بازگشت

مع ابن تيمية


و أنكر ابن تيمية هذه الرواية، و اعتبرها من الموضوعات - بغير أدب في التعبير - فقد علق عليها بما نصه:

«ان هذه الحكاية التي حكاها عن يحيي بن أكثم من الأكاذيب التي لا يفرح بها الا الجاهل، و يحيي بن أكثم أفقه و أعلم و أفضل من أن يطلب تعجيز شخص بأن يسأله عن محرم قتل صيدا، فان صغار الفقهاء يعلمون حكم هذه المسألة، فليست من دقائق العلم و غرائبه، و لا ما يختص به المبرزون في العلم، ثم مجرد ما ذكره ليس فيه الا تقسيم أحوال القاتل ليس فيه بيان حكم هذه الأقسام، و مجرد التقسيم لا يقتضي العلم بأحكام الأقسام، و انما يدل ان دل علي حسن السؤال، و ليس كل من



[ صفحه 235]



سئل أحسن أن يجيب.

ثم ان كان ذكر الأقسام الممكنة واجبا فلم يستوف الأقسام، و ان لم يكن واجبا فلا حاجة الي ذكر بعضها، فان من جملة الأقسام أن يقال: متعمدا كان أو مخطئا، و هذا التقسيم أحق بالذكر من قوله: عالما كان أو جاهلا، فان الفرق بين المتعمد و المخطي ء ثابت بالاثم باتفاق الناس، و في لزوم الجزاء في الخطأ نزاع مشهور، فقد ذهب طائفة من السلف و الخلف الي أن المخطي ء لا جزاء عليه، و هو أحد الروايتين عن أحمد، قالوا: ان الله قال: «و من قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم» فخص المتعمد بوجوب الجزاء، و هذا يقتضي أن المخطي ء لا جزاء عليه، لأن الأصل براءة ذمته، و النص انما وجب علي المتعمد، فبقي المخطي ء علي الأصل، و لأن تخصيص الحكم بالمتعمد يقتضي انتفاءه عن المخطي ء فان هذا مفهوم صفة في سياق الشرط، و قد ذكر الخاص بعد العام، فانه اذا كان الحكم يعم النوعين كان قوله: (و من قتله منكم متعمدا) فزاد اللفظ، و نقص المعني، و كان هذا مما يصان عنه كلام أدني الناس حكمة فكيف كلام الله الذي هو خير الكلام و أفضله، و فضله علي سائر الكلام كفضل الله علي خلقه، و الجمهور القائلون: بوجوب الجزاء علي المخطي ء يثبتون ذلك بعموم السنة و الآثار، و بالقياس علي قتل الخطأ في الآدمي، و يقولون: انما خص المتعمد بالذكر لأنه ذكر من الأحكام ما يخص به المتعمد و هو الوعيد لقوله: (ليذوق و بال أمره عفا الله عما سلف و من عاد فينتقم الله منه) فلما ذكر الجزاء و الانتقام كان المجموع مختصا بالمتعمد و لم يلزم أن يثبت بعضه مع عدم العمد، و مثل هذا قوله: (و اذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ان خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) فانه أراد بالقصر قصر العدد و قصر الأركان، و هذا القصر الجامع للنوعين متعلق بالسفر و الخوف، و لا يلزم من الاختصاص بمجموع



[ صفحه 236]



الأمرين أن لا يثبت أحدهما مع أحد الأمرين، و لهذا نظائر، و لذلك كان ينبغي أن يسأله أقتله و هو ذاكر لاحرامه، أو ناس، فان في الناسي نزاعا أعظم مما في الجاهل، و يسأل هل قتله لكونه صال عليه، أو لكونه اضطر الي مخمصة أو قتله عبثا ظلما بلا سبب، و أيضا فان في هذه التقاسيم ما يبين جهل السائل، و قد نزه الله من يكون اماما معصوما عن هذا الجهل، و هو قوله: «أفي حل قتله أم في حرم» فان المحرم اذا قتل الصيد وجب عليه الجزاء سواء أكان في الحل أم في الحرم فاتفاق المسلمين، و الصيد الحرمي، يحرم قتله علي المحل و المحرم، فاذا كان محرما و قتل صيدا حرميا توكدت الحرمة ولكن الجزاء واحد.

و أما قوله: «مبتدئا أو عائدا» فان هذا فرق ضعيف لم يذهب اليه انسان من أهل العلم، و أما الجماهير فعلي أن الجزاء يجب علي المبتدي ء و علي العائد و قوله في القرآن: «و من عاد فينتقم الله منه» قيل: ان المراد من عاد الي ذلك في الاسلام بعد ما عفي الله عنه في الجاهلية، و قيل: نزول هذه الآية كما قال: «و لا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء الا ما قد سلف» و قوله: «و أن تجمعوا بين الاختين الا ما قد سلف» و قوله: «قل للذين كفروا ان ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف» يدل علي ذلك، انه لو كان المراد غفر الله في أول مرة لما أوجب عليه جزاءا، و لا انتقم منه و قد أوجب عليه الجزاء أول مرة.

و قال: «ليذوق و بال أمره» فمن أذاقه الله و بال أمره كيف يكون قد عفي عنه، و أيضا قوله: «عما سلف» لفظ عام و اللفظ العام المجرد عن قرائن التخصيص لا يراد مرة واحدة، فان هذا ليس من لغة العرب، و لو قدر أن المراد بالآية عفي الله عن أول مرة، و ان قوله: «و من عاد» يراد به العود الي القتل فان انتقام الله منه اذا عاد لا يسقط الجزاء عنه فان تغليظ الذنب لا يسقط الواجب كمن قتل نفسا بعد نفس لا



[ صفحه 237]



يسقط عنه قود و لا دية و لا كفارة..» [1] .

و حفل كلام ابن تيمية بالمغالطات التي هي أبعد ما تكون عن الحق و ألصق ما تكون بالباطل، و التي كان منها ما يلي:

أولا: انه برأ يحيي و نزهه من الاقدام علي امتحان الامام عليه السلام فهو - علي حد تعبيره - أفقه و أعلم و أفضل من أن يطلب تعجيز شخص، و الذي نراه - حسب التحقيق العلمي - أنه لا مانع من اقدام يحيي علي ذلك بعد ما طلب منه العباسيون، و منوه بالأموال، و قد كان القضاء في العصر العباسي أداة بيد السلطة، فكانوا يسايرون رغبة الخلفاء و يقضون و يفتون علي حسب ميولهم، و كان مما رواه المؤرخون في ذلك، ان هارون الرشيد قد شغف بجارية لأبيه المهدي، كان قد دخل بها فامتنعت عليه، و قالت له: «لا أصلح لك ان أباك قد طاف بي..».

فلم يمتنع عنها و ازداد شغفه و غرامه بها، فأرسل خلف القاضي أبي يوسف فقال له: «أعندك شي ء في هذا..».

فأفتي أبويوسف بما وافق هوي هارون و خالف كتاب الله و سنة نبيه قائلا: «يا أميرالمؤمنين أو كلما ادعت أمة شيئا ينبغي أن تصدق لا تصدقها، فانها ليست بمأمونة..».

و قد خالف بفتواه ما حكم به الاسلام صراحة من أن النساء مصداقات علي فروجهن، و علق ابن المبارك علي هذه الفتوي بقوله:

«لم أدر ممن أعجب من هذا الذي قد وضع يده في دماء المسلمين و أموالهم لا يتحرج عن حرمة أبيه، أو من هذه الأمة التي رغبت بنفسها عن أميرالمؤمنين، أو



[ صفحه 238]



من هذا فقيه الأرض و قاضيها!! قال: اهتك حرمة أبيك واقض شهوتك، و صيره في رقبتي..» [2] .

و هناك فتاوي كثيرة لأبي يوسف شذت عن القواعد الفقهية، و اتفقت مع رغبات السلطة الحاكمة.. ان القضاء لم يكن مستقلا في العصر العباسي و انما كان خاضعا لرغبات الخليفة و ميوله.

ثانيا: ان هذه المسألة التي سأل يحيي عنها الامام عليه السلام ليست من المسائل البسيطة - كما يقول ابن تيمية - و انما هي من دقائق علم الفقه باعتبار ما يتفرع عليها من الفروع و ما يتشعب عليها من المسائل، و أكبر الظن أن يحيي انما سأل الامام عنها باعتبار ذلك اذ ليس من السذاجة، و عدم الدراية بشؤون الفقه حتي يسأل الامام عن مسألة بسيطة.

ثالثا: ان ابن تيمية ذكر أن الامام عليه السلام لم يعرض الي بيان حكم هذه الأقسام التي فرعها علي المسألة، و هذا يدل علي عدم تتبعه، و نظرته للامور بصورة سحطية فان الامام عليه السلام قد تعرض بالتفصيل لأحكام هذه الأقسام - كما سيأتي -.

رابعا: أنكر ابن تيمية أن يكون الامام عليه السلام عالما بأحكام هذه الأقسام فقد قال: «و مجرد التقسيم لا يقتضي العلم بأحكام هذه الأقسام» ان الامام الذي استمد علومه من آبائه العظام الذين هم ورثة الرسول الأعظم صلي الله عليه و اله و سلم قد عرض بصورة شاملة لبيان أحكام الأقسام، ولكن ابن تيمية قد وضع حجابا علي عينيه فلم يبصر ما ذكره الامام عليه السلام.

خامسا: ذكر ابن تيمية أن ذكر الأقسام الممكنة ان كان واجبا فلم يستوف



[ صفحه 239]



- أي الامام - الأقسام، و ان لم يكن واجبا فلا حاجة الي ذكر بعضها، اني لا أعرف كلاما حافلا بالمغالطات مثل هذا الكلام اذ أي علاقة أو ربط بين الحكم التكليفي الالزامي و هو الوجوب و بين ذكر الأقسام التي أدلي بها الامام، لقد فرع الامام علي سؤال يحيي تلك الفروع و من الطبيعي أن ذكرها غير مرتبط أصلا بأي حكم من الأحكام.

سادسا: من مؤاخذات ابن تيمية علي كلام الامام أنه لم يذكر المتعمد و المخطي ء، و هو أحق بالذكر من غيره، و هذا من الغرابة بمكان لقد أدلي الامام عليه السلام بذلك، و لم يهمله، ولكن ابن تيمية قد أخفاه للتشهير بالامام، و النيل منه.

سابعا: من مؤاخذات ابن تيمية علي الامام عليه السلام انه لم يستوف ذكر الأقسام، و قد عد ابن تيمية جملة منها، و هذا من المغالطات لأن الامام عليه السلام ليس في مقام بيان استيعاب جميع صور المسألة حتي يشكل عليه بذلك، و انما ذكر بعض صورها لافحام يحيي.

هذه بعض المؤاخذات التي تواجه كلام ابن تيمية الذي خلا من كل صيغة علمية..

و لنعد بعد هذا الي ما جري للامام عليه السلام بعد فشل يحيي في مسألته.


پاورقي

[1] منهاج السنة 2: 128- 127.

[2] حياة الامام موسي بن جعفر 2: 44.