بازگشت

الامام يلتقي المأمون لأول مرة


يصل الامام الجواد عليه السلام الي بغداد و المأمون مشغول بشؤونه الخاصة، بلعبه و ترفه و قيانه و جواريه، و يأنف ابن الرسالة و الاباء أن يقف علي باب طاغوت مغتصب، فيستأذن عليه بالدخول، و يقرر الامام أن يأتيه الخليفة بنفسه أو أن يلقاه في الطريق.

و يتابع الامام عليه السلام خروج (الخليفة) من قصره للقاء به.

و تحين الفرصة.. و يعلم ابن الرضا أن المأمون خارج للنزهة و الصيد، فيقف له في طريق مروره، و لعل الحادث الذي سنشير اليه وقع من قبيل اتفاق الصدف.

و ينقل لنا المؤرخون هذه الواقعة بشي ء من التفصيل باعتبارها أول حدث كبير يصادف الامام في حياته، خاصة مع أكبر و أول شخصيه في الامبراطورية الاسلامية، ألا و هو خليفة المسلمين المأمون العباسي.

من ذلك تستنتج ما جاء في منتهي الآمال للمحدث الشيخ عباس القمي (عليه الرحمة) من أن المأمون أراد - بعد أن أخذ الناس بلومه و الطعن عليه لقتله الامام الرضا عليه السلام - أن يدفع تهمة الخطأ و الجرم عنه، فكتب بعد ما جاء من خراسان الي بغداد، يدعو الامام محمد التقي عليه السلام أن يحمل اليه باعزاز و اكرام. فلما وصل الامام الي بغداد، و لم يكن المأمون قد علم بعد بوصوله، أو علم ذلك



[ صفحه 108]



لكنه تركه أياما يستريح من وعثاء السفر، فأنسته ملاذه و لياليه الحمراء، وجود الامام الجواد في بغداد، فمكث أياما أخري.

يقول المحدث القمي: خرج المأمون يوما للصيد، فاجتاز بطرف البلد، و ثم صبيان يلعبون و محمد الجواد عليه السلام واقف عندهم، فلما أقبل المأمون فر الصبيان و وقف محمد الجواد عليه السلام و عمره اذ ذاك تسع سنين.

فلما قرب منه الخليفة نظر اليه و كان الله تعالي ألقي في قلبه مسحة قبول، فقال له: يا غلام ما منعك أن لا تفر كما فر أصحابك؟

فقال له محمد الجواد عليه السلام مسرعا: «يا أميرالمؤمنين فر أصحابي خوفا، و الظن بك حسن أنه لا يفر منك من لا ذنب له، و لم يكن بالطريق ضيق فأتنحي عن أميرالمؤمنين».

فأعجب المأمون كلامه و حسن صورته، فقال: ما اسمك يا غلام؟

فقال: «محمد بن علي الرضا».

فترحم الخليفه علي أبيه، و ساق جواده الي ناحية وجهته، و كان معه بزاة الصيد فلما بعد عن العمارة أخذ الخليفة بازيا منها و أرسله علي دراجة، فغاب البازي عنه قليلا، ثم عاد و في منقاره سمكة صغيرة و بها بقايا من الحياة، فتعجب المأمون من ذلك غاية العجب.

ثم انه أخذ السمكة في يده وكر راجعا الي داره و ترك الصيد في ذلك اليوم و هو متفكر فيما صاده البازي من الجو فلما وصل موضع الصبيان و جدهم علي حالهم، و وجد محمدا معهم فتفرقوا علي جاري عادتهم الا محمدا، فلما دنا منه الخليفة، قال: يا محمد!



[ صفحه 109]



قال: «لبيك» [1] .

قال: ما في يدي؟

فانطقه الله تعالي بأن قال: «ان الله تعالي خلق في بحر قدرته المستمسك في الجو ببديع حكمته سمكا صغارا تصيدها بزاة الخلفاء كي يختبر بها سلالة بيت المصطفي».

فلما سمع المأمون كلامه تعجب منه أكثر، و جعل يطيل النظر فيه، و قال: أنت ابن الرضا حقا و من بيت المصطفي صدقا، و أخذه معه و أحسن اليه و قربه و بالغ في اكرامه و اجلاله و اعظامه [2] انتهي ما أورده المحدث القمي.

و زاد ابن الصباغ المالكي لدي نقله نص الرواية بقوله:

فلم يزل مشفقا به لما ظهر له أيضا بعد ذلك من بركاته و مكاشفاته و كراماته و فضله و علمه و كمال عقله و ظهور برهانه مع صغر سنه. [3] .

و أما ابن شهر آشوب فقد أورد الواقعة كالتالي:

اجتاز المأمون بابن الرضا عليه السلام و هو بين صبيان فهربوا سواه، فقال: علي به، فقال له: ما لك ما هربت في جملة الصبيان؟

قال: «ما لي ذنب فأفر و لا الطريق ضيق فأوسعه عليك، تمر من حيث شئت.»

فقال: من تكون؟

قال: «أنا محمد بن علي بن موسي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب عليه السلام».



[ صفحه 110]



فقال: ما تعرف من العلوم.

قال: «سلني عن أخبار السموات».

فودعه و مضي، و علي يده باز أشهب يطلب به الصيد، فلما بعد عنه نهض عن يده الباز، فنظر يمينه و شماله لم ير صيدا و الباز يثب عن يده، فأرسله و طار يطلب الأفق حتي غاب عن ناظره ساعة، ثم عاد اليه و قد صاد حية، فوضع الحية في بيت الطعم، و قال لأصحابه: قد دنا حتف ذلك الصبي في هذا اليوم علي يدي.

ثم عاد و ابن الرضا في جملة الصبيان، فقال: ما عندك من أخبار السموات؟

فقال: «نعم يا أميرالمؤمنين، حدثني أبي، عن آبائه، عن النبي، عن جبرئيل، عن رب العالمين أنه قال: بين السماء و الهواء بحر عجاج، يتلاطم به الأمواج، فيه حيات خضر البطون، رقط الظهور، يصيدها الملوك بالبزاة الشهب، يمتحن بها العلماء».

فقال: صدقت و صدق آباؤك و صدق جدك و صدق ربك، فأركبه ثم زوجه أم الفضل. [4] .

و ينبهر المأمون بعلم الامام الجواد، و شدة نباهته، و حسن خلقه، و بلاغة منطقه. فالمأمون كان متأدبا ذا ثقافة و علم؛ لكن شهوة الملك، و حب الدنيا و تعلقه بها، أنسته الآخرة، و أوقعته في حبائل الشيطان. و يقرر أخيرا، و في مناورة منه، أن يزوجه ابنته أم الفضل، ظانا أنها ستشغفه حبا فيلهو بها و ينصرف عن مقاصده، خاصة و أنه أسكنه ضمن قصوره، و بذل له من المال و الخدم و الحشم ما الله يعلمه. فقد عاش الامام في ظل رعاية المأمون في غاية الرفاه و نعومة العيش، و انعكس



[ صفحه 111]



ذلك بدوره علي شيعة أهل البيت عليهم السلام، و العلويين من أهل بيته. و قد مر عليك و سيأتيك بعد قليل في موضوع جوده و كرمه، أنه كان يرسل الي المدينة وحدها مليون درهم سنويا غير الغلال و الثياب و النعم لتوزيعها علي العلويين و فقراء المدينة المنورة.


پاورقي

[1] و في بعض الروايات أنه خاطبه بامرة المؤمنين.

[2] منتهي الآمال: 2 / 528.

[3] الفصول المهمة: ص 263.

[4] مناقب آل أبي طالب: 4 / 388، و عن بحارالأنوار: 50 / 56.