بازگشت

و حان الرحيل


كما تضاربت الآراء و اختلفت في تعيين تاريخ مولده، كذلك وقع الاختلاف في تعيين يوم شهادته عليه السلام. و لا يمكن الترجيح علي نحو الجزم بأحد تلك الأقوال سواء في المولد أو الوفاة، لكننا نستطيع أن نستقرب أحد التواريخ المنقولة في المصادر من خلال الاستئناس ببعض القرائن أو



[ صفحه 127]



الدلائل التي تساعد علي ذلك.

و بناء علي كون عمر الامام الجواد عليه السلام عند وفاته قد ضبط في بعض المصادر بخمس و عشرين سنة، و شهرين، و ثمانية عشر يوما [1] ، و لو رجح تاريخ مولده في 17 رمضان سنة (195 ه) [2] ، فان وفاته عليه السلام ستكون وفق ذلك البناء يوم الثلاثاء لخمس خلون من ذي الحجة سنة (220 ه) [3] .

و مما يعضد هذا الرأي وجود رواية في الكافي في باب الاشارة و النص علي أبي الحسن الثالث عليه السلام: «شهد أحمد بن أبي خالد مولي أبي جعفر أن أباجعفر محمد بن علي بن موسي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، أشهده أنه أوصي الي علي ابنه بنفسه و أخواته.. الي أن ينتهي من بعض وصاياه و يؤرخ الوصية بقوله: و ذلك يوم الأحد لثلاث ليال خلون من ذي الحجة سنة عشرين و مئتين..» [4] .

من هذا يتبين أن الامام عليه السلام حي يرزق في يوم الأحد، حيث كتب وصيته و أشهد عليها ثلاثة من أصحابه المقربين اليه: خادمه، و مولاه، و أحد أبناء عمومته، ثم كانت بعد ذلك شهادته عليه السلام يوم الثلاثاء.

و قيل: يوم الثلاثاء لست ليال خلون من ذي الحجة سنة عشرين و مائتين [5] .



[ صفحه 128]



أما كيفية وفاته عليه السلام فانه اختلف فيها أيضا، فمن قائل بشهادته مسموما بعنب رازقي، و من قائل بمسموميته في منديل، و هناك من قال انه سم بشراب، أو من قال ان المعتصم أشار الي أعوانه بدعوته الي مأدبة فقدم له طعام مسموم فأكل منه، و منهم من صرح بعدم ثبوت خبر موته بالسم، و سكت البعض الآخر عن كيفية موته و اكتفي بكلمة (قبض).

و لعل أقدم نص توفرنا عليه الخبر الذي أورده العياشي المتوفي سنة» 320 ه) في تفسيره.

قال العياشي: (.. قال زرقان: ان ابن أبي دؤاد قال: صرت الي المعتصم بعد ثلاثة، فقلت: ان نصيحة أميرالمؤمنين علي واجبة، و أنا أكلمه بما أعلم أني أدخل به النار.

قال: و ما هو؟

قلت: اذا جمع أميرالمؤمنين في مجلسه فقهاء رعيته و علماءهم لأمر واقع من أمور الدين، فسألهم عن الحكم فيه فأخبروه بما عندهم من الحكم في ذلك، و قد حضر المجلس أهل بيته و قواده و وزراؤه و كتابه، و قد تسامع الناس بذلك من وراء بابه، ثم يترك أقاويلهم كلهم لقول رجل يقول شطر هذه الأمة بامامته، و يدعون أنه أولي منه بمقامه، ثم يحكم بحكمه دون حكم الفقهاء!!

قال: فتغير لونه و انتبه لما نبهته له، و قال: جزاك الله عن نصيحتك خيرا، قال: فأمر (المعتصم) يوم الرابع فلانا من كتاب وزرائه بأن يدعوه الي منزله،



[ صفحه 129]



فدعاه. فأبي أن يجيبه و قال: «قد علمت أني لا أحضر مجالسكم». فقال: اني انما أدعوك الي الطعام، و أحب أن تطأ ثيابي و تدخل منزلي فأتبرك بذلك، فقد أحب فلان بن فلان (من وزراء الخليفة) لقاءك.

فصار اليه، فلما أطعم منها أحس السم، فدعا بدابته، فسأله رب المنزل أن يقيم، قال: «خروجي من دارك خير لك».

فلم يزل يومه ذلك و ليله في خلفة حتي قبض عليه السلام) [6] .

أما الشيخ المفيد رحمه الله فقد نقل في ارشاده بأنه عليه السلام: (قبض ببغداد، و كان سبب وروده اليها اشخاص المعتصم له من المدينة، فورد بغداد لليلتين بقيتا من المحرم من سنة عشرين و مئتين، و توفي بها في ذي القعدة من هذه السنة.

و قيل: انه مضي مسموما، و لم يثبت بذلك عندي خبر فأشهد به) [7] .

في حين نجد أن المؤرخ علي بن الحسين المسعودي المتوفي سنة» 436 ه» يقول: (و قيل: ان أم الفضل بنت المأمون لما قدمت معه من المدينة الي المعتصم سمته) [8] .

و في موضع آخر ذكر أن مثلث الاغتيال (المعتصم - جعفر - أم الفضل) كانوا قد تشاوروا و تعاونوا علي قتل الامام و التخلص منه بعد قدومه الي بغداد، بل ما استدعي الا للغرض ذاته. فقال: (.. و جعلوا - المعتصم بن



[ صفحه 130]



هارون و جعفر بن المأمون و أخته أم الفضل - سما في شي ء من عنب رازقي و كان يعجبه العنب الرازقي، فلما أكل منه ندمت و جعلت تبكي. فقال لها: «ما بكاؤك؟ و الله ليضربنك الله بفقر لا ينجبر، و بلاء لا ينستر»، فبليت بعلة في أغمض المواضع من جوارحها صارت ناسورا ينتقض عليها في كل وقت. فأنفقت مالها و جميع ملكها علي تلك العلة حتي احتاجت الي رفد الناس. و تردي جعفر في بئر فأخرج ميتا، و كان سكرانا..

و لما حضرت الامام عليه السلام الوفاة نص علي أبي الحسن و أوصي اليه، و كان قد سلم المواريث و السلاح اليه بالمدينة) [9] .

و أضاف ابن شهر آشوب السروي المازندراني (ت / 588 ه)، و أبوجعفر محمد بن جرير الطبري الامامي (من أعلام القرن الخامس الهجري)، «ان امرأته أم الفضل بنت المأمون سمته في فرجه بمنديل، فلما أحس بذلك قال لها: «أبلاك الله بداء لا دواء له»، فوقعت الأكلة في فرجها، و كانت تنصب للطبيب فينظرون اليها و يسرون - أو يشيرون - بالدواء عليها فلا ينفع ذلك حتي ماتت من علتها) [10] .

و قال ابن شهر آشوب قبل ذلك أن الامام عليه السلام لما تجهز (و خرج الي بغداد فأكرمه - أي المعتصم - و عظمه، و أنفذ أشناس [11] بالتحف اليه و الي أم



[ صفحه 131]



الفضل، ثم أنفذ اليه شراب حماض الأترج [12] تحت ختمه علي يدي أشناس، و قال: ان أميرالمؤمنين ذاقه قبل أحمد بن أبي دؤاد، و سعد بن الخضيب و جماعة من المعروفين، و يأمرك أن تشرب منها بماء الثلج، و صنع في الحال. فقال - أي الامام عليه السلام -: «أشربها بالليل». قال: انها تنفع باردا، و قد ذاب الثلج، و أصر علي ذلك، فشربها عالما بفعلهم) [13] .

و بعد، فهذا اجمال لما ورد في شأن وفاته و كيفيتها، و الذي يبدو راجحا هو أن الامام عليه السلام قضي عليه بالسم، و أن المشاركين في عملية الاغتيال قد عرفتهم، و عرفت تدبيرهم. مع العلم أن محاولات سبقت كانت تدبر لاغتيال الامام؛ لكنه عليه السلام كان يعلم بها، و كان حذرا و قد أخذ بالاحتياط في التعامل سواء مع زوجته أو مع أعوان السلطان في مأكله و مشربه. و لقد كان متوقعا هذا الأمر قبل وقت غير قليل، فيوم دخل عليه محمد بن علي الهاشمي صبيحة عرسه في بغداد كان يتوقع هذا أن يأتوا للامام بماء مسموم حين طلب ماء للشرب.

كما أفلت عليه السلام من محاولة استهدفت سمه في طعام قدم له، فقد نقل أبوجعفر المشهدي باسناده: (عن محمد بن القاسم، عن أبيه، و عن غير واحد من أصحابنا أنه قد سمع عمر بن الفرج أنه قال: سمعت من أبي جعفر عليه السلام شيئا لو رآه محمدا أخي لكفر.

فقلت: و ما هو أصلحك الله؟



[ صفحه 132]



قال: اني كنت معه يوما بالمدينة اذ قرب الطعام، فقال: «أمسكوا».

فقلت: فداك أبي، قد جاءكم الغيب!

فقال: «علي بالخباز». فجي ء به، فعاتبه و قال: «من أمرك أن تسمني في هذا الطعام؟». فقال له: جعلت فداك (فلان)، ثم أمر بالطعام فرفع و أتي بغيره) [14] .

و علي أي حال فقد نجح مثلث الاغتيال في تدبيرهم الأخير، و أطفأوا نور الامام، و حرموا أنفسهم و الامة من بركاته، و ما أطفأوا الا نورا من أنوار النبوة، لو كانوا رعوه حق رعايته لسقوا ماء غدقا، و لأكلوا من فوقهم و من تحت أرجلهم، ولكنهم:



عجبت لقوم أضلوا السبيل

و لم يبتغوا اتباع الهدي



فما عرفوا الحق حين استنار

و لا أبصروا الفجر لما بدا



و سرعان ما يلتحق الامام عليه السلام الي بارئه فينال هناك كأسه الأوفي، و هو لم يخسر الدنيا؛ لأنه لم يكن يملك منها شيئا، و لا رجا و أمل يوما من حطامها شيئا، لكن الامة خسرته ابنا من أبناء الرسالة، و علما من أعلام النبوة، و طودا شامخا كان يفيض علي هذا الوجود كل أسباب العلم و المعرفة، و التقي و الصلاح، و لو قدروه حق قدره؛ لأكلوا من فوق رؤوسهم و من تحت أرجلهم، و لوجدوا به خيرا كثيرا.

و روي أن ابنه علي الهادي عليه السلام قام في جهازه و غسله و تحنيطه و تكفينه كما أمره و أوصاه، فغسله و حنطه و أدرجه في أكفانه و صلي عليه في جماعة



[ صفحه 133]



من شيعته و مواليه [15] .

و جاء في الأخبار أن الواثق صلي عليه بحضور جماهير غفيرة من الناس، ثم حمل جثمانه في موكب مهيب تشيعه عشرات الآلاف من الناس الي مقابر قريش حيث مثوي جده الامام الكاظم موسي بن جعفر عليهماالسلام، فأقبر الي جواره في ملحودة أصبحت اليوم عمارة شامخة تناطح السماء بمآذنها الذهبية، و قبلة يؤمها آلاف المسلمين يوميا للتبرك بأعتابها، و طلب الحوائج من ساكنيها. و لطالما انقلب الملمون و المستغيثون الي أهلهم فرحين بما وجدوا من انجاز طلباتهم التي تعسر حل مشكلها، بل و ان البعض منها كان في حكم المحال حل معضله.


پاورقي

[1] اصول الكافي 1: 492.

[2] اعلام الوري 2: 91.

[3] اثبات الوصية: 192.

[4] اصول الكافي 3 / 1: 325.

[5] تاريخ أهل البيت عليهم السلام: 85، بتحقيق السيد محمد رضا الجلالي، نشر مؤسسة آل البيت عليهم السلام 1410 ه - قم.

[6] تفسير العياشي 1: 320 / 109 و عنه بحارالأنوار 50: 5 / 7.

و الخلفة: ذهاب شهوة الطعام من المرض، أو الاسهال و التقيؤ نتيجة التسمم.

[7] الارشاد 2: 295.

[8] مروج الذهب 4: 60 الطبعة الاولي 1411 ه، تحقيق عبدالأمير علي مهنا.

[9] دلائل الامامة: 395. و عيون المعجزات: 131 و عنه بحارالأنوار 50: 16 / 26.

[10] مناقب آل أبي طالب 4: 391. و دلائل الامامة: 395.

[11] أشناس: من كبار قواد جيش المعتصم، تركي الأصل. اشترك في فتح عمورية سنة» 223 ه». عهد اليه المعتصم بناء مدينة سامراء لتكون ثكنة للجيش التركي الذي ضاقت به بغداد. تولي امرة دمشق في عهد الواثق. مات سنة» 230 ه»، و قيل سنة» 252 ه».

[12] الأتروج أو الأترنج: ثمر من جنس الحمضيات و يقال له (الترنج) أيضا و الحماض: ما في جوف الأترج من اللب.

[13] مناقب آل أبي طالب 4: 384.

[14] الثاقب في المناقب: 517 / 446.

[15] مجموعة وفيات الأئمة: 342.