاف الي الاعتات، و كان الامام يقابل ذلك بحكمة و أناة، و لم يكن الامام لينفي عن ذاته المقدسة معرفة أصول العلوم و جذور المعارف بشتي الاختصاصات، حتي شاع أمر ذلك بين الناس، و طار صيته في البلدان.

فهذا عمر بن فرج الرخجي، و هو من أعداء أهل البيت و من المتجاهرين بالنصب لهم، حتي قال أبوالفرج الأصبهاني:

«استعمل المتوكل علي المدينة و مكة عمر بن الفرج الرخجي، فمنع آل أبي طالب من التعرض المسألة الناس، و منع الناس من البر لهم، و كان لا يبلغه أن أحدا أبر أحدا منهم بشي ء - و ان قل - الا أنهكه عقوبة و أثقله غرما.



[ صفحه 112]



حتي كان القميص يكون بين جماعة من العلويات يصلين به واحدة بعد واحدة، ثم يرقعنه و يجلسن علي مغازلهن عواري حواسر» [9] .

أراد عمر هذا احراج الامام تعنتا لا استفهاما و ايضاحا و ذلك في سؤال انكاري أو استغرابي وجهه للامام محمد الجواد (عليه السلام)، فألقمه الامام في رده حجرا، فبهت و لم ينبس ببنت شفة.

تقول عمر هذا: قلت لأبي جعفر: ان شيعتك تدعي أنك تعلم كل ماء من دجلة و وزنه؟!!

و في رواية (انك تعلم مثاقيل وزن ماء دجلة).

و كنا علي شاطي دجلة (أيام المعتصم).

فقال الامام محمد الجواد لي: يقدر الله تعالي أن يفوض علم ذلك الي بعوضة من خلقه أم لا؟

قال عمر بن فرج: قلت نعم يقدر.

فقال (عليه السلام): أنا أكرم علي الله تعالي من بعوضة و من أكثر خلقه» [10] .

فالامام (عليه السلام) لم ينف عن نفسه العلم بمعرفة أوزان مثاقيل ماء دجلة و هو لا تحده حدود الأرقام، و انما استدل علي معرفته بذلك بشكل قطعي باللازم و الدليل، و ذلك باستقرائه بأن الله يستطيع أن يفوض أمر ذلك الي بعوضة ما، و لما كان الامام أكرم علي الله من بعوضة و أكثر خلقه فهو يستطيع علم ذلك.



[ صفحه 113]



لقد تقبل عمر بن الفرج هذا الافلاج مضطرا اليه، لأنه لا يستطيع دفعه بشي ء اطلاقا، و مع هذا فقد استمر علي نصبه و عدائه و عناده للامام، كما تصوره لنا الرواية عن سيدنا و مولانا علي الهادي ولده، فقد أورد الكليني بسنده عن الحسين بن محمد، عن معلي بن محمد، عن أحمد بن محمد بن عبدالله، عن محمد بن سنان، قال: دخلت علي أبي الحسن - يعني الامام علي الهادي (عليه السلام) - فقال: يا محمد حدث بآل فرج حدث؟ فقلت مات عمر فقال: الحمد لله - حتي أحصيت له أربعا و عشرين مرة - فقلت: يا سيد لو علمت أن هذا يسرك لجئت حافيا أعدو اليك!!

قال: يا محمد أو تدري ما قال لعنه الله، لمحمد بن علي أبي؟

قال: قلت: لا.

قال (عليه السلام): خاطبه في شي ء، فقال: أظنك سكران!!

فقال أبي: «اللهم ان كنت تعلم أني أمسيت لك صائما، فأذقه الحرب و ذل الأسر».

«فو الله ما كان أن ذهبت الأيام حتي حرب ما له، و ما كان له، ثم أخذ أسيرا و هو ذا قد مات - لا رحمه الله - و قد أدال الله عزوجل منه، و ما زال يديل أولياءه من أعدائه» [11] .

قال المسعودي: «في سنة ثلاث و ثلاثين و مائتين، سخط المتوكل علي عمر بن الفرج الرخجي، و كان من علية الكتاب، و أخذ منه مالا



[ صفحه 114]



و جواهر مائة ألف و عشرين ألف دينار، و أخذ من أخيه نحو مائة ألف دينار، و خمسين ألف دينار، ثم صالح عمر علي أحد عشر ألف درهما علي أن يرد عليه ضياعه.

ثم غضب مرة ثانية ثم أمر أن يصفع في كل يوم، فأحصي ما صفع فكان ستة آلاف صفعة، و ألبس جبة صوف، ثم رضي عنه، ثم سخط عليه ثالثة و أحدر الي بغداد و أقام بها حتي مات» [12] .

فاستجيب دعاء الامام محمد الجواد فيه، فحرب في ماله، و أذل في أسره و ضرب ضربا مبرحا، حتي مات.

و يبدو مما تقدم أن جميع المحاولات التي قادها النظام العباسي في مجال الاختبار للامام، قد أعطت نتائج مضادة للنظام و فقهاء القصر العباسي، كما أعطت الدلائل الايجابية لأتباع الامام و أوليائه، فقد فاق التصور في امداداته العلمية و أفحم الخصوم في معارفه الموسوعية، و جلي في الميدان الفكري بما عجز ذوو السن و شيوخ المدارس العلمية و الكلامية، بل و أضاف الامام الي ذلك استقراء الغيب المجهول كما ستري و ستسمع.!!



[ صفحه 115]




پاورقي

[1] المجلسي / بحارالأنوار / 50 / 108.

[2] سبط ابن الجوزي / تذكرة الخواص / 386.

[3] محمد حسن آل ياسين / الامام محمد بن علي الجواد / 31.

[4] المفيد / الاختصاص / 102، المجلسي / البحار / 50 / 86 - 85.

[5] الكليني / الكافي / 1 / 321، المفيد / الارشاد / 357، المجلسي / البحار / 50 / 21.

[6] ظ: ابن شهرآشوب / المناقب / 3 / 489.

[7] المجلسي / بحارالأنوار / 50 / 100 - 99.

[8] المصدر السابق.

[9] أبو الفرج الأصبهاني / مقاتل الطالبيين / 396.

[10] المجلسين بحارالأنوار / 50 / 101 - 100 / و انظر مصدره.

[11] الكليني / الكافي / 1 / 496.

[12] ظ: المجلسي / التجار / 50 / 221 / و انظر الهامش مصدره.