بازگشت

يا محمد أصمت!.. و سقط الافك


و جاء أهل الافك بطامة.. ظنوا أن ليس لها لآمة.

و أتوا بفرية.. بهتها الحق.. و أثار عثيرا أعمي عيون المفترين،

و بقي شجا يجرح لهواتهم.. و يشرقهم بغصص مدة حياتهم،

ثم رافقهم اثم فريتهم و افكهم الي قبورهم.. و الي ما بعد نشورهم!.

قد أتي بمثلها قبل انقطاع الوحي.. فرمي القرآن أهلها بعارها و شنارها.. و أخزاهم خزيا خالدا.

ثم جي ء بهذه يوم مولد امامنا عليه السلام.. فباء الآفكون بخزي كخزي الافك الذي غبر.. و لبسوا اثم من افتري و استكبر.. بعد أن عانت ضمائرهم عذابا بئيسا.. لو كان لهم ضمائر تنبض فيها الحياة!.

ذلك أن الامام الجواد عليه السلام ولد و علي سحنائه الناعمة مسحة من السمرة الأصيلة المحببة، جعل منها «معاويات الزمان» قميصا ثانيا «لسيدنا عثمان».. فقالوا كقول آبائهم الأولين حين رموا بالافك زوج سيد المرسلين صلي الله عليه و آله و سلم.

نعم، مذ خلق الامام عليه السلام و علي مخايل وجهه تلك السمرة الجذابة المهيبة التي جعلته آية فتانة في الحسن و الجمال، نفذ الشيطان الي قلوب بعض أهل الأهواء فادعوا أمرا عظيما دبروه في ليلة طخياء!. فقالوا فيه كما قيل من قبل في ابراهيم عليه السلام: انه ليس من رسول الله!!؟ بل هو من جريح خادم «مارية» القبطية الشريفة!.



[ صفحه 134]



و لكن الافك في هذه المرة جاء من موتورين، و مرتابين، ليسوا من الأباعد، و انما هم من الأعمام و بني الأعمام و بقية الحسدة من الأقارب..

قالوا قولا وقيحا، و هجروا هجرا قبيحا حين قالوا:

«ما كان فينا امام - قط - حائل اللون!».

و أعلنوا ذلك لأبيه.. بغيا عليه و علي زوجه و ابنه!.

فما زاد الرضا عليه السلام علي أن قال: «هو ابني».

فاستمع لما رواه الشيخ الجليل علي بن جعفر - عن هذه الفرية - و هو عم الامام الرضا عليه السلام - اذ قال لعمه الحسن بن الحسين بن علي بن الحسين:

«و الله لقد نصر الله أباالحسن الرضا عليه السلام.

فقال له الحسن: اي والله، جعلت فداك، لقد بغي عليه اخوته.

فقال علي بن جعفر: اي و الله، و نحن عمومته بغينا عليه.

فقال له الحسن: جعلت فداك، كيف صنعتم، فاني لم أحضركم؟.

قال: قال له اخوته، و نحن أيضا: ما كان فينا امام قط حائل اللون!.

فقال لهم الرضا عليه السلام: هو ابني.

قالوا: فان رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم قد قضي بالقافة - أي بالذين يعرفون الآثار و السيماء و يحكمون بالنسب - فبيننا و بينك القافة.

قال: ابعثوا أنتم اليهم. أما أنا فلا. و لا تعلموهم لما دعوتموهم، و لتكونوا في بيوتكم.

فلما جاء القافة أقعدونا في البستان، و اصطفت عمومته، و اخوته و أخواته.

و أخذوا الرضا عليه السلام و ألبسوه جبة صوف و قلنسوة منها، و وضعوا علي عنقه مسحاة و قالوا له: ادخل البستان كأنك تعمل فيه.

ثم جاؤوا بأبي جعفر عليه السلام - و هو طفل - فقالوا للقافة: ألحقوا هذا الغلام بأبيه.

فنظر اليه القافة و زرقوه بأعينهم فانبهروا!.



[ صفحه 135]



ثم قالوا: يا ويحكم، أمثل هذا الكوكب الدري و النور الزاهر يعرض علي مثلنا؟!!

هذا و الله الحسب الزكي و النسب المهذب الطاهر، ولدته النجوم الزواهر و الأرحام الطواهر.

و الله ما هو الا من ذرية النبي صلي الله عليه و آله و سلم و أميرالمؤمنين.

و هو يومئذ ابن خمسة و عشرين شهرا، فقط.

رمقة القافة مليا و قالوا ليس له ها هنا أب.

و لكن هذا عم أبيه،

و هذا عمه،

و هذه عمته.

و ان يكن له ها هنا أب فهو صاحب البستان فان قدميه و قدمه واحدة.

فلما رجع أبوالحسن عليه السلام، قالوا: هذا أبوه.

فنطق الطفل بلسان فصح أرهف من السيف و قال:

الحمد لله الذي خلقنا من نوره، و اصطفانا من بريته، و جعلنا أمناء علي خلقه و وحيه.

أيها الناس: أنا محمد بن علي الرضا، بن موسي الكاظم، بن جعفر الصادق، بن محمد الباقر، بن علي سيد العابدين، بن الحسين الشهيد، بن أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب، بن فاطمة الزهراء بنت محمد المصطفي، عليهم السلام أجمعين.

أفي مثلي يشك؟.

و علي الله تبارك و تعالي، و علي جدي و أبوي يفتري؟!.

و أعرض علي القافة؟!!

أنا العالم بأنساب الناس في الأصلاب،

و اني و الله لأعلم ما في سرائرهم و خواطرهم.

و اني و الله لأعلم الناس أجمعين بما هم اليه صائرون!.

أقول حقا، و أظهر صدقا، علما قد نبأه الله تبارك و تعالي قبل الخلق أجمعين،



[ صفحه 136]



و قبل بناء السماوات و الأرضين.

و أيم الله لولا تظاهر الباطل علينا، و دولة أهل الضلال و غواية ذرية الكفر، و توثب أهل الشرك و الشك و الشقاق علينا، لقلت قولا يعجب منه الأولون و الآخرون.

ثم وضع يده علي فيه ثم قال:

يا محمد اصمت كما صمت آباؤك.

(فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، و لا تستعجل لهم، كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا الا ساعة من نهار، بلاغ، فهل يهلك الا القوم الفاسقون؟) [1] .

قال علي بن جعفر: فقمت فمضضت ريق أبي جعفر عليه السلام ثم قلت:

أشهد أنك امامي عند الله!.

فبكي الرضا عليه السلام ثم قال: يا عم ألم تسمع أبي و هو يقول:

قال رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم:

بأبي ابن خيرة الاماء، ابن النوبية الطيبة الفم المنتجبة الرحم!.

أفيكون هذا يا عم الا مني؟.

فقلت: صدقت، جعلت فداك.

ثم أتي أبوجعفر عليه السلام الي رجل بجانبه فقبض علي يده، فما زال يمشي يتخطي رقاب الناس و هم يفرجون له..

فرأيت مشيخة أجلائهم ينظرون اليه و يقولون: (الله أعلم حيث يجعل رسالته). [2] و هم من بني هاشم، من أولاد عبدالمطلب.

فعندها قال الامام الرضا عليه السلام - و قد ذكر ما قذفت به مارية القبطية



[ صفحه 137]



زوج رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم -:

الحمد لله الذي جعل في ابني محمد أسوة برسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و ابنه ابراهيم عليه السلام. فان مارية القبطية لما أهديت الي جدي رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، أهديت مع جوار قسمهن علي أصحابه و ضن بمارية من دونهن، و كان معها خادم يقال له جريح يؤدبها بآداب الملوك. و قد أسلمت علي يد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و أسلم جريح معها، و حسن ايمانها و اسلامها فملكت قلب رسول الله، فحسدها بعض نسائه و رميت بالافك و أن حملها كان من جريح، فتبين أن جريح أمسح أجب و ليس له ما للرجال.. فافتضح الافك المفتري..» [3] .

فياليت أهل الافك كانوا يحملون عقل «عسكر» - مولي الامام أبي جعفر عليه السلام الذي كان يقوم علي خدمته و يري سمرته و سائر صفاته أكثر من أي شخص آخر، فانه قال في حديث له:

«دخلت عليه فقلت في نفسي: يا سبحان الله ما أشد سمرة مولاي و أضوأ جسده؟!!

فو الله ما استتممت الكلام في نفسي، حتي رأيت لونه قد أظلم حتي صار كالليل المظلم، ثم ابيض حتي صار كأبيض ما يكون من الثلج، ثم احمر حتي صار كالعلق المحمر... فسقطت علي وجهي مما رأيت، فصاح بي:

يا عسكر، تشكون فننبئكم، و تضعفون فنقويكم. و الله ما وصل الي حقيقة معرفتنا الا من من الله عليه بنا و ارتضاه لنا وليا [4] .



[ صفحه 138]



و سقط الافك... (فوقع الحق، و بطل ما كانوا يعملون) [5] .

(و ظهر أمر الله و هم كارهون) [6] .

و لكن... يلاحظ في هذا الحادث أمران:

أولهما: هذا الحسد للأئمة عليهم السلام الذي يوقع الحاسدين فيما لا يجوز من البهتان.. بل في ما قد يؤدي الي الكفر و العصيان.

فهم المحسودون الذين عناهم الله تعالي بقوله: (أم يحسدون الناس علي ما آتاهم الله من فضله، فقد آتينا آل ابراهيم الكتاب و الحكمة، و آتيناهم ملكا عظيما) [7] .

اذ قال الامامان الصادقان عليهماالسلام في تفسير هذه الآية الكريمة:

«نحن المحسودون».

و دائما يسقط الحسد.. و بعيون الحاسدين الرمل، و لأبصارهم العمي الذي أصاب بصائرهم!.

و ثانيهما: هو ما يبرز من خلال هذا التحرك الذي نتج عنه ظهور معجزة الهية ظهورا لا يحتاج الي تفسير،

فقد قال الامام - الطفل: يا محمد اصمت..

أي افعل ما أمرت بفعله فترة اختيار الله تعالي لك.. مهما كانت ظروفك.. و مهما استحكم ظلم ظالميك..

فلا جرم أن تصمت كما صمت آباؤك من قبلك..

.. و لكن.. كيف صمت آباؤه عليهم السلام؟.

و عن أي شي ء سكتوا؟.

و هل صمتوا عن النطق بكلمة الحق؟. أم سكتوا أمام جولة الباطل؟.



[ صفحه 139]



و الجواب أن الصمت كان مفروضا عليهم من بارئهم عز و جل.. فهم ماضون في القيام بأمره كما قرر و قدر، و كما تتحدد أعباء وظيفة الموظف في الدولة وفق مرسوم عمله فيها.. فلا تعدي علي حدود ما أنزل الله عليهم، و اليهم، مئة بالمئة.

و لذا كان جواب الامام الباقر عليه السلام لحمران بن أعين حين سأله قائلا:

«يا ابن رسول الله، أرأيت ما كان من قيام أميرالمؤمنين و الحسن و الحسين و خروجهم و قيامهم بدين الله، و ما أصيبوا به من قبل الطواغيت و الظفر بهم حتي قتلوا و غلبوا؟.

قال عليه السلام: يا حمران، ان الله تبارك و تعالي قد كان قدر ذلك عليهم، و قضاه و أمضاه و حتمه علي سبيل الاختيار، ثم أجراه عليهم.

فبتقدم علم اليهم من رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، قام علي، و الحسن، و الحسين، عليهم السلام؛

و بعلم صمت من صمت منا.

و لو أنهم يا حمران - حيث نزل بهم ما نزل من ذلك - سألوا الله أن يدفع عنهم و ألحوا عليه في ازالة ملك الطواغيت و ذهاب ملكهم لزال أسرع من سلك منظوم انقطع فتبدد.

و ما كان الذي أصابهم لذنب اقترفوه، و لا لعقوبة معصية خالفوا الله فيها، و لكن لمنازل و كرامة من الله أراد أن يبلغهم اياها.

فلا تذهبن بك المذاهب فيهم» [8] .

فتأمل..

أما ولده الامام الصادق عليه السلام فقال لجليس له ذكر هذا المعني - في حديث -:

«.. و لكن، كيف؟. انا اذا نريد غير ما أراد الله!.» [9] .



[ صفحه 140]



فقد صمتوا - اذا - مأمورين.. و ان كانوا مقهورين!.

و سكتوا حال كونهم مظلومين.. مضحين «بالأنا» عندهم، في سبيل اعلاء كلمة التوحيد..

و اذ كان لا بد من اجمال التفسير، نقول:

سكت أميرالمؤمنين عليه السلام عن «حقه» المهضوم و ظلمه المعلوم - لما زحزح عن مقامه الذي أقامه الله تعالي فيه - ابقاء علي كلمة: لا اله الا الله، التي مضغها بأسنان الحليب و عاشها مع الحبيب، فخشي أن يقضي عليها عهد الجاهلية القريب.

فكان سكوته - مع قلة الناصر - أدعي الي سلامتها، و عافيتها، و تعميمها، و ترسيخها.. و أحجي من تجريد سيف و تحريك عصبيات مكبوتة لو ثارت ثائرتها لاختلط الحابل بالنابل، و لا ختبط فيها المسلمون و الكافرون.. و لضاع ما أثله نبينا محمد صلي الله عليه و آله و سلم و أرسي أسسه و أقام بناءه..

فالوصي - اذا - موصي بالصمت، من ربه، و من مربيه.

و كذلك صمت ولده السبط الزكي المجتبي، أبومحمد، الحسن عليه السلام - بعد أن قام - لأن الذهب الوهاج الذي طرحه معاوية أعمي قلوب الناس عن الحق الصريح؛ فقدر الامام أن مضيه في الحرب يضرب المسلمين بعضهم ببعض فيفسح المجال لبروز «الوثنية الأموية» التي أقسم بها أبوسفيان أن لا جنة و لا نار!. و رأي أنه اذا حارب قضي علي الثلة المسلمة المؤمنة - و علي رأسها هو و أخوه عليهماالسلام - بسيف دعي يعلن الاسلام و يبطن الكفر!. و من حوله عبدة المال و البطون و الفروج و زخرف الدنيا..

فرأي أن لا مناص من المهادنة ليصدق فيه قول جده صلي الله عليه و آله و سلم: «ابني هذا سيد، و سيصلح الله به بين فئتين متنازعتين من المسلمين».. و فضح «بصلحه» ملكا عضوضا لم يلج الاسلام الي ما وراء شفتي القائم عليه، بدليل أن ميثاق الصلح شهر



[ صفحه 141]



كفر خصمه الناكث.. فكان الصلح المسمار الأول في نعش الدولة الأموية التي غيرت مسار الاسلام تغييرا خطيرا..

و سكت أخوه أبوعبدالله، الحسين الشهيد عليه السلام من بعده.. سكوت «شهادة مقررة» من السماء، هي لفظت كلمتها الخرساء يوم كربلاء.. و ما زالت تطن في أذن كل حر، و تحكي كيف يكون كلام و سكوت الامام اذا أراد حماية الاسلام..

فشهادة الحسين عليه السلام - التي كانت سكوتا أبديا - خطبة بليغة تجسد التضحية السخية في سبيل الله، و تطوق عنق كل مسلم ينطق بالشهادتين الي يوم الدين، و لو لم تكن لكان القضاء التام علي كلمة التوحيد، في عهد «يزيد» العربيد.

و ان تعجب من تسمية شهادته الثائرة صمتا، فعجب زعمك أن الحسين عليه السلام ثار ليكون «خليفة» علي المسلمين بسبعين من أنصاره و اجهوا ثلاثين ألفا من أعدائه في أقل تقدير!.

فثورته المباركة، و شهادته الزكية، كانتا - بالحقيقة - أبلغ جواب علي اعتراض المعترضين علي سكوت كل امام من القائلين بأنه لو كان اماما لقام، الي جانب أنها أعطت «حياة جديدة» لكلمة الحق، و كشفت فسق «الحاكمين» باسم الاسلام، و بينت أن كل واحد منهم لا يتورع عن قتل النبي و ابن النبي و لا يعف عن قتل أي امام نبس بكلام ضد «نظام» دولته الجائرة!.. و قد فعلوا ذلك معه و مع أخيه و أبيه.. و فعلوه - سرا - مع سائر بنيه.

فقد حارت الكلمة في تفسير موقف الحسين عليه السلام، يوم سكت و أعطي الكلام لسيفه الذي ما زال يتكلم الي اليوم، و ما فتي ء يستوحي منه فلا يعبر عن قيمته و حقيقته الي قيام الساعة!.

ثم تلا سكوته الرهيب سكوت ابنه زين العابدين عليه السلام، بعد أن أصمت حشاه الصدمة العنيفة بأبيه و اخوته و بأهل بيت النبي صلي الله عليه و آله و سلم في وقعة كربلاء المشجية، فعلم المسلمين كيف يستسلمون لمشيئة الله تعالي، و كيف يتلبسون العبودية



[ صفحه 142]



الحقة للخالق، و كيف يكون الايمان الراسخ الشامخ، و الخدمة في محراب الدين و اليقين!.

و بسكوته في «طيبة» علم الناس اللجأ الي الله حين يتهافت الناس علي السلطان - الشيطان!.

فسكت.. و تكلمت «صحيفته السجادية» التي ترفع المخلوق من صعيد التراب، الي ما فوق طهر الملائكة في هيكل رب الأرياب.

و سكت.. ليعلم المسلمين قول: لا حول و لا قوة الا بالله، حين تموت الضمائر و يصير هم الناس البطون و الفروج!.

و سكت من بعده الباقران - الصادقان في فترة انكفاء السيف عن رقاب الهاشميين، فشرحا القرآن، و بينا السنة.. و قاما بوظيفتهما الربانية وقوفا بوجه الضياع عن الأحكام في عصر أموية كسروية قيصرية تسير بالناس بعيدا عن الدين و الديان.. فرسخا حلال محمد و حرامه، و أوضحا حدود الدين و أحكامه، و هجرا كل ما يعارض وظيفتهما الالهية..

أما الامام الكاظم عليه السلام - الساكت الا عن كلمة الحق ينشرها، و الا عن الباطن يدحضه - فقد سجن.. و قيد.. و لكنه «حمل» دعوة جده و أداها لأصحابه - كاملة - من وراء قضبان الحبس و من خلف غياهبه..

و بقي هكذا، حبيسا مقيدا مدة أربع عشرة سنة، فأبقي علي شيئين هامين حققهما بصمت.. و هما:

الصفوة الكريمة من أصحابه،

و الدعوة الكريمة يحملونها - في صدورهم - الي الأجيال.

فهل رأيت - يا قارئي العزيز - سجنا منبرا لبث الدعوة من جهة، و هيكلا للعبادة من جهة ثانية، كهذا السجن؟!!

و سكت الامام الرضا عليه السلام بعد كاظمهم.. و صمت.

و لكنه اقتيد الي عاصمة «سلطان الزمان».

و وضع في الاقامة الجبرية.. فلم يخف فضله علي أحد بل شاع و ذاع و ملأ



[ صفحه 143]



الأسماع، و فتن الألباب و جاء بالعجب العجاب..

كما أنه لم يخف زهده «بالأمر و الحكم»..

و لكنه حمل علي قبول «ولاية العهد» لتطويقه و لاستيعاب قواعده الشعبية التي أرعبت «الحكم» و لفتح باب الكلام أمامه و انتحال العذر للايقاع به.. فلم يكن منه ما أراده له «السلطان».

و مع ذلك ما سكت عنه.. لأنه كاد أن يقيم كلمة الحق حين خرج لأداء صلاة العيد. فأقصي، و نفي.. و لو حق الي «مرو» في خراسان.

و الملاحق كان «خليفة المسلمين» الذي حمل الي الامام جنودا من العنب المسموم!.

هكذا - يا أخي القاري ء - صمت آباء امامنا الجواد عليه و عليهم السلام، من قبله.

و استغفر الحق و الحقيقة لأنني لم أحط بمعاني صمتهم و لا بسر سكوتهم، بل ألممت بذلك الماما.. و لو كنت بصدده - وحده - لاقتضي مني كتبا مستقلة قائمة بذاتها.

أما عن أي شي ء سكتوا؟.

و لماذا صمتوا؟.

فسؤالان لا يتخطيان دون جواب.. و أنا أختصر و أعتصر موضوعهما لأريح البال:

أولا: انهم لم يسكتوا - قط - عن قول «كلمة الحق» و لا عن انكار المنكر و «الباطل».

و لكنهم سكتوا عن «حقهم» سكوت أبيهم أميرالمؤمنين عليه السلام.

و حرصوا علي ابقاء الدين سليما معافي، حرصه علي ذلك، و لم يحفلوا بسلامتهم اذا سلمت بهذه «المقايظة» كلمة: لا اله الا الله.



[ صفحه 144]



فقتلوا شهداء مظلومين، مدفوعين عن مراتبهم التي رتبهم الله تعالي فيها!.

و ثانيا: جواب صمتهم كامن فيه، مأخوذ منه:

فلولا صمتهم لكان كل «خليفة للمسلمين» من ظلمتهم كيزيد بن معاوية بالذات،

و لماتوا قتلا.. و نكالا.. و مات معهم الاسلام حتف أنفه، و خنقا في المهد!.

فان معاوية «المحنك» من ظلمتهم - القريب من عهد الرسالة، المعاصر لصاحب الدعوة صلي الله عليه و آله و سلم - قال و هو يعالج سكرات الموت:

كيف يهدأ لي بال، و هذا ابن أبي كبشة يصاح به خمس مرات في اليوم:

أشهد أن لا اله الا الله، و أشهد أن محمدا رسول الله؟!!

«معرضا» برسول الله صلي الله عليه و آله و سلم،

و منتقصا اياه بوقاحة وثني!. لأن معاوية رمز «وثنية جديدة» في الاسلام!.

فأئمة أهل البيت عليهم السلام ما خلقوا ليهتموا بذواتهم،

و لا اختيروا لاشغال مناصب حكم دنيوي.. و لا ملك و أبهة هرقلية،

بل هم أمناء علي رسالة السماء،

و ذلك ظاهر بوضوح في حياة كل واحد منهم اذا استثنينا حكومة السنوات الأربع في الكوفة، يوم حمل المسلمون لها أميرالمؤمنين مدفوعا اليها دفعا.. فرضي بحمله اليها ليضرب أعظم مثل الحكومة العدل علي الأرض.

و ستري الكثير من معاني الصمت الذي نتحدث عنه في حياة امامنا الجواد عليه السلام.. ذلك الامام الفتي الذي ظهر فضله في مجالس الانتقام الليئمة و في امتحانات عصره الزنيمة.

هذا، و ان وظائفهم الربانية، لا تفتقر لتأشيرات أرضية، و لا لتزكيات تخضع في الميزان الرضي الراضين، و رفض الرافضين.

قد أدوا قسط الحق ما شاء لهم ربهم،



[ صفحه 145]



و كان صمت امامنا الفتي عليه السلام - كصمت آبائه -:

اجهارا بباطل أعدائه،

و بروز عملاق بين أقزام الحكام و فقهاء الاسلام،

و فرزا جليا لطرفي الحق و الباطل في ميزان العدل.



[ صفحه 147]




پاورقي

[1] الأحقاف - 35.

[2] الأنعام - 124.

[3] أنظر بحارالأنوار ج 50 من ص 8 الي 21 و ص 108 باختصار و رجال الكشي رقم 27 و اعلام الوري ص 330 و الارشاد ص 297 و الكافي م 1 ص 323 و الأنوار البهية ص 207 و مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 387 و تجد في حلية الأبرار ج 2 من ص 391 الي 395 جملة تفصيلات في الموضوع. و هو في مصادر كثيرة ذكرت هذا الافك المفتري.

[4] بحارالأنوار ج 50 ص 55 مع زيادة، و هو في اثبات الهداة ج 6 ص 201 و في أكثر المصادر السابقة لهذا الرقم.

[5] الأعراف - 118.

[6] التوبة - 48.

[7] النساء - 54.

[8] بحارالأنوار ج 26 ص 150 - 149 عن ضريس الكناسي، و هو في الخرائج و الجرائح ص 255.

[9] بحارالأنوار ج 26 ص 152 عن صالح بن عقبة الأسدي، عن أبيه.