بازگشت

ما لا بد من قوله: هم محدثون... و ملهمون..


الأمر الثاني مما لا بد من قوله قبل الدخول في صلب موضوعنا، هو أن أولياء الله تعالي محدثون... و ملهمون... و قد يوحي اليهم!.

و انهم كذلك ببراهين نعرضها من غير أن نحكي حكي نسوان أو تخاليط أحلام، و من غير أن نعتمد رصف الجمل و تفويف الألفاظ.

فأئمتنا عليهم السلام كانوا «يعطون» حلول ما يعرض لهم من مسائل و مشاكل في شتي مناسبات حياتهم، حتي اشتهر ذلك عنهم و ذاع و ملأ الأسماع، فغصت بطون الكتب بتسجيل آياتهم و معجزاتهم التي حفل بها التاريخ و أثبتها علي صفحات مشرقة... و لكن حب الدنيا حرف أنظار الراغبين في الدنيا عنهم و عما سجل التاريخ لهم، اذ أقصوا عن الحكم و لوحقوا بشدة - و خصوصا في عهدي السفيانية و العباسية - بل دفعوا عن حقهم قبل ذينك العهدين بشهوة السلطة و طمعا بالحكم و بنعيمه و عضارته، فأوذوا، و قهروا، و استضعفوا، و حيل دون ظهور علمهم و فضلهم، و لكنه خرج من بين ذين و ذين ما ملأ الخافقين. فاذا فضلهم بغاية الظهور، و اذا صفاتهم قد أخذت بالريشة أخذا دقيقا وثيقا، كمراجع للأمة بلا جدال، و كحملة للقرآن و السنة لدي كل سؤال، بله ما كان و ما يكون، و سيبقي فضلهم ظاهرا الي أن تنطفي ء شمس هذا الكون!.

و لكن.. هل كان أهل البيت عليهم السلام ضعفاء حتي اعتبروا مستضعفين؟.

أم عاشوا «نكرات» ليصبحوا مغمورين.. فمنسيين؟.

أم كانوا غير لائقين لولاية أمور الناس فكانوا عنها مبعدين؟!!

أم كانوا يسكتون و لا يطلبون حقهم، فاعتبروا غير أصحاب حق؟!.



[ صفحه 52]



لا، لا يجوز هذا و لا غيره في حقهم، لأنهم فوق ما يظن بهم القالون، و ان كانوا دون ما يضعهم فيه الغالون.

فقد كانوا معروفين بذواتهم، و بصفاتهم، لدي الخاص و العام من معاصريهم. و لكنهم كانوا «مأمورين» بالصبر علي اقتناص «حقهم» بعهد معهود لهم من جدهم رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، فصبروا، و سكتوا حفظا لبيضة الدين و عملا لوحدة للمسلمين، و ابقاء علي دورهم في تفسير الكتاب و بيان السنة كيلا يذهب بهما استنساب أذواق المتفيهقين، و رحمة بالثلة المؤمنة التي ائتدبت بأدب الاسلام.. ليهلك من هلك عن بينة، و يحيا من حي عن بينة..

فقد سكتوا عن حقهم ليسكت عنهم، و لينصرفوا الي القيام بواجبهم الرباني، و يقوموا بربط حلقات وظيفتهم التي انتدبوا لها، فبدوا «مستضعفين» كما سماهم جدهم رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم في ما أشار اليه سبطه الامام الصادق عليه السلام في حديثه مع المفضل بن عمر حيث قال:

«ان رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، نظر الي علي و الحسن و الحسين عليهم السلام فبكي و قال:

أنتم المستضعفون بعدي.

قال المفضل: فقلت له: ما معني ذلك يا ابن رسول الله؟.

قال: معناه أنكم الأئمة من بعدي، ان الله عز و جل يقول: (و نريد أن نمن علي الذين استضعفوا في الأرض، و نجعلهم أئمة، و نجعلهم الوارثين) [1] فهذه الآية جارية فينا الي يوم القيامة» [2] .

فهم أصحاب حق سكتوا عنه لما ذكرنا... و لأنهم شهداء علي الناس.

و هم موعودن بما أجراه الله تعالي عليهم منذ سكوت أميرالمؤمنين عليه السلام ليتفرغ لترسيخ العقيدة، الي صبر الحسن عليه السلام علي صلح فضح به عدوه، فالي قول الحسين عليه السلام: شاء الله أن يراني قتيلا: فالي آخر «الي».. مما يفسر تصرفاتهم عبر حيواتهم الكريمة.



[ صفحه 53]



و هم راضون بقضاء الله عز و جل عليهم، و مسلمون مسلمون له، مؤمنون به سبحانه و بكل ما جاء من عنده ايمانا عجيبا؛ و لذا قال الامام الرضا عليه السلام:

«لا يكون المؤمن مؤمنا حتي يكون فيه ثلاث خصال: سنة من ربه، و سنة من نبيه، و سنة من وليه.

فأما السنة من ربه فكتمان السر، قال الله عز و جل: (عالم الغيب فلا يظهر علي غيبه أحدا، الا من ارتضي من رسول..) [3] .

و أما السنة من نبيه فمداراة الناس، فان الله عز و جل أمره بمداراة الناس فقال: (خذ العفو و أمر بالعرف، و أعرض عن الجاهلين) [4] .

و أما السنة من وليه فالصبر علي البأساء و الضراء، يقول الله عز و جل: (و الصابرين في البأساء و الضراء، و حين البأس، أولئك الذين صدقوا، و أولئك هم المتقون) [5] .

و الأئمة عليهم السلام كانوا أولي بذلك كله. فقد أخذوا بسنة ربهم «فكتموا السر» و بسنة نبيهم «فداروا الناس» و لم تخف سنتهم علي أحد اذ «صبروا علي البأساء و الضراء» صبرا غريبا رغم انتهاب حقهم، و انتهاك حرمهم، و اقتناص حريتهم.. و ما بدلوا تبديلا.

و هم وحدهم - من بين المسلمين - كانوا يعرفون الي أين يصيرون، و يعيشون أسياد أنفسهم بين مسلمين ما سلم من بطشهم الا من باعهم دينه بدنياه!. و معرفتهم بذلك كانت مفروغا منها عند المؤالفين و المخالفين من معاصريهم، حيث نقل المؤالف و المخالف عجائب و غرائب صدرت عنهم فأدهشت العقول و فلجت الخصوم، فآمن بها و بهم من كان بهم كافرا و بربه ملحدا، و لحق بهم من كان عنهم منحرفا، و اهتدي بحججهم و براهينهم الدامغة من كان ضالا، و تحدث بذلك الأفراد و الجماعات فعجز التاريخ الجائر عن طمسه، اذ لم يكن أمرهم سرا من



[ صفحه 54]



الأسرار، بل كانوا يعلنونه و لا يخشون سلطانا بجنب سلطان الله تعالي.. فقد قال الحسن بن الجهم للامام الرضا عليه السلام، في مجلس المأمون - المتربع علي عرش السلطة - في حديث:

«يا ابن رسول الله، بأي شي ء تصح الامامة لمدعيها؟

قال عليه السلام: بالنص و الدليل.

قال: فدلالة الامامة فيم هي؟

قال: في العلم و استجابة الدعاء.

قال: فما وجه اخباركم بما في قلوب الناس و بما يكون؟.

قال عليه السلام: أما بلغك قول رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم: اتقوا فراسة المؤمن فانه ينظر بنور الله؟.

قال: بلي.

قال: و ما من مؤمن الا و له فراسة، ينظر بنور الله علي قدر ايمانه و مبلغ استبصاره و علمه. و قد جمع الله في الأئمة منا من فرقة في جميع المؤمنين..

فنظر المأمون فقال له: يا أباالحسن زدنا مما جعل الله لكم أهل البيت.

فقال الرضا عليه السلام: قد أيدنا بروح منه مقدسة مطهرة ليست بملك. لم تكن مع أحد ممن مضي، الا مع رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و هي مع الأئمة منا تسددهم و توفقهم؛ و هو عمود نور بيننا و بين الله عز و جل» [6] .

فارتضي المأمون هذا الكلام - بالرغم من أنه لم يشاهد تلفزيونا و لا ما هو أعجب منه ليصدق بعمود النور - بل هو من هو حين يفكر و يقدر و يزن الكلام، اذ لم يكن عجوزا تؤمن بالخرافات، و لا عيا في المناقشات، و لا غرا ساذجا يطأطي ء رأسه لغير الحقائق، بل كان نقادا ماهرا يعد في رأس جهابذة عصره المزدهر بالعلم و الكلام.. لكن قائل هذا القول كان «سيد» مجالس ذلك العصر - في الخارج و داخل القصر - بلا منازع. و الداخل بينه و بين الله يزج به الشيطان في مأزق لا



[ صفحه 55]



هادي له فيه و لا دليل، لأنه - عليه السلام - ممن لا ينطقون عن الهوي، رضي بذلك عدوه أم أبي.. فهو مصطفي مختار من قبل العزيز الجبار!.

فمعاصرو أئمة أهل البيت عليهم السلام، لمسوا كونهم مؤيدين مسددين اماما بعد امام بتسديد و تأييد خفيين علي التفكير و التقدير لدي النظر و التحليل... و قد قال الامام الصادق عليه السلام:

«كان مع رسول الله صلي الله عليه و آله، ملك أعظم من جبرائيل و ميكائيل، كان يوفقه و يسدده، و هو مع الأئمة من بعده» [7] .

و قال عليه السلام في مجلس آخر:

«ان الامام مؤيد بروح القدس، و بينه و بين الله عز و جل عمود من نور يري فيه أعمال العباد؛ و كلما احتاج لدلالة اطلع عليه. و يبسط فيعلم، و يقبض عنه فلا يعلم» [8] .

و ها اني - و أنا أكتب هذا الخبر الشريف - أجلس مقابل التلفزيون لسماع الأخبار، فأري المذيع يقرأها بطلاقة عجيبة دون أن يمسك بيده ورقة «نشرة الأخبار»، لأنه يقرأها علي شريط كهربا - الكتروني يتحرك أمامه لولبيا فتظهر عليه الكتابة مشرقة بأحرف من نور تتلألأ واضحة جلية، تديرها آلة تباعا من ألفها ليائها، و يتراءي للناظرين أن المذيع يقرأها غيبا و كأنه حفظها عن ظهر قلب.. فما أشبه أمرهم عليهم السلام «بعمود نور» يتناول نشرة الأخبار دون غيرها!.

و قد صرح أكثر أئمتنا عليهم السلام بذلك فما كذب به أحد الا ممن ناصبوهم العداء و نفسوا عليهم بمواهب الله تبارك و تعالي التي كانت لهم - بمقتضي وظيفتهم الالهية - دون غيرهم. أو ممن كانوا لحسة صحون السلاطين فأتخمت بطونهم بما قضموا من حلال الدنيا و حرامها، و تلبس الشيطان عقولهم و عشش في قلوبهم.



[ صفحه 56]



فضلوا عن الحق ضلالا بعيدا، و خسرت صفقتهم خسرانا مبيا.

و قد قال الامام الرضا عليه السلام: «ان العبد اذا اختاره الله لأمور عباده شرح صدره لذلك، و أودع قلبه ينابيع الحكمة، و ألهمه العلم الهاما، فلم يعي بجواب، و لا يحيد فيه عن الصواب. فهو معصوم، مؤيد، موفق، مسدد؛ قد أمن الخطايا و الزلل و العثار. يخصه الله بذلك ليكون حجته علي عباده، و شاهده علي خلقه، و (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، و الله ذو الفضل العظيم) [9] كما ذكرنا.

و من أعطي شيئا من ذلك كان ذا مرتبة لا تنال.. فكيف بمن أعطيه كله؟!.

قال علي بن يقطين:

«قلت لأبي الحسن، موسي - الكاظم - عليه السلام: علم عالمكم سماع أم الهام؟.

فقال: قد يكون سماعا. و يكون الهاما. و يكونان معا» [10] .

و كذلك الحارث بن المغيرة قال: «قلت لأبي عبدالله - الصادق - عليه السلام: ما علم عالمكم؟. أجملة يقذف في قلبه، أو ينكت في أذنه؟.

فقال: وحي كوحي أم موسي» [11] .

و ليس عجيبا أن يكون الأئمة عليهم السلام أكرم علي الله تعالي من أم موسي عليه و عليهاالسلام، أو من النحل التي أوحي اليها ربها كما نص القرآن الكريم، أو من صاحب موسي، و صاحب سليمان، و من ذي القرنين!. فهم محدثون و ملهمون الي جانب أنهم زقوا العلم زقا، و ليس لهم معلم و لا أستاذ سوي الله تبارك و تعالي و رسوله صلي الله عليه و آله و سلم - كما ستري في فصل آت - و كفي بأستاذية الله تعالي و رسوله أستاذية جامعة مانعة!.



[ صفحه 57]



و قال أبوبصير لالامام الباقر عليه السلام: «بم يعلم عالمكم، جعلت فداك؟.

فقال: يا أبامحمد، ان عالمنا لا يعلم الغيب. و لو وكل الله عالمنا الي نفسه كان كبعضكم. و لكن يحدث اليه ساعة بعد ساعة» [12] و قد ذكرنا مثله.

و روي سماعة بن مهران أن الامام الصادق عليه السلام قال:

«ان الدنيا لتمثل للامام في مثل فلقة الجوز، فلا يعزب عنه منها شي ء. و انه ليتناولها من أطرافها كما يتناول أحدكم من فوق مائدته ما يشاء» [13] .

فسماع هذا الخبر و أمثاله يجفل نفوس ضعفاء الايمان اجفالا، و يجعلهم يفكرون مليا قبل أن يعتبروه عملة صالحة للصرف «بمخزوناتهم» التي تحسب الامام رجلا عاديا، عاريا عن «ميزة ربانية خاصة» تفرزه من صفوف «المخلوقين علي الفطرة» المحتاجين الي اكتساب المعرفة الواسعة للوصول الي أدني درجات الكمال.

ولكننا اذا علمنا أن الدولة «القادرة» التي تقيم العلاقات الدبلوماسية مع دولة «قادرة» أخري، تنشي ء بينها و بين تلك الدولة خطا لا سلكيا أحمر لتتبادل معها المعلومات، ثم تستعمل تلكسا، و أسلاك برق، و بريدا دبلوماسيا، و تزود «سفيرها» فيها بأكثر من ذلك من مقومات دعمه ليكون علي المستوي اللائق، كأن تجعل الهاتف معه من دائرته، و في بيته، و في سيارته، ثم تكفل له وسائل الحصانة فيكون من الرعايا ذوي الامتياز علي الآخرين، يحق له ما لا يحق لغيره - أجل، اذا علمنا ذلك تنمحي سورة العناد القائمة في نفوسنا، و تزول الصورة القائمة من قلوبنا، لأن الدولة الالهية أجدر بذلك و أقدر عليه، و هي تجهز «سفيرها» بما لا تستطيع دولة أرضية منافسته..

فليس أسهل - اذا - من أن يكون للامام «عمود تلفزيوني من نور» و لا من أن يلازمه المسدون و المؤيدون، لينقذوه في ساعة العسرة، و ليؤمنوا له الحصانة السماوية التي لا يرفعها الا واضعها.



[ صفحه 58]



و لا تذهبن بقارئي الكريم الظنون؛ فان المحدث، و الموحي اليه، غير النبي.. و لا يكون رسولا أيضا، و لا تنزل عليه أوامر جديدة.. فقد روي حمران عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قوله:

«قال رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم: من أهل بيتي اثنا عشر محدثا.

فقال عبدالله بن زيد: - و كان أخا علي لأمه -: سبحان الله، محدثا؟!! (كالمنكر لذلك).

فأقبل عليه أبوجعفر عليه السلام فقال: أما و الله ان ابن أمك بعد قد كان يعرف ذلك.

قال: فلما قال ذلك سكت الرجل. فقال أبوجعفر عليه السلام:

هي التي هلك فيها أبوالخطاب، لم يدر تأويل المحدث و النبي» [14] .

فلا ينبغي لنا أن نرتد ردة أبي الخطاب الذي كان من الموالين للأئمة، و انتقل الي صف المغالين، ثم انحدر الي غوغاء الضالين المضلين. فان أهل بيت النبي صلوات الله عليه و عليهم لم يبخلوا علينا ببيان ما كانوا عليه من قدرات ربانية و مواهب سماوية، لئلا ننكر فنكفر، أو نغالي فنضل. بل شرحوا ذلك فأوضحوه و جعلونا علي بينة من أمرهم و كونهم عبادا مخلصين (لا يسبقونه - سبحانه - بالقول، و هم بأمره يعملون) [15] .

قد حكي أبوهاشم الجعفري عن الامام الرضا عليه السلام، فقال، «سمعته يقول:

لنا أعين لا تشبه أعين الناس، و فيها نور ليس للشيطان فيها نصيب» [16] .

و لكأنها أعين ذات اشعاع نفاذ يخترق الحجب و لا تكسره الكثافات!. و لا



[ صفحه 59]



تعجب أن يكون شأنها أعظم مما تتصور!.

و لا تعجب أن يكون شأنها أعظم من شأن أشعة «لا يزر» التي لا تمنعها الحوائل و لا تصدها كثافة الأجسام عن استشفاف ما وراءها و اكتشافه..

ففي الخبر الصحيح الثابت عن أم سلمة رضوان الله تعالي عليها - و عن آخرين غيرها بالعشرات - أنه: «قد علم رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم عليا عليه السلام كلمة تفتح ألف كلمة، و الألف كلمة تفتح كل كلمة ألف كلمة» [17] .

«و ان هذا العلم خاص بالأئمة» [18] غير متيسر لسواهم اذا اطلع علي رموزه مهما أتعب نفسه و أعمل فكره، و كد ذهنه. فقد روي أبان بن تغلب أن الامام الصادق عليه السلام قال:

«كان في ذوابة سيف علي عليه السلام صحيفة، دعا اليه الحسن فرفعها و دفع اليه سكينا و قال له: افتحها.

فلم يستطع أن يفتحها. ففتحها له ثم قال له:

اقرأ.

فقرا الحسن عليه السلام الألف، و الباء، و السين، و اللام، و الحرف بعد الحرف.

ثم طواها فدفعها الي أخيه الحسين، فلم يقدر أن يفتحها.

ففتحها له، ثم قال له:

اقرأ.

فقرأها كما قرأ الحسن.

ثم طواها فدفعها الي محمد بن الحنفية، فلم يقدر علي أن يفتحها.

ففتحها له علي عليه السلام، فقال له:

اقرأ.

فلم يستخرج منها شيئا.



[ صفحه 60]



فأخذها و طواها، ثم علقها في ذوابة السيف.

فقلت لأبي عبدالله عليه السلام: أي شي ء كان في تلك الصحيفة؟.

فقال: هي الأحرف التي يفتح كل حرف ألف حرف» [19] .

و هذه هي التي قال عنها أبوبصير:

«قال أبوعبدالله عليه السلام: فما خرج منها الي الناس حرفان الي الساعة». [20] لأن ذلك خاص بالأئمة عليهم السلام.

و هذا يدل علي أن مصدر علومهم موجود في أيديهم، و أن الناس يجهلون حل رموزه، و يعجزون عنه عجز ابن الحنفية رضوان الله تعالي عليه عن ذلك، مع أنه ابن علي، و صنو الحسنين، عليهم السلام جميعا.

و لتقريب مفهوم «المحدث» الي ذهن القاري ء الكريم، نذكر له ما رواه حمران بن أعين حين قال:

«قلت لأبي جعفر - الباقر - عليه السلام: ألست حدثتني أن عليا عليه السلام كان محدثا؟.

قال: بلي.

قلت: من يحدثه؟.

قال: ملك يحدثه.

قلت: فأقول انه نبي أو رسول؟!.

قال: لا. بل مثله مثل صاحب سليمان، و مثل صاحب موسي، و مثل ذي القرنين.

أما بلغك أن عليا سئل عن ذي القرنين، فقالوا: كان نبيا؟.

قال: لا، بل كان عبدا أحب الله فأحبه، و ناصح الله فناصحه.

فهذا مثله.» [21] - يعني بذلك عليا عليه السلام -.



[ صفحه 61]



ثم نذكر ما رواه اسماعيل بن مهران، من أن الحسن بن عباس المعروفي كتب الي الامام الرضا عليه السلام:

«جعلت فداك، أخبرني ما الفرق بين الرسول، و النبي، و الامام؟.

فكتب: الفرق بين الرسول و الامام هو أن الرسول الذي ينزل عليه جبرائيل، فيراه و يسمع كلامه.

و النبي ينزل عليه جبرائيل، و ربما نبي ء في منامه، نحو رؤيا ابراهيم. و النبي ربما يسمع الكلام، و ربما يري الشخص و لم يسمع كلامه.

و الامام هو الذي يسمع الكلام، و لا يري الشخص» [22] .

و قال زرارة بن أعين: «سألت أباجعفر عليه السلام عن قول الله عز و جل: (و كان رسولا نبيا) ما الرسول، و ما النبي؟.

قال: النبي الذي يري في منامه، و يسمع الصوت، و لا يعاين الملك.

و الرسول الذي يسمع الصوت، و يري في المنام، و يعاين الملك.

قلت: الامام، ما منزلته؟.

قال: يسمع الصوت، و لا يري و لا يعاين الملك» [23] .

و في حديث آخر بين الامام عليه السلام، أن المحدث لا يأتيه شي ء في المنام.

ثم نذكر ما قاله الصادق عليه السلام - كما عن الحسين بن أبي العلا -:

«انما الوقوف علينا في الحلال و الحرام، فأما النبوة فلا». [24] لأنهم لا تنزل عليهم شرائع جديدة تنسخ ما قبلها لتحل حراما أو تحرم حلالا..

و «صانع» النبوة و الامامة واحد، هو الله تبارك و تعالي، و العجب كل العجب ممن يستغرب فعله عز اسمه و ينكر اصطفاءه و اختياره!.



[ صفحه 62]



ففي نفس الموضوع قال بريد بن معاوية العجلي: «سألت أباجعفر - الباقر - عليه السلام، عن الرسول، و النبي، و المحدث، فقال:

الرسول الذي تأتيه الملائكة و يعاينهم، و تبلغه عن الله تعالي.

و النبي الذي يري في منامه - أي في حال غيبوبته - فما رأي فهو كما رأي.

و المحدث الذي يسمع الكلام - كلام الملائكة - و ينقر في أذنه، و ينكت في قلبه» [25] .

و كذلك قال الحارث النضري للامام الصادق عليه السلام: «الذي يسأل الامام عنه، و ليس عنده فيه شي ء، من أين يعلمه؟.

قال: ينكت في القلب نكتا، أو ينقر في الأذن نقرا» [26] .

و ما فتي ء أصحاب الأئمة، رضوان الله عليهم، يبحثون و يدققون بمسائلهم المتنوعة، ليقفوا علي حل هذا الاشكال أو غيره، حتي نقلوا لنا بصائر عن كل شي ء، و تأويلا لكل معجز..

و من ذلك ما قاله محمد بن مسلم رحمه الله، اذ قال: «ذكرت المحدث عند أبي عبدالله عليه السلام،

فقال، انه يسمع الصوت، و لا يري.

فقلت: أصلحك الله، كيف يعلم أنه كلام الملك؟.

قال: انه يعطي السكينة و الوقار حتي يعلم أنه ملك» [27] .

و بهذا لا يخامر ذهنه الشك فيه، رغم أن الشياطين مبعدون عن أن تصل وسوستهم الي مسامع الأئمة، و محجوبون عن مخاطبة بني البشر..



[ صفحه 63]



و لا تنس أن هذا النوع من «الوحي - الالهامي» لم يبخل به عز اسمه علي أحقر المخلوقات و أصغر الحشرات اذ (أوحي ربك الي النحل) [28] كما نص القرآن الكريم!.

و الأئمة عليهم السلام لم يتركوا هذا الأمر دون تبيين لأصحابهم - كما رأيت و تري -، و لا تركوه ابهاما لا حل له؛ بل أوضحوه و جلوا حقيقة أمره و ضربوا علي ذلك الأمثال التي لا تعد، و من ذلك قول عمار الساباطي: «سألت أباعبدالله عليه السلام عن الامام هل يعلم الغيب؟.

قال: لا، و لكن اذا أراد أن يعلم الشي ء أعلمه الله ذلك» [29] .

أي أنه «لا» يعلم الغيب، و انما يعلم «الشي ء» الذي تعرض البلوي فيه، و يقتضي الأمر ازالة الحرج منه، ليظهر فلج حجة الامام و قوة برهانه.. و هذا معني تسديده و تأييده من ربه جلت قدرته.

و قد قال الامام الصادق عليه السلام مرة: «أعطينا علم الأولين و الآخرين.

فقال له رجل من أصحابه: جعلت فداك، أعندكم علم الغيب»؟.

فقال له: ويحك، اني أعلم ما في أصلاب الرجال و أرحام النساء!. ويحكم، و سعوا صدوركم، و لتبصر أعينكم، ولتع قلوبكم!. فنحن حجة الله تعالي في أرضه، و لن يسع ذلك الا صدر مؤمن قوي قوته كجبل تهامة، الا باذن الله» [30] .

و علم ما في الأصلاب و ما في الأرحام لا يبقي غيبا و لا شيئا من الغيب حين يطلعهم الله تعالي عليه.

و الموضوع مفروغ منه «كمقدور» لهم، و ان كان محجوبا عنا فهمه و فلسفته لاستيعابه، بسبب أن ايماننا من «وزن الريشة» لا من «وزن جبل تهامة»!. و قد تسني حصول هذا المقدور لمن هم دونهم - كالخضر عليه السلام، و كبرخيا صاحب سليمان، و كذي القرنين، و كأضعف الحشرات التي هي النحلة. و لكن ليس معني



[ صفحه 64]



ذلك أنه ليس بعجيب؛ فقد تعجب منه أسلافنا، و أنكره كثيرون و لم يقتنعوا به حتي رأوه رأي العين و لمسوه لمس اليد..

و لقد تعجبت من «أمر الله» سارة امراة النبي ابراهيم عليه و عليهاالسلام حين بشرت بأنها ستلد اسحاق و هي عقيم - و فوق الثمانين من عمرها - فقال لها الملائكة: (أتعجبين من أمر الله، رحمة الله و بركاته عليكم أهل البيت) [31] .

كما تعجبت من ذلك مريم العذراء عليهاالسلام حين بشرها الملك بحمل عيسي عليه السلام - من غير أب - ف (قالت اني أعوذ بالرحمن منك ان كنت تقيا!.

قال: انما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا..) [32] .

و هكذا كان «أمر الله» تبارك و تعالي بشأن الأئمة شغل أصحابهم الشاغل؛ و حاروا فيه و بحثوه مليا ليتفهموه.. فمن ذلك - أيضا - أن حمران بن أعين قال:

«قال أبوجعفر عليه السلام: ان عليا كان محدثا..

فخرجت الي أصحابي فقلت: جئتكم بعجيبة!.

قالوا: ما هي؟.

قلت: سمعت أباجعفر عليه السلام يقول: كان علي محدثا.

فقالوا: ما صنعت شيئا، ألا سألته من يحدثه؟.

فقال: قال: يحدثه ملك.

قلت: فتقول: نبي؟!!

فحرك يده هكذا - أي نفيا - فقال: أو كصاحب سليمان، أو كصاحب موسي، أو كذي القرنين.. أو ما بلغكم أنه - صلي الله عليه و آله و سلم - قال: و فيكم مثله؟.» [33] .



[ صفحه 65]



فلم يكن قدامانا - رحمهم الله - في بساطة العجائز، و لا أخذوا شيئا أخذ المسلمات، بل توقفوا كثيرا كثيرا حتي وقفوا علي الحق فأذعنوا له..

قد قال الله تبارك و تعالي: (قلنا يا ذا القرنين: اما أن تعذب، و اما أن تتخذ فيهم حسنا» [34] .

فكيف «قال الله» ذلك لقائد جيش قوي فتح المشرق و المغرب، و لم يكن نبيا و لا رسولا؟!!

و هل سمع هذا القائد «صوتا»؟!.

أم سمع صوتا و لم ير شخصا؟.

أم عاين ملكا و شافهه؟.

أم ألهم ذلك الهاما؟!! لأنه سبحانه يتكلم بلا صوت، و يري و يسمع بلا آلة بصر أو سمع..

ان شيئا من ذلك قد كان: «فقال» الله تعالي لذي القرنين ما قاله، بالواسطة أو بالالهام و الالقاء في القلب.

و ليس كثيرا عليه سبحانه أن تكون له عناية خاصة، مرصودة لأصفيائه يقيهم بها العثرات، و يجنبهم الزلات، و ينقذهم عند الضيق، لتتوفر فيهم الكفاءة التامة لحمل «أمره» و الوقوف به أمام أصحاب ذلاقة اللسان، و دهاقنة تزويق الكلام، و التصدي لأهل الكفر و النفاق.

فمن أجل ذلك حباهم سبحانه بسعة الآفاق، و بعد النظر، و سلامة المنطق، و فصاحة اللسان و البيان التي عبر عنها امامنا الصادق عليه السلام بقوله لصاحبه محمد بن مسلم: «انا لنتكلم بالكلمة التي لها سبعون وجها، لي من كلها المخرج» [35] .

و حين قال لصاحبه أبي بصير في مناسبة ثانية: «اني لأتكلم بالكلمة الواحدة لها سبعون وجها، ان شئت أخذت كذا، و ان شئت أخذت كذا» [36] .



[ صفحه 66]



و حين قال عليه السلام الله و تحياته، لصاحبه محمد بن النعمان: «أنتم أفقه الناس ما عرفتم معاني كلامنا. ان كلامنا ينصرف علي سبعين وجها» [37] .

فلا جرم أن تكون أحاديثهم كذلك، و أن لا يتصيد معانيها الا أفقه الناس و أعلمهم، لأنها من القرآن و من كلام سيد البيان - صلي الله عليه و آله و سلم - الذي هو أفصح من نطق بالضاد. و لكلامهم ظواهر و بواطن، و تفسير و تأويل، لأنه ترجمة لكتاب الله و سنة نبيه، مواده من موادهما فلم يعدهما في كلمة فاهوا بها و لا في حكم نطقوا به.

و لا غرو أن يتوهم في تفسير كلام الله تعالي - أو كلام رسوله و أوصيائه صلوات الله عليهم - من كان مثلي عبدا ربيئا، حين يريد أن يستجلي ما كان خبيئا في كلامهم الذي يحتمل وجوها و وجوها..

عن أبي حمزة الثمالي، عن علي بن الحسين عليهماالسلام، قال:

«قلت له: ما كان عند رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، فقد أعطيه أميرالمؤمنين عليه السلام، ثم الحسن عليه السلام بعد أميرالمؤمنين، ثم الحسين عليه السلام بعده، ثم كل امام الي أن تقوم الساعة مع الزيادة التي تحدث في كل سنة و في كل شهر؟!.

فقال: اي والله، و في كل ساعة» [38] .

و تأكيده، و يمينه يشيران في أقل الافتراضات الي الملك المحدث و «عمود النور» أو غيره من وسائل اطلاعهم علي ما يلزم في ساعة الحاجة لتظهر ميزة انتجابهم و اختيارهم ممن سواهم.

و قال الفيض بن المختار: «سمعت أباعبدالله عليه السلام يقول:

ان سليمان بن داود عليهماالسلام قال: (علمنا منطق الطير، و أوتينا من كل شي ء) و قد و الله علمنا منطق الطير و أوتينا «كل» شي ء!» [39] .



[ صفحه 67]



و هذا تأكيد آخر مشفوع بيمين، يليهما اجمال ما أوتوا بلفظة «كل».

فان سليمان عليه السلام قال: أوتينا «من كل شي ء».

في حين أن الامام الصادق عليه السلام قال: أوتينا «كل شي ء» و لم يستعمل لفظة «من» التي تدل علي التبعيض، لأنهم - سلام الله عليهم - لم يؤتوا شيئا دون شي ء، بل أوتوا كل شي ء، فضلا من الله عليهم، و اختصاصا لهم بذلك منه عز و علا.

فلم يريد أحدنا جعل الاعتراف بفضلهم منوطا بمشيئته و مزاجه، فاذا شاء أن يقر به أقر، و اذا شاء نكران فضلهم و ازاحته عنهم رفضه و زواه؟!.

فالله جل و عز، هو الذي استخلصهم لنفسه و لمصلحة عباده، أفلا يحسن بالمنصف من أولئك العباد أن يترك لله تعالي حقه، و أن يقف عند الحد الذي يفصل بين «عبد» و «رب»؟!!

يقول النحويون: ان «أي» هكذا خلقت، بعد أن كثرت فيها جولات أفكارهم وصولاتها. و نحن نقول: انهم هكذا خلقوا، و لم يستشر خالقهم أحدا من عباده حين خلقهم، و لا الاعتراض علي خلقهم «هكذا» يغير شيئا من الواقع الذي هم عليه.

فلم نقنع بالمولود حين يولد صبيا أو بنتا و نسلم بأن اعتراضنا علي تكوينه لا يجدي، ثم نثور و نغضب اذا كانوا قد اختيروا فولدوا أئمة؟.

و لم نصفق للعالم و الزعيم اذا كانا مصلحين يريدان خيرنا و سعادتنا، و نصعر الخدود و نثني العطف اذا كان الله تعالي قد من علينا بمصلحين لما فسد من أمور ديننا و دنيانا، و ببانين لسعادتينا: الزائلة و الأبدية؟!!

منتهي البخل أن نضن بما جاد به غيرنا.

و منتهي لؤم العنصر أن نبخل بما تفضل الله تعالي به علي خلصائه و نجبائه!.

وثق أنه لو استطاع عشاق الباطل أن ينزعوا عنهم عطاء ربهم لا نتزعوه و اجتذوه!.



[ صفحه 68]



فقد ابتلي أئمتنا عليهم السلام بشي ء من هذا، و نوزعوا في حقهم.. و مروا بامتحانات عسيرة كثيرة من قبل السلاطين و عبدة الدنيا... و لم يكن ابتلاؤهم عجبا لأنهم حملة قضية و حفظة رسالة.. و لكن العجب أن يتسور الي محراب قدسهم من «يريد» أن ينزع عنهم سربال ربهم عز و جل بشهوة «اللاشي ء»!.

و هل العداء لهم غير «رد» علي الله تعالي؟!!

لا، بل هو ذاك.

و ما كنت لأحب الخوض في هذا الموضوع - و كان قلمي يحرن، و فكري يتبلد فأزهد بالكتابة فيه حتي أكاد أقلع عنها - لولا أنني رغبت في أن يعلم قارئي الكريم - حق العلم - أنهم هكذا خلقوا لمصلحة العباد، و أنهم أكرم علي الله من النحل، و من أم موسي، و وزير سليمان، و صاحب موسي، و من ذي القرنين و غيرهم ممن عبر و غبر في عمر الدنيا..

فما ضر أن يكونوا ملهمين؟.

و ما هم أن يكونوا محدثين، و موحي اليهم؟!.

و ما الذي يدعو الي انكار هذا الحق عليهم، و بأي عنوان يخاصمون فيه اذا كان الله تعالي قد شاءه لهم؟!!

قال رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم: «انا، أهل البيت، طهرنا الله من كل نجس. فنحن الصادقون اذا نطقوا، و العالمون اذا سئلوا، و الحافظون لما استودعوا» [40] .

فكيف ننقم أن جعل الله تعالي رسوله و أهل بيته صلوات الله عليه و عليهم، مطهرين، صادقين، عالمين، حافظين؟!!

العكس هو المرجو منا..

و قد مر بك قول الامام الصادق عليه السلام: «أفتري أن الله يمن بعبد في بلاده، و يحتج علي عباده، ثم يخفي عنه شيئا من أمره؟» [41] .



[ صفحه 69]



و من أبسط الفروض أن الجندي اذا زج به قائده في أتون المعركة علي غير استعداد و لا تدريب و بغير سلاح، نرمي قائده بالهوس و عدم الرشد، لأنه قذف بكتلة من اللحم الي القتال بلا دربة و لا عدة و لا تخطيط. فأحر بجندي الله - من أوليائه و حججه في أرضه - أن لا تنتدبه الحكمة الالهية للقيام بأمر العباد الا «مسلحا» بجميع لوازم القيادة و الريادة مما اختصة الله تعالي به من المنح، ليكون في المستوي اللائق بولايته و خلافته. و أحر بالامام الحجة «المرصود» لهذه الوظيفة أن يكون «مخلوقا» علي طراز خاص «مجبولا» عليه منذ برأ الله تعالي نسمته، و «مصنوعا» علي عين خالقه دون أخذ رأي العباد. و قد صرح النبي و الأئمة صلوات الله و سلامه عليه و عليهم بذلك، و عددوا نعم الله تعالي التي ميزهم بها عن غيرهم - لا فخرا بها و لا عجبا - بل بيانا لنا و دفعا عن الغلو فيهم كيلا نصل الي الشرك، و منعا عن القلي و الانكار لفضلهم كيلا نصير الي الضلال و الكفر..

فاستمع الي عبدالغفار الجازي الذي روي أن الامام الصادق عليه السلام قال:

«ان الحسن بن علي عليه السلام كان عنده رجلان.

فقال لأحدهما: انك حدثت البارحة فلانا بكذا و كذا.

فقال الرجل: انه ليعلم ما كان!. - و عجب من ذلك -.

فقال عليه السلام: انا لنعلم ما يجري في الليل و النهار.

ثم قال: ان الله تبارك و تعالي، علم رسوله صلي الله عليه و آله و سلم الحلال و الحرام، و التنزيل و التأويل، فعلم رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم عليا علمه كله» [42] .

ثم أصغ الي الامام الصادق عليه السلام حيث نقل رأيا للخليفة الثالث عثمان بن عفان (رض) في بني هاشم، أطلقه لرجل حدثه عن علم الحسن و الحسين عليهماالسلام و كرمهما و كرم عبدالله بن جعفر رضوان الله عليه، فقال الخليفة:

«و من لك بمثل هؤلاء الفتية؟!. أولئك فطموا العلم فطما، و حازوا الخير كله» [43] .



[ صفحه 70]



بل تأمل بما حكاه ضريس الكناسي الذي قال:

«كنا عند أبي عبدالله عليه السلام جماعة من أصحابنا، اذ دخل عليه رجل أعرفه.

فذكر رجلا من أصحابنا و لمزه عند أبي عبدالله عليه السلام، فلم يجبه بشي ء.

فظن الرجل أن أباعبدالله عليه السلام لم يسمع، فأعاد عليه أيضا، فلم يلتفت اليه.

فظن الرجل أنه لم يسمع، فأعاد الثالثة.

فمد أبوعبدالله يده الي لحية الرجل فقبضها فهزها ثلاثا حتي أن لحيته قد صارت في يده - أي: نتف شعرها - ثم قال - عليه السلام -:

ان كنت لا أعرف الرجال الا بما أبلغ عنهم، فبئست الشيبة شيبتي!.

ثم أرسل لحيته من يده، و نفخ ما بقي من الشعر في كفه» [44] .

و انها لغضبة هاشمية من الامام عليه السلام!. لم تكن منه الا لتربية أصحابه علي معرفة ما هم عليه من التمكن و القدرة الفكرية النفاذة التي تعجز ألف كمبيوتر و كمبيوتر!. فلا يرعبننا كون الأئمة محدثين، ملهمين، ملقي في أسماعهم و قلوبهم، و ذوي توسم ينفذ الي أعماق نفوس الآخرين و يكشف عن سرائرهم المكنونة في ضمائرهم؛ و يتعدي مقدور سائر المخلوقين.. و لا يهولننا الحديث عن هذه المنن الالهية التي ميزهم خالقهم تعالي بها..

و اننا لم نعرض لهذا - كما قلنا سابقا - الا بقصد الكشف عن مواهبهم السماوية، و بغية اعداد قارئنا الكريم لما هو من هذا القبيل في سيرة امامنا - المعجزة الجواد عليه السلام الذي جاء بالعجب العجاب في عهد طفولته، و بهر عقول الناس في أيام صباه و فتوته، و كان سيد الكلام و مصدر الأحكام رغم أنه لم يصل الي عنفوان شبابه، فكان معجزة عصره الربانية التي أدهشت أهل «عصر الازدهار الذهبي» في الفقه و العلوم و الفلسفة و الكلام، و فتنت ألبابهم!.



[ صفحه 71]



و لا ينبغي أن نضيع - اذ نطيل - في تحديد المحدث، و الملهم، و المتوسم، فان المؤمن ينظر بنور الله و يكون ملهما، و متوسما، و ذا فطنة عجيبة. و قد سهل الامام الرضا عليه السلام فهم هذه المعاني فيما رواه عنه عبيد بن هلال الذي قال:

«سمعت أباالحسن الرضا عليه السلام يقول: اني أحب أن يكون المؤمن محدثا.

قلت: و أي شي ء يكون المحدث؟.

قال: المفهم» [45] .

فما أسهل الأمر يا أخلائي، طالما أن الامام يحب أن يكون «المؤمن» محدثا، و طالما أننا نري الانسان العادي يلهم وجه الصواب في كثير من المسائل العويصة، ويحكي بوحي الحاسة السادسة ما يدهش، و يأتي بآيات من التوسم نتلقاها باستغراب!.

فما رأيكم بأمناء الله علي وحيه و عزائم أمره، الموكلين من لدنه تعالي بحفظ ما شرع للناس من أمر دنياهم و آخرتهم؟. و علي أي حال لا يمكن أن يكونوا علي مستوي وظيفتهم اذا لم يجعلهم الله تعالي يعلمون ما لا نعلم، و يفهمون من شؤوننا ما نعلن و ما نكتم؟!.

قال الامام الباقر عليه السلام مرة لأصحابه: «ان رسول الله صلي الله عليه و آله أنال في الناس و أنال، و انا أهل البيت عندنا معاقل العلم، و أبواب الحكمة، و ضياء الأمر» [46] .

أجل، قد أنالنا نبينا صلي الله عليه و آله و سلم الكثير - كمسلمين أخرجنا من ربقة الشرك و النفاق - و أعطانا الوفير من أبواب العلم و الحكمة، فحفظنا عنه شيئا و غاب عنا شي ء، و غيبنا - نحن بتزوير التاريخ - أشياء و أشياء..



[ صفحه 72]



لكن الأئمة عليهم السلام لم يفتهم شي ء مما أعطي؛ فصدروا عن قوله، و صدعوا بأمر ربه و أمره، و بقيت قلوبهم أوعية للعلم، و خزائن لمذخورات النبوة و الرسالة، فتفجرت ينابيع الحكمة من صدورهم، و جرت كلمة الحق علي ألسنتهم، فعرفوا ما نزيد في الدين حين نزيد، و ما ننقص منه حين ننقص، و كانوا ظلا لكلمة الله تعالي في الأرض، و معدنا للرسالة، و لسان صدق في مهبط الوحي و التنزيل، واحدا بعد واحد الي ما شاء الله تعالي من عمر الدهر. فنسأل الله تعالي أن لا يجعلنا ممن يتقدمهم فيمرق، و لا ممن يتأخر عنهم فيمحق.. لنكون النمرقة الوسطي الثابتة علي توليهم المسلمة لأمرهم، فهم باب خلاص الأمة و سفينة نجاتها، و حبل الله الممدود من السماء الي الأرض... و من واقع البحر الهائج بغير سفينة غرق، و من قطع الحبل بينه و بين ربه و اتبع الباطل و عاند الحق زهق..

و قد روي عمر بن خالد أن الامام الباقر عليه السلام قال: «يا معشر الشيعة، شيعة آل محمد، كونوا النمرقة الوسطي: يرجع اليكم الغالي، و يلحق بكم التالي.

فقال له رجل من الأنصار - يقال له سعد -: جعلت فداك، ما الغالي؟.

قال: قوم يقولون فينا ما لا نقوله في أنفسنا، فليس أولئك منا و لسنا منهم.

قال: و ما التالي:

قال: المرتاد، يريد الخير، يبلغه الخير، يؤجر عليه» [47] .

و قال امامنا الجواد عليه السلام - الذي نحن بصدد التشرف بمعرفته -:

ان أميرالمؤمنين عليه السلام قال لابن عباس في حديث: «.. و لذلك الأمر ولاة بعد رسول الله صلي الله عليه و سلم:

فقال ابن عباس: من هم؟.

قال: أنا و أحد عشر من صلبي، أئمة محدثون» [48] .

و كان أبوه الامام الرضا عليه السلام قد كتب لعبد الله بن جندب:



[ صفحه 73]



«أما بعد: فان محمدا كان أمين الله في أرضه؛ فلما قبض كنا أهل البيت ورثته. فنحن أمناء الله في أرضه، عندنا علم المنايا و البلايا، و أنساب العرب، و مولد الاسلام. و انا لنعرف الرجل اذا رأيناه بحقيقة الايمان و حقيقة النفاق. و ان شيعتنا لمكتوبون بأسمائهم و أسماء آبائهم؛ أخذ الله علينا و عليهم الميثاق. يردون موردنا، و يدخلون مدخلنا» [49] .

و لم نجد أحدا ادعي ذلك غيرهم من خليفة و لا أمير، و لا فقيه خطير، و لا عالم و لا ولي و لا مولي!. و لا رد ذلك عليهم الا ضال عن الحق، مفتر علي ربه الذي اختارهم عيبة لعلمه، و اصطفاهم سفراء في بلاده، أمناء علي عباده.

و قبل أن نثب من هذا الموضوع الي ما يليه، نحب أن ننهي طرفه الأخير بأمثلة - من آلاف الأمثلة - تظهر بعض ما كان عليه أهل البيت عليهم السلام من علم و معرفة.

قال ابن سنان: «دخلت علي أبي الحسن موسي - الكاظم - عليه السلام، من قبل أن يقدم العراق بسنة، و علي - الرضا - ابنه جالس بين يديه.

فنظر الي و قال: يا محمد، ستكون في هذه السنة حركة، فلا تجزع لذلك.

قلت: و ما يكون جعلني الله فداك، فقد أقلقتني؟.

قال: أصير الي هذا الطاغية - أي المهدي العباسي - أما انه لا يبدأني منه سوء، و لا من الذي يكون بعده. - أي موسي بن المهدي -.

قلت: و ما يكون، جعلني الله فداك؟.

قال: يضل الله الظالمين، و يفعل الله ما يشاء.

قلت: و ما ذلك، جعلني الله فداك؟.

قال: من ظلم ابني حقه و جحده امامته من بعدي، كان كمن ظلم علي بن أبي طالب عليه السلام امامته و جحده حقه بعد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم.



[ صفحه 74]



قلت: و الله لئن مد الله في العمر لأسلمن له حقه، و لأقرن بامامته.

قال: صدقت يا محمد. يمد الله في عمرك، و تسلم له حقه، و تقر له بامامته، و امامة من يكون بعده.

قلت: و من ذاك؟

قال: ابنه محمد.

قلت: له الرضا و التسليم» [50] .

فبالله أقسم عليكم أيها الأحبة من القراء، دلوني علي الذي أطلع الامام الكاظم عليه السلام، علي جملة أمور غيبية في هذا الحديث، منها:

أولا: أنها تكون حركة في تلك السنة قد علم بها قبل وقوعها، و عرف أنه لا ينبغي لصاحبه أن يجزع منها، و لا يخاف علي امامه من الاغتيال!.

و ثانيا: أنه عليه السلام يسير للمهدي العباسي، ولكنه لا يصيبه منه سوء مع أنه «مطلوب رأسه» و غير مرغوب فيه، و من كان مثله لا يسلم من سيف الحاكم الظالم!.

و ثالثا: من الذي أمنه علي سلامته حتي يعيش طيلة خلافة المهدي و الي عهد خليفة ثان، و أن الخليفة الحالي يموت قبله، و أن الخليفة الثاني لا يؤذيه أيضا؟!.

و رابعا: كيف علم أنه يموت قبل ابنه الرضا و أن الرضا عليه السلام سيكون الامام من بعده حتما جزما؟!.

و من هو الذي أعطاه عهدا بذلك، و عهدا بأن صاحبه - محمد بن سنان - أيضا، يبقي حيا الي أن يبايع ابنه الرضا، ثم يبايع ابن ابنه الجواد عليهماالسلام؟!.

و خامسا: كيف علم أن ابنه الرضا سيولد له صبي - ذكر تعيينا - و أنه سيسمي محمد؟!!

و سادسا: كيف كفل استمرار صاحبه علي الولاء له، و لابنه، و لحفيده و كفل له البقاء الي ذلك الوقت؟.



[ صفحه 75]



و لو شئنا أن نمضي في التساؤل و التعجب و التفريع، لطال بنا المقام، اذ لا تزال أسئلة تتوالد حول هذه الحادثة التي تشبهها - الي حد - حادثة ابنه الامام الرضا عليه السلام، الذي قال لصاحبه جعفر بن محمد النوفلي يوم ذهب الي «مرو» في خراسان و علم بأنه لا يعود من سفره:

«عليك بابني محمد من بعدي. و أما أنا فاني ذاهب في وجه لا أرجع» [51] .

فمن أين للكاظم و ابنه عليهماالسلام هذا العلم بالغيب؟!.

ان لديهما «شيئا خاصا» ليس موجودا مع غير الأئمة بلا أدني ريب.

و هما لا يشاركان الله تعالي في علمه، و لكنهما ممن شملهم قوله عز من قائل: (عالم الغيب فلا يظهر علي غيبه أحدا، الا من ارتضي من رسول) [52] فكان عندهما علم كثير منه، اذا ارتضاهما أعلاما في خلقه و موضعا لسره و أمره. و هما يحملان عهد النبي صلي الله عليه و آله و سلم المعهود اليهما و الي آبائهما و أبنائهما موحي به اليه من الله تبارك اسمه. كما أنهما مصدقان و مؤمنان بالأمر السماوي بكامله، و لا يعبدان الله علي حرف!.

و مثلهما ابنهما الامام الجواد عليه السلام الذي قال لصاحبه ابن بزيع العطار و غيره:

«ألفرج بعد «المأمون» بثلاثين شهرا» [53] .

فقال ابن بزيع: «فنظرنا، فمات عليه السلام بعد «المأمون» بثلاثين شهرا» [54] .

فمن دله علي هذا الرقم الذي لم يزد شهرا و لا نقص شهرا و لا يوما؟!.

ان من، و كيف، و لماذا، كلمات تتعب اذا ثابرنا علي استعمالها في كل مناسبة نعرض فيها لآيات الأئمة عليهم السلام و معاجزهم؛ و تكل فلا تستطيع الأداء بجانب تفسير ذلك و تأويله.

فاستمع للحادثة التالية التي حصلت لامامنا الجواد عليه السلام - و هو في صغره -



[ صفحه 76]



يرويها أمية بن علي و يقول:

«كنت مع أبي الحسن - الرضا عليه السلام بمكة في السنة التي حج فيها ثم سار الي خراسان - و معه أبوجعفر، و أبوالحسن يودع البيت. فلما قضي طوافه عدل الي المقام فصلي عنده.

فصار أبوجعفر علي عنق «موفق» - خادمه - يطوف به.

ثم صار أبوجعفر الي الحجر - حجر اسماعيل - فجلس فيه فأطال.

فقال موفق: قم جعلت فداك.

فقال: ما أريد أن أبرح من مكاني هذا الا أن يشاء الله؛ و استبان في وجهه الغم. و أتي «موفق» أباالحسن عليه السلام فقال له: جعلت فداك، قد جلس أبوجعفر عليه السلام في الحجر و هو يأبي أن يقوم.

فقام أبوالحسن عليه السلام، فأتي أباجعفر عليه السلام، فقال له: قم يا حبيبي.

قال: كيف أقوم و قد ودعت «البيت» و داعا لا ترجع اليه؟!.

فقال: قم يا حبيبي، فقام معه» [55] .

و نعود فنضطر الي استعمال من، و لم، و لماذا، و كيف؟!. فمن أعلم هذا الولد - الحدث بأن أباه ودع «البيت» و داعا أخيرا؟.

و كيف جزم بأن أباه لن يعود من سفره الي بغداد فخراسان؟!.

و ما هذه البادرة من ولد لا يزال خادمه يحمله علي عنقه ليطوف؛ لأنه لا يستطيع طواف سبعة أشواط حول «البيت» وحده مشيا علي قدميه؟.

و علي كل حال هذه واحدة ندع الكلام حولها..

و الثانية رواها أمية بن علي نفسه فقال:

«كنت بالمدينة، و كنت أختلف الي أبي جعفر عليه السلام، و أبوالحسن



[ صفحه 77]



- والده - عليه السلام بخراسان. و كان أهل بيته و عمومة أبيه يأتون و يسلمون عليه - و هو لما يبلغ الثامنة من عمره -.

فدعا يوما الجارية فقال: قولي لهم يتهيأون للمأتم.

فلما تفرقوا قالوا: ألا سألناه: مأتم من؟.

فلما كان الغد فعل مثل ذلك فقالوا: مأتم من؟.

قال: مأتم خير من علي ظهرها - يعني والده -.

فأتانا خبر أبي الحسن عليه السلام بعد ذلك بأيام، فاذا هو قد مات في ذلك اليوم» [56] .

فما شأن هذا اليافع - المقيم في المدينة المنورة، و أبوه علي بعد الآف الأميال في خراسان - يعلن وفاته ساعة موته؟!.

و بأي لسان تجرأ علي دعوتهم للتهيؤ الي المأتم بجزم و تأكيد، اذا لم يكن مسندا ظهره الي ركن ركين من العلم الذي ألهمه الله تعالي اياه؟.

و ما بال أهل بيته و عمومته لا ينكرون قول «ولد» لم يكد يضع قدمه علي عتبة اليفاع، و لا «يظنون» - ظنا - أنه يرجم بالغيب؟!!

و أنا أقولها لأريح بال قارئي: ان عمومته و زواره «يعلمون» أن علم أهل هذا البيت من علم الله، و لا يبحثون عن سبب وراء ذلك.

أما الثالثة و الأعجب - من هذا النوع، فقد رواها محمد بن قتيبة عن مؤدب كان لأبي جعفر عليه السلام، قال:

«كان بين يدي يوما يقرأ في اللوح، اذ رمي اللوح من يده و قام فزعا و هو يقول:

انا لله و انا اليه راجعون، مضي - و الله - أبي عليه السلام. - أي مات -.



[ صفحه 78]



فقلت: من أين علمت؟.

قال: دخلني من اجلال الله و عظمته شي ء لم أعهده.

فقلت: و قد مضي؟. - أي هل مات مؤكدا -؟.

فقال: دع عنك ذا. ائذن لي أن أدخل الي البيت و أخرج اليك، و استعرضني أي القرآن شئت أف لك بحفظه.. - و في هذه أكبر دليل علي أن علم الامام ينتقل الي خلفه ساعة موته -.

فدخل البيت، فقمت و دخلت في طلبه اشفاقا مني عليه، فسألت عنه فقيل: دخل البيت و رد الباب دونه و قال: لا تؤذنوا علي أحدا حتي أخرج اليكم.

فخرج مغبرا و هو يقول: انا لله و انا اليه راجعون، مضي - و الله - أبي!..

فقلت: جعلت فداك، و قد مضي؟!!

قال، نعم، و وليت غسله و تكفينه، و ما كان ليلي ذلك منه غيري. - و سنري آية ذلك و كيفيته في الآتي -.

ثم قال: دع عنك هذا، استعرضني أي القرآن شئت أف لك بحفظه.

فقلت: الاعراف.

فاستعاذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم قرأ:

(بسم الله الرحمن الرحيم):

(و اذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة، و ظنوا أنه واقع بهم)! [57] .

فقلت: (المص)؟.

فقال: هذا أول السورة... و هذا ناسخ، و هذا منسوخ، و هذا محكم، و هذا متشابه، و هذا خاص، و هذا عام، و هذا ما غلط به الكتاب، و هذا ما اشتبه علي الناس» [58] .

و في هذا الحادثة جهات هامة لن نمر بها مرورا عابرا.

ففيها - أولا - أنه هل كل من دخله شي ء من اجلال الله و عظمته، يجب أن



[ صفحه 79]



يكون أبوه قد مات في تلك اللحظة و يعرف ذلك حتي و لو كان يبعد عن أبيه الآف الأميال!.

و متي كانت الذلة التي تتداخل الانسان دليلا علي موت الأب؟

و اذا كانت كذلك، فكيف ميز هذا الغلام اليافع تلك الذلة عن غيرها؟

ألا ان الأمر ليس حيث نحن من قصر التفكير.

و أنا أري: أن «الذلة» التي دخلت علي نفس الامام عليه السلام لحظة موت أبيه، هي حالة انسان كان انسانا عاديا مثلي و مثل سائر العالمين، ولكنه - لحظتئذ - خلع الله تعالي عليه جلباب ولايته و سربله بسربال خلافته في الأرض و اصطفاه لاعلاء كلمته، و بوأه منزلة المنتجبين من عباده، فشعر بروح السماء يدخل رئتيه، و بنور الحق يشع في قلبه، و بدفقة علوية من الايمان عمرت صدره لم يعهدها من قبل - و لا تدخل علي قلوب الناس العاديين - فأحس بأنعم الله عز و جل تغمره و تنقله الي أجواء نورانية ربانية خشع لها قلبه، و ذلت - لربه - نفسه بعد «اصطفائه لأمره».. فتواضع لخالقه تواضع امام لديان.

مضافا الي أن تفسير هذه الظاهرة ورد علي لسان أبيه عليه السلام في حديث صفوان بن يحيي الذي قال:

«قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام: أخبرني عن الامام متي يعرف أنه امام حين يبلغه أن صاحبه قد مضي - أو حين يمضي؟. مثل أبي الحسن عليه السلام - أي الامام الكاظم - قبض ببغداد و أنت ها هنا!.

قال: يعلم ذلك حين يمضي صاحبه.

قلت: بأي شي ء يعلم.

قال: يلهمه الله ذلك» [59] .

و بهذا يتضح الاشكال، و ينكشف هذا السر.. و يزول العجب.



[ صفحه 80]



و في الحادثة - ثانيا - أنه قال لمؤدبه: «و أخرج اليك، و استعرضني أي القرآن شئت أف لك بحفظه».

فقولته هذه تستدعي منا - أولا و بالذات - أن نؤمن بالله تعالي و بقدرته، و أن نصدق بما يجي ء من عنده، و نوقن بما يفيض عنه و يصدر عن مشيئته حين يقول للشي ء: كن، فيكون.

و حينئذ نؤمن بأن ذلك الفتي كان «عاديا» يقبع مع أترابه بين يدي مؤدبه، فألبسه الله تعالي جلباب خلافته، فنبه مؤدبه - اذ ذاك - بأنه الآن أصبح حاضرا لاستعراض القرآن ليبين له اعجازه و ما هو محكم أو متشابه، و ما هو خاص و ما هو عام، و ما هو ناسخ و ما هو منسوخ.. الخ. أي أنه: سيدخل البيت ليخبر أهله بموت أبيه ثم يخرج الي مؤدبه اماما وليا من أولياء ربه قد أودع قلبه ينابيع الحكمة فلن يعيا بجواب و لا يحيد عن صواب، اذ «أهله» ربه - ساعتئذ بالذات - تأهيل خلافة له في أرضه كما لو قال سبحانه للشي ء: كن، فيكون... كيف لا، و هو سبحانه القائل: (انما قولنا لشي ء اذا أردناه، أن نقول له: كن، فيكون) [60] .

كما أن فيها - ثالثا - أن الامام عليه السلام اذ دخل البيت و أغلق الباب و منع الاذن... قد ذهب فقام بواجب تغسيل أبيه و تكفينه و دفنه في خراسان كما ستري!.. ثم عاد، و طويت له الأرض كما هو المعروف عن أولياء الله تعالي و خلصائه. - وستمر بذلك تفصيلا -.

فلا تحاول معرفة أئمة أهل البيت عليهم السلام اذا لم تنفتح علي الحق الذي ينزل من السماء، و دون أن تتلقي ما يمكن أن يصدر عن الله تعالي بقلب موقن تمام الايقان.. و الا، فان الأفهام تعجز عن تفسير أمورهم و تاويلها، و القلوب تنغلق عن أن يلج اليها خبر من أخبار أسرة مملكة السماء بسهولة و دون ايمان راسخ... و قد قال امامنا الجواد عليه السلام - هو ذاته - لمولاه «عسكر» الذي كان يقوم علي خدمته و رأي منه معجزة أدهشته:



[ صفحه 81]



«... و الله لا وصل الي حقيقة معرفتنا، الا من من الله عليه و ارتضاه لنا وليا» [61] .

فهنيئا لمن فاز بتوليهم.. و ابتعد عن عصبية ابليس و أنانبته حين تكبر عن السجود لآدم عليه السلام!.

و سنري في موضوع تال خاص ببعض «آياته» ما يدهش و يثير التعجب من جهة، و يعطي صورة واضحة عن عظمة الأئمة المستمدة من عظمة الله تعالي و قدرته من جهة ثانية.



[ صفحه 83]




پاورقي

[1] معاني الأخبار ص 79 و الآية في القصص - 5.

[2] معاني الأخبار ص 79 و الآية في القصص - 5.

[3] معاني الأخبار ص 184 رواية عن مبارك مولاه. و الآية الأولي في الجن - 22 - 21 و الثانية في الأعراف - 199 و الثالثة في البقرة - 177.

[4] معاني الأخبار ص 184 رواية عن مبارك مولاه. و الآية الأولي في الجن - 22 - 21 و الثانية في الأعراف - 199 و الثالثة في البقرة - 177.

[5] معاني الأخبار ص 184 رواية عن مبارك مولاه. و الآية الأولي في الجن - 22 - 21 و الثانية في الأعراف - 199 و الثالثة في البقرة - 177.

[6] عيون أخبار الرضا ج 2 ص 200 و بحارالأنوار ج 24 ص 131.

[7] بحارالأنوار ج 25 ص 61 رواية عن أبي الصباح.

[8] المصدر السابق، نفس الجزء ص 117 نقلا عن الخصال ج 2 ص 106.

[9] المحجة البيضاء ج 4 ص 179 و الآية في الجمعة - 4.

[10] الاختصاص ص 286 و بصائر الدرجات ص 317 و بحارالأنوار ج 7 ص 289.

[11] الاختصاص ص 286 و بصائر الدرجات ص 317 و بحارالأنوار ج 7 ص 289.

[12] بحارالأنوار ج 26 ص 66 و بصائر الدرجات ص 325 عن ضريس، و أمالي الشيخ ص 154 عن أبي هاشم الجعفري.

[13] الاختصاص ص 317 و بصائر الدرجات ص 408.

[14] بحارالأنوار ج 26، ص 68 - 67 و بصائر الدرجات ص 92.

[15] الأنبياء - 27.

[16] بحارالأنوار ج 26 ص 66 و أمالي ابن الشيخ ص 154.

[17] الاختصاص ص 284 و ص 285 مكررا بعدة أسانيد، و هو في بحار الأنوار ج 7 ص 282 و في الكافي م 1 ص 296 مكررا بنصوص مختلفة و كذلك في بصائر الدرجات ص 302 و في مصادر لا تحصي بهذا اللفظ و بغيره. و مثله في فرائد السمطين ج 1 ص 103.

[18] الاختصاص ص 284 و ص 285 مكررا بعدة أسانيد، و هو في بحارالأنوار ج 7 ص 282 و في الكافي م 1 ص 296 مكررا بنصوص مختلفة و كذلك في بصائر الدرجات ص 302 و في مصادر لا تحصي بهذا اللفظ و بغيره. و مثله في فرائد السمطين ج 1 ص 103.

[19] الاختصاص ص 284 و بحارالأنوار ج 7 ص 288 و بصائر الدرجات ص 307.

[20] بحارالأنوار ج 26 ص 73 و بصائر الدرجات ص 108.

[21] بحارالأنوار ج 26 ص 73 و بصائر الدرجات ص 108.

[22] المصدر السابق نفس الجزء ص 75 و بصائر الدرجات نفس الصفحة.

[23] الكافي م 1 ص 176 و هو مكرر كثيرا في الصفحة و ما يليها عن الامامين الصادق و الرضا عليهماالسلام.

[24] المصدر السابق نفس الجزء ص 83 و الكافي ج 1 ص 268.

[25] بحارالأنوار ج 7 ص 328 مكررا في الصفحات التالية بعدة نصوص و بأسانيد مختلفة، و هو في الكافي م 1 ص 177 و في بصائر الدرجات من ص 316 الي ص 318 مكررا بعدة روايات.

[26] المصدر السابق ج 26 ص 18 و ص 19 مكررا بألفاظ متقاربة، في روايات متعددة. و انظر الارشاد ص 257 و الاحتجاج ص 203 و أمالي ابن الشيخ ص 260.

[27] بحارالأنوار ج 26 ص 68 و بصائر الدرجات ص 93 و من ص 319 الي ص 321 مكررا في عدة روايات.

[28] النحل - 68.

[29] الاختصاص ص 286 و بحارالأنوار ج 7 ص 288 نقلا عن بصائر الدرجات.

[30] بحارالأنوار ج 26 ص 28 نقلا عن مناقب آل أبي طالب ج 3 ص 374.

[31] هود - 73.

[32] مريم - 18 و 19.

[33] الاختصاص ص 287 و بحارالأنوار ج 7 ص 292 نقلا عن بصائر الدرجات، و ج 26 ص 69 عن بصائر الدرجات أيضا.

[34] الكهف - 86.

[35] الاختصاص ص 288 و بحارالأنوار ج 1 ص 132 نقلا عن بصائر الدرجات و غيره.

[36] المصدر السابق ذاته.

[37] المصدر السابق نفسه.

[38] الاختصاص ص 314 و بحارالأنوار ج 7 ص 312 نقلا عن البصائر ج 8 باب 11.

[39] بحارالأنوار ج 7 ص 293 و البصائر ج 7 باب 14 و الاختصاص ص 293. و الآية في النمل - 16.

[40] بحارالأنوار ج 16 ص 376 في حديث طويل رواه ابن عباس رضوان الله عليه.

[41] المصدر السابق ج 26 ص 110 نقلا عن بصائر الدرجات ص 35 رواه سعد بن الأصبغ الأزرق.

[42] بحارالأنوار ج 43 ص 330.

[43] المصدر السابق، نفس الجزء ص 333.

[44] الاختصاص ص 307 و بحارالأنوار ج 1 ص 136 و ج 7 ص 307 و بصائر الدرجات ص 361 و 362 مكررا بروايات.

[45] نفس المصدر السابق.

[46] الاختصاص ص 307 و بحارالأنوار ج 1 ص 336 و بصائر الدرجات ص 363 و ص 364 مكررا بعدة روايات.

[47] بحارالأنوار ج 67 ص 101.

[48] الخصال ص 480 - 479 رواه الحسن بن العباس بن الحريش الرازي.

[49] بصائر الدرجات ص 120.

[50] بحارالأنوار ج 50 ص 19 و غيبه الطوسي ص 27 - 26 و رجال الكشي ص 429 و هو في اثبات الهداة كما أشرنا اليه في غير هذا المكان.

[51] بحارالأنوار ج 50 ص 18 و عيون الأخبار الرضا ج 2 ص 216.

[52] الجن - 26 - 25.

[53] بحارالأنوار ج 50 ص 64 و اثبات الهداة ج 6 ص 190 و المحجة البيضاء ج 4 ص 305.

[54] بحارالأنوار ج 50 ص 64 و اثبات الهداة ج 6 ص 190 و المحجة البيضاء ج 4 ص 305.

[55] بحارالأنوار ج 50 ص 64 - 63 و كشف الغمة ج 3 ص 153 - 152 و ص 159 و ص 215 و اثبات الهداة ج 6 ص 190 و المحجة البيضاء ج 4 ص 305 - 304.

[56] بحارالأنوار ج 5 ص 63 و مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 389 و اثبات الهداة ج 6 ص 182 و ص 183 و كشف الغمة ج 3 ص 160 و اعلام الوري ص 335 - 334 و المحجة البيضاء ج 4 ص 308.

[57] الأعراف - 171.

[58] الامامة و التبصرة من الخيرة ص 86 - 85 و أكثر المصادر السابقة.

[59] بحارالأنوار ج 27 ص 291.

[60] النحل - 40.

[61] مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 388.