بازگشت

الامامة في سن الصبا... ظاهرة اعجازية


الاعجاز بمفهوم بديهي: عبارة عن خرق نواميس الكون و تغيير قوانين الطبيعة، و قلب للنظام الثابت في الموازين الي نظام متحول. فالثابت هو الأصل الجاري علي سنن الحياة العامة، و المتحول هو الحالة المغايرة لأنظمة المعادلات الكونية المتكافئة.

هناك اذن معلمان: معلم طبيعي بسيط، و معلم خارق معقد، و المعلم الطبيعي هو الذي لا تجد عنه متحولا لأنه سنة الله عزوجل في الابداع و التكوين، و المعلم الخارق ما تجد فيه قبلا لتلك القواعد و مجابهة لمجريات الأحداث الرتيبة بأخري اعجازية متطورة، فزوجية الكائنات هي الأصل في بعث حقائق الأشياء، و الطريق الي تسيير حياة الكائنات المرئية و المسموعة و المدركة و المتخيلة بدليل قوله تعالي:

(سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض و من أنفسهم و مما لا يعلمون) [1] .

و في هذاالضوء يكون الايجاد الطبيعي للانسان منسجما مع نظام الزوجية العام في حالة اعتيادية جاءت نتيجة للتزواج، و يكون الأصل التكويني للبشرية في خلق آدم (عليه السلام) من التراب دون الطريق الطبيعي في الاقتران و التناسل هو الحالة الفريدة، و هي الاعجاز، و يحمل عليهما كلما



[ صفحه 96]



قابل العادة، و لم يخضع الي التجربة الطبيعية كما في خلق عيسي (عليه السلام) من أم دون أب، بما مثله القرآن بقوله تعالي:

(ان مثل عيسي عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) [2] و تلك حالة اعجازية دون ريب. [3] .

و في تقلد الامام محمد الجواد (عليه السلام) منصب الامامة في سن الصبا نجد ملحظا اعجازيا متحولا اذ ليست الامامة المبكرة حدثا اعتياديا لا يسترعي النظر و الانتباه و ليست أمرا عابرا لا يدعو الي الدهشة و التساؤل، بل هي ظاهرة فريدة تمثل حالة متكررة في تاريخ أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، و قد بدأت أبعاد هذه الظاهرة أولا في الاعلان عن الامام محمد الجواد فيما بين السابعة و الثامنة من عمره اماما مفترض الطاعة لأتباع مذهب أهل البيت سنة ثلاث و مائتين لدي وفاة أبيه الامام علي بن موسي الرضا (عليه السلام) [4] .

و تكررت في الاعلان عن الامام علي الهادي (عليه السلام) و هو فيما بين الثامنة و التاسعة من عمره اماما عاشرا لائمة أهل البيت لدي وفاة أبيه الامام محمد الجواد سنة عشرين و مائتين من الهجرة النبوية، و ختمت بالاعلان عن صاحب الأمر عجل الله فرجه، و هو فيما بين الخامسة



[ صفحه 97]



و السادسة من عمره باعتباره الامام الثاني عشر لأئمة أهل البيت (عليهم السلام)، و ذلك لدي وفاة أبيه الامام الحسن العسكري سنة ستين و مائتين من الهجرة النبوية و به تتم حلقات السلسلة الذهبية لمرجعية الأئمة الاثني عشر الذين أجمعت الروايات علي استخلافهم الشرعي عند الامامية و ان لم يقدر لأغلبهم ممارسة الحكم الاسلامي كما أراد الله تعالي ذلك لولاة الأمر و من الأئمة الاثني عشر حصرا، فالامام امام سواء أتسلم الحكم أو لم يتسلم:

ان المفاجئات السياسية قد حالت دون تحقيق تسلم الأئمة لأزمة الأمور في ادارة الدولة الاسلامية، و حبكة المؤامرات الداخلية قد شكلت محورا تراجيديا مبتكرا يقضي بالتسليم لرسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)، و في الوقت نفسه يقضي ابعاد آله و أبنائه و هم ذوو القربي بنص القرآن عن سدة الحكم و شؤون الدولة و قيادة الأمة، و هو فرض متناقض من جهات كثيرة ليس هذا موقع بحثها، و لكنها حدثت فعزلت أئمة أهل البيت (عليهم السلام) عن ممارسة حقهم في قيادة الدولة الاسلامية.

و الحق أن الولاية الالهية الكبري قد حسمت في القرآن العظيم بما لا يقبل الجدل، فقد أجمعت الأمة أن قوله تعالي:

(انما وليكم الله و رسوله و الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون - و من يتول الله و رسوله والذين آمنوا فان حزب الله هم الغالبون) [5] قد نزل في حق أميرالمؤمنين الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام) لدي تصدقه بخاتمه الشريف، و ان ذهبوا بمفاهيم الولاية



[ صفحه 98]



و تفسيرها و تشتيتها و تبعيضها بما يخالف أصول لغة العرب في دلالتها الأولية و حتي الثانوية، و مع هذا فانهم لا يستطيعون الفصل بن الآية و بين ما تحدثت به بلسان مبين عن الولاية باختصاصها النصي: لله تعالي، و لرسوله، و لأمير المؤمنين حصرا.

و يتفرع علي هذا المنطلق الثابت اطاعة لله و الرسول و أولي الأمر علي المسلمين دون غيرهم بقوله تعالي:

(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم فان تنازعتم في شي ء فردوه الي الله و الرسول ان كنتم تؤمنون بالله و اليوم الآخر ذلك خير و احسن تأويلا) [6] .

و الفطرة الانسانية الخالصة عند المتمرس في أوليات لغة القرآن تأبي اللف و الدوران في مخالفة ظاهر النص و دلالة اللفظ في هذه الآية الكريمة، فالطاعة لله أولا، و للرسول ثانيا، و لأولي الأمر ثالثا، و هي حلقة مترابطة الأجزاء تأبي الانفصال العضوي، و لا يمكن أن يدعو القرآن - و هو المنقذ الأكبر للبشرية - الي اطاعة الظلمة و أولياء الجور و طواغيت الأمة، و أن يعطف هؤلاء علي الله و علي الرسول في الاطاعة، و الله تعالي هو المشرع الأعظم، و الرسول هو المبلغ الأمين، و لا يعطف عليهما الا من التزم نهجهما و سار علي طريق الهدي و الاسلام حذو القذة بالقذة، و الدليل الاستقرائي أثبت بما لا يقبل الشك أن هؤلاء هم أئمة أهل البيت (عليهم السلام) دون سواهم، اذ لا معني أن يدعو القرآن الي اطاعة العباسيين و قبلهم الأمويين و من بعدهم العثمانيين و هم يعصون أمر الله، و يظلمون عباد



[ صفحه 99]



الله، و يبتزون الأمة مال الله، و يسفكون الدم الحرام، لهذا اشترط الامامية العصمة للائمة (عليه السلام)، في ضوء اعلان القرآن لذلك في نص صريح غير قابل للتأويل، و هو قوله تعالي:

(... انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا) [7] و قد جاء هذا نتيجة منطقية للولاية الالهية الكبري فالحصر بانما في آية الولاية غير قابل للتجزئة أو الاضافة، و الاطاعة لله و للرسول لأولي الأمر، جاء امتدادا لتطبيق مفهوم تلك الولاية علي المصداق الذي لا يتعدد، و حصر آية التطهير هذه دليل ارادة العصمة و النقاء الخالص من الآثام و الابتعاد عنها علي الاطلاق، مما يستدل فيه علي استبعاد الأمراء الفسقة و الظلمة و المارقين عن ربقة التشريع بالذنوب و المعاصي، و بدلالة القرآن نفسه في تنزيه عهده الله بالامامة أن لا ينال الظالمين قال تعالي:

(و اذ ابتلي ابراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال اني جاعلك للناس اماما قال و من ذريتي قاللا ينال عهدي الظالمين) [8] .

هذا الترابط المتشابك المذهل في موضوع الامامة في القرآن يدحض تلك المحاولات البائسة التي تقول: ان الله و رسوله تركا المسلمين هملا دون الرجوع الي القائمين بأمر الله، المؤدين لرسالته في الأصول و الفروع و الفروض و الحقوق و الواجبات و ادارة شؤون الشريعة الغراء، و الا لزم الغاء ثوابت الشرع المقدس في الرجوع لأولي الأمر في الطاعة، لأنهم



[ صفحه 100]



خلفاء الله في أرضه، لا الطغاة من الحكام الذي استولوا علي السلطة بالقهر و الارهاب الدموي، و اذا كا الأمر كذلك، فقد أخذ الله في الامامة ما أخذه في النبوة و احتج لها بما يحتج به للنبوة سواء بسواء، و قد قال الامام محمد الجواد (عليه السلام) لعلي بن أسباط:

«يا علي ان الله احتج في الامامة بمثل ما احتج في النبوة، قال تعالي (و أتيناه الحكم صبيا) [9] .

و قال تعالي: (حتي اذا بلغ أشدة و بلغ أربعين سنة) [10] .

فقد يجوز أن يعطي الحكم صبيا و يجوز أن يعطي الامامة و هو ابن أربعين سنة» [11] .

و بعد الاستدلال علي صحة الامامة بصحة النبوة في الصبا، تسقط الخيارات في الافتراضات الباطلة جملة و تفصيلا.

ان هذه الرواية التي برهن بها الامام الجواد قرآنيا علي صحة امامته، ما كانت لتكون لولا ظاهرة تسنمه (عليه السلام) لمنصب الامامة الشرعية في سن الصبا، و التي كانت مثارا للدهشة و الانبهار من أوليائه فضلا عن أعدائه، و يضاف اليهما السلطة القائمة المعبرة عن حيرتها كما ستري.

و استغل الخلفاء العباسيون المعاصرون للامام محمد الجواد (عليه السلام) هذه الظاهرة، و جعلوا منها موضوعا غضا طريا للسخرية حينا،



[ صفحه 101]



و الاستهزاء حينا آخر، و للتشهير المعاكس بينهما، باعتبارها مادة جديدة في قلب المعادلات النوعية، و تفجر ذلك ضد مبدأ أهل البيت في شرائط الامامة الصعبة بكون الامام:

أعلم الناس، و أفضل الناس، و أتقي الناس، و أورع الناس، و أشجعهم، و أسخاهم، و أتمهم جمعا للفضائل، و أقدرهم حلا للمشكلات، و أبلغهم قولا و منطقا و بيانا و أفقههم في الدين، و أعرفهم بمسائل الحلال و الحرام... الخ.

و أثاروا التساؤلات في وجه هذا الحدث الانساني المدهش!!

فما قدر ما يحسن هذا الامام الصبي؟ و هو في أول سن التعليم!!

هل يستطيع هذا الامام الصبي؟ و هو في أول سن التعليم!!

هل يستطيع هذا الامام الصبي اثبات الكفاية النادرة في المواهب؟ هل يتمتع هذا الصبي المعجزة بخصائص العلم اللدني و ملكاته؟

أين درس هذا الصبي؟ و أني تعلم؟ و قد تركه أبوه الامام الرضا (عليه السلام) في المدينة المنورة و هو بين الرابعة أو الخامسة؟

و ما بال هؤلاء الشيوخ و العلماء و الفقهاء و أهل الرأي - من الامامية - و هم يقفون بين يدي هذا لاصبي المحير بكل خضوع و تبجيل و احترام؟؟

هل بامكان الصدفة و الفرض الطارئ أن يخلقا من هذا الصبي اماما مفترض الطاعة، و كيف؟

اذن و الحالة هذه فبالامكان تسفيه نظرية أهل البيت في الامامة، ما دام الامام الجديد في السابعة من العمر، أو قد تجاوز ذلك بشهور معدودة و أيام.



[ صفحه 102]



و جندت الطاقات لابطال هذا الفرض المستحيل في تخيلهم، و بدا لهم أن مؤشرات الاسقاط لائحة فيما يخططون له من مؤامرات!!

و أزمة الطفولة هذه قد تعبر عن نجاح أي مشروع مضاد، و حشدوا لذلك سيلا من الأسئلة و الاختبارات الوجاهية - كما ستري في موقعه من البحث - و قد ردت جميعها من قبل الامام بجدارة لا مثيل لها في تأريخ الاسلام.

و لقد كلف هذا التحدي الخلافة العباسية ثمنا باهضا هو الاقرار و الاعتراف بامامة محمد الجواد (عليه السلام) علي صغر سنه و من هنا كان الخطر محدقا بها، اذ لم تستطع البرهنة و لو جزئيا علي بطلان ظاهرة الامامة المبكرة، أو زحزحتها من الأرض الصلبة التي ترسو عليها، مما أوقعها في حرج تام و فشل ذريع نظرا للتفاعل التام الذي خلفته هذه الظاهرة في المناخ الاسلامي العام، و هو يصحو من رقدته علي أنباء فتح جديد لمذهب أهل البيت لم يكن في الحسبان، مما جعله يمتلك القاعدة الجماهيرية في أغلبية ساحقة، بعد أن وضح للعيان أن الامام محمد الجواد كان بحيث ينبغي أن يكون موقع الامام في الذروة في فصل الخطاب و قصب السبق في المحافل العلمية حتي لم يكن ليجاري في حلبته، و لا ليماري في مواهبه و خصائصه، و من هنا كانت ظاهرة الصبا في الامامة، أو ظاهرة الامامة في الصبا عاملا قويا في انعاش مبدأ أهل البيت، و عنصرا مؤثرا في ترسيخ أصوله الثابتة، بينما كان المفروض عكسيا لو كان الأمر طبيعيا، و لكنه الاعجاز الأمامي الذي استبق مقاييس الكون في خرقه للمنطق البشري الاعتيادي.



[ صفحه 103]



يقول الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر قدس سره:

«ان ظاهرة الامامة المبكرة كانت ظاهرة واقعية، و لم تكن و هما من الأوهام، لأن الامام الذي يبرز علي المسرح و هو صغير فيعلن عن نفسه اماما روحيا و فكريا للمسلمين، و يدين له بالولاء و الامامة كل ذلك التيار الواسع، لابد أن يكون علي قدر واضح و ملحوظ، بل و كبير من العلم و المعرفة وسعة الأفق، و التمكن من الفقه و التفسير و العقائد، لأنه لو لم يكن كذلك لما أمكن أن تقتنع بتلك القواعد الشعبية بامامته....

و اذا افترضنا أن القواعد الشعبية لامامة أهل البيت لم يتح لها أن تكتشف واقع الأمر، فلماذا سكتت الخلافة القائمة و لم تعمل لكشف الحقيقة اذا كانت في صالحها؟

و ما كان أيسر ذلك علي السلطة القائمة لو كان الامام الصبي صبيا في فكره و ثقافته كما هو المعهود في الصبيان!!

و ما كان أنجحة من أسلوب أن تقدم هذا الصبي الي شيعته و غير شيعته علي حقيقته، و تبرهن علي عدم كفاءته للامامة و الزعامة الروحية و الفكرية فلئن كان من الصعب الاقناع بعدم كفاءة شخص في الأربعين أو الخمسين قد أحاط بقدر كبير من ثقافة عصره لتسلم الامامة، فليس هناك صعوبة في الاقناع بعدم ثقافة صبي اعتيادي - مهما كان ذكيا و فطنا - للامامة بمعناها الذي يعرفه الشيعة الاماميون، و كان هذا أسهل و أيسر من الطرق المعقدة و أساليب القمع المجازفة التي انتهجتها السلطات و قتئذ.



[ صفحه 104]



ان التفسير الوحيد لسكوت الخلافة المعاصرة عن اللعب بهذه الورقة هو أنها أدركت ان الامامة المبكرة ظاهرة حقيقية، و ليست شيئا مصطنعا» [12] .

و لم تكن الامامة في هذا السن ظاهرة حقيقية فحسب، بل عادت بعد الامام محمد الجواد (عليه السلام) ظاهرة تاريخية امتدت قرابة أربعين عاما، اذ شاركه فيها ولده الأمام علي الهادي (عليه السلام) فأسندت اليه الامامة في سن الثامنة من العمر، و شاركه في ذلك أيضا حفيده الامام المهدي المنتظر عجل الله فرجه، فأسندت اليه الامامة و هو في سن الخامسة من العمر، مما شكل بعدا واقعيا و تاريخيا في وقت واحد، و ليس ذلك جديدا علي الساحة الالهية بل شأنه شأن الرسالات السماوية في الأنبياء و المرسلين في سن مبكرة.



[ صفحه 105]




پاورقي

[1] سورة يس، 36.

[2] سورة آل عمران، 59.

[3] ظ: المؤلف، ملامح الاعجاز في القرآن العظيم (بحث) من كتابه: نظرات معاصرة في القرآن الكريم، 10.

[4] ظ: اليعقوبي / التأريخ / 3 / 18، الطبري / التأريخ / 8 / 568، الكليني / الكافي / 1 / 486، المسعودي / مروج الذهب / 3 / 350، الصدوق / عيون أخبار الرضا / 1 / 298، الطوسي / التهذيب / 6 / 83.

[5] سورة المائدة، 56 - 55.

[6] سورة النساء، 59.

[7] سورة الأحزاب، 33.

[8] سورة البقرة، 124.

[9] سورة مريم، 12.

[10] سورة الأحقاف، 15.

[11] المجلسي / بحارالأنوار / 50 / 20 و انظر مصدره.

[12] محمد باقر الصدر / بحث حول المهدي / 98 - 97.