بازگشت

مقدمة


(1)

من أروع صور الفكر و العلم في الاسلام الامام أبوجعفر الثاني محمد الجواد عليه السلام الذي حوي فضائل الدنيا و مكارمها، و فجر ينابيع الحكمة و العلم في الأرض، فكان المعلم و الرائد للنهضة العلمية، و الثقافية في عصره، و قد أقبل عليه العلماء و الفقهاء، و رواة الحديث، و طلبة الحكمة و المعارف، و هم ينتهلون من نمير علومه و آدابه، و قد روي عنه الفقهاء الشي ء الكثير مما يتعلق بأحكام الشريعة الاسلامية من العبادات و المعاملات و غير ذلك من أبواب الفقه، و قد دونت في موسوعات الفقه و الحديث.

لقد كان هذا الامام العظيم أحد المؤسسين لفقه أهل البيت عليهم السلام الذي يمثل الابداع و الأصالة، و تطور الفكر.

و روي عنه العلماء ألوانا ممتعة من الحكم و الآداب التي تتعلق بمكارم الأخلاق و آداب السلوك، و هي من أثمن ما أثر عن الاسلام من غرر الحكم التي عالجت مختلف القضايا التربوية و الأخلاقية.



[ صفحه 10]



و دلل الامام أبوجعفر الجواد عليه السلام بمواهبه و عبقرياته، و ملكاته العلمية الهائلة التي لا تحد علي الواقع المشرق الذي تذهب اليه الشيعة الامامية من أن الامام لابد أن يكون أعلم أهل زمانه و أفضلهم من دون فرق بين أن يكون صغيرا أو كبيرا، فان الله أمد أئمة أهل البيت عليهم السلام بالعلم و الحكمة و فصل الخطاب كما أمد اولي العزم من أنبيائه و رسله، و تعتبر هذه الجهة احدي العناصر الحية في عقيدة الشيعة.

لقد برهن الامام أبوجعفر عليه السلام علي ذلك فقد تقلد الامامة و الزعامة الدينية بعد وفاة أبيه الامام الرضا عليه السلام و كان عمره الشريف - فيما أجمع عليه المؤرخون - لا يتجاوز السبع سنين، و هو دور لا يسمح لصاحبه - حسب سيكلوجية الطفل - أن يخوض في أي ميدان من ميادين العلوم العقلية، أو يدخل في عالم المناظرات و البحوث الجدلية، مع كبار العلماء و المتخصصين فان ذلك غير ممكن لمن كان في سن الطفولة. الا أن الامام الجواد عليه السلام و هو بهذا السن قد خرق هذه العادة.

فقد سأله أشهر علماء عصره عن أعقد المسائل الفلسفية و الكلامية و الفقهية فأجابهم عنها، و كان ممن سأله يحيي بن أكثم قاضي قضاة بغداد الذي انتخبه العباسيون لامتحان الامام فسأله عن مسألة فقهية، ففرع الامام عليها عدة فروع ثم سأله عن أي فرع أراده منها، فلم يهتد يحيي لذلك، و لم يستطع أن يتخلص مما هو فيه، و اعترف بعدم قدرته علي مجاراة الامام [1] .

و لقد شغلت مناظراته مع يحيي و غيره من علماء عصره الرأي العام في بغداد و غيرها، فكانت حديث الأندية و المجالس، و تحدثت بها الركبان، و لا تزال تسجل له الاعجاب علي امتداد التاريخ..



[ صفحه 11]



و مما يدلل علي مدي ثرواته العلمية، و هو بهذا السن ان فقهاء الشيعة بعد وفاة الامام الرضا عليه السلام قد خفوا الي يثرب للتعرف علي الامام القائم من بعده، فأرشدهم الثقات الي الامام الجواد فمثلوا أمامه و سألوه عن أعمق المسائل، و أكثرها تعقيدا فأجابهم عنها، و يقول الرواة: انه سئل في موضع آخر عن ثلاثين ألف مسألة فأجاب عنها، و من الطبيعي أنه لا تعليل لهذه الظاهرة المحيرة و المذهلة للفكر الا بما تذهب اليه الشيعة الامامية من أن الأئمة أهل البيت عليهم السلام قد منحهم الله تعالي العلم و آتاهم من الفضل ما لم يؤت أحدا من الناس.

(3)

و يقول بعض المؤرخين: ان مواهب الامام الجواد عليه السلام و عبقرياته قد ملكت عواطف المأمون، و مشاعره فأخلص له في الحب و الولاء فقدمه علي أبنائه، و أهل بيته، و زوجه من ابنته ام الفضل، و وفر له العطاء الجزيل، و أوعز الي جهاز حكومته و سائر الأوساط الرسمية باحترامه و تبجيله.. الا أنه لا واقع لذلك كما سنعرض له في بحوث هذا الكتاب.

(4)

و لم يلق الامام الجواد عليه السلام أي ضغط اقتصادي طيلة حياته و انما عاش مرفها عليه غاية الترفيه فقد أجري له المأمون مرتبا سنويا يبلغ حوالي مليون درهم، و هي كثيرة في ذلك العصر الذي كان الدرهم فيه يساوي قيمة شاة.

و كانت ترد اليه الأموال الطائلة من الحقوق الشرعية التي تذهب الشيعة الي لزوم دفعها الي الامام، كنصف الخمس الذي يسميه فقهاء الشيعة الامامية بحق



[ صفحه 12]



الامام عليه السلام و كمجهول المالك و غيره من سائر الحقوق الشرعية بالاضافة الي واردات الأوقاف التي وقفها علي أهل البيت عليهم السلام بعض المحسنين من الشيعة في (قم) و غيرها و كان عليه السلام يقتصد في صرفه علي نفسه، و ينفق تلك الأموال الطائلة علي فقراء المسلمين و ذوي الحاجة و المضطرين، و لهذا السخاء المنقطع النظير، فقد لقب عليه السلام بالجواد و كان هذا اللقب من أميز ألقابه و أشهرها حتي عرف و اشتهر به بين الناس.

(5)

و احيط الامام محمد الجواد عليه السلام بهالة من الحفاوة و التكريم، و قابلته جميع الأوساط بمزيد من الاكبار و التعظيم، فكانت تري في شخصيته امتدادا ذاتيا لآبائه العظام الذين حملوا مشعل الهداية و الخير الي الناس. الا أنه لم يحفل بتلك المظاهر التي احيط بها، و انما آثر الزهد في الدنيا و التجرد عن جميع مباهجها.

و قد رآه الحسين في بغداد، و قد التفت حوله الجماهير، فحدثته نفسه بأنه لا يرجع الي ما كان عليه من الزهد في الدنيا و الاقبال علي الله، و شعر الامام منه ذلك، فأقبل عليه بلطف و رفق قائلا:

«يا حسين، ان خبز الشعير، و ملح الجريش في حرم جدي رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم أحب الي مما تراني فيه...» [2] .

و كانت هذه الظاهرة احدي العناصر البارزة في سيرة الامام محمد الجواد عليه السلام كما كانت السمة البارزة في سيرة أئمة أهل البيت عليهم السلام، فلم يؤثر عن أي أحد منهم أنه سعي للدنيا، أو اتجه نحو مباهجها، و انما آثروا جميعا طاعة الله و ابتغوا الدار الآخرة، و عملوا كل ما يقربهم الي الله زلفي.



[ صفحه 13]



(6)

و عاش الامام محمد الجواد عليه السلام في تلك الفترة القصيرة من حياته متجها صوب العلم فرفع مناره، و أرسي اصوله و قواعده، فاستغل مدة بقائه في بغداد بالتدريس [3] و اشاعة العلم، و بلورة الفكر بالمعارف و الآداب الاسلامية، و قد احتف به جمهور كبير من العلماء و الرواة و هم يأخذون منه العلوم الاسلامية من علم الكلام و الفلسفة، و علم الفقه، و التفسير، و يعرض هذا الكتاب الي تراجمهم و اعطاء صورة مفصلة عن حياتهم حسبما تنص عليه مصادر التراجم، فان الحديث عنهم من مكملات البحث عن شخصية الامام عليه السلام.

(7)

أما عصر الامام محمد الجواد عليه السلام فهو من أروع العصور الاسلامية علي امتداد التاريخ و ذلك لانتشار الحضارة فيه علي نطاق واسع، و كان من أروع صور تلك الحضارة تطور العلوم، و انتشار المعاهد، و انشاء المكتبات و ترجمة الكتب الطبية، و الفلسفية من اللغة اليونانية و غيرها الي اللغة العربية، و قد صارت بغداد حاضرة من أعظم حواضر العلم و الفكر في الاسلام فقد ازدهرت بكبار العلماء و المتخصصين في علوم الطب و اللغة و الفقه و غيرها كما تطورت الحياة الاقتصادية في بغداد الي حد غريب الا أنه من المؤسف أنه قد تكدست الملايين من الأموال عند بعض الطبقات، و هي التي كانت تخدم السلطة العباسية، و تعمل لصالحها، فقد أثرت هذه الطبقة ثراء فاحشا حتي حارت في صرف ما عندها من الأموال، حتي صنعت أبواب بيوتها من الذهب،



[ صفحه 14]



و تفننت في أنواع الترف و الشهوات في حين أن الأكثرية الساحقة من الشعوب الاسلامية كانت تعاني مرارة العيش و الفقر و الحرمان.

و نحن مدعوون الي دراسة عصر الامام محمد الجواد عليه السلام و الوقوف علي جميع معالمه الحضارية و الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية، فقد أصبحت دراسة العصر بهذا اللون من البحوث المنهجية التي لا غني للباحث عنها، و لم يعهد هذا الكتاب دراسة خاصة عن حياة الامام محمد الجواد عليه السلام فقط و انما هو دراسة شاملة و مستوعبة للعصر الاسلامي الذي نشأ فيه.

(8)

أما البحث عن حياة الملوك الذين عاصرهم الامام محمد الجواد عليه السلام فانه يرتبط ارتباطا وثيقا و موضوعيا بحياة الامام فانه يصور مدي ما عاناه من المشاكل و ما عانته الامة الاسلامية من المصاعب و الخطوب في دور اولئك الملوك الذين جهدوا علي ظلم الناس و ارغامهم علي ما يكرهون.

و قد قضي الامام أبوجعفر عليه السلام أكثر أيام حياته في عهد المأمون الذي هو من أبرز ملوك العباسيين فكرا و سياسة، و مقدرة للتغلب علي الأحداث، و قد عرضنا بصورة غير موضوعية الي دراسته، و دراسة الأحداث السياسية التي وقعت في عهده، و التي كان من أبرزها:

عقده لولاية العهد للامام الرضا عليه السلام و الحروب الطاحنة التي وقعت بينه و بين أخيه الأمين، و واقعة أبي السرايا، و غير ذلك من الأحداث، و قد ذكرنا الأسباب التي أدت الي أن يزوج المأمون ابنته ام الفضل من الامام الجواد عليه السلام كما ذكرنا دراسة عن حياة المعتصم العباسي الذي قاسي الامام في عهده أشد ألوان الاضطهاد فأرغمه علي مغادرة يثرب و الاقامة الجبرية في بغداد، و أقام عليه المباحث تحصي عليه جميع



[ صفحه 15]



تصرفاته، و تراقب جميع من يتصل به، و لما استبان له سمو شخصية الامام و أنه لا يجاريه و لا يسايره و لا يقر سياسته الهادفة الي نشر الظلم و الفساد في الأرض فحينئذ دس له السم علي يد زوجته ام الفضل فاغتاله، و كان الامام في غضارة العمر و ريعان الشباب، و يعرض هذا الكتاب الي تفصيل ذلك كله.

(9)

لا أري هناك عائدة علي الامة، أو خدمة تؤدي اليها أفضل من نشر حياة أئمة أهل البيت عليهم السلام و اذاعة مآثرهم، و نشر فضائلهم بين الناس فأنهم سلام الله عليهم المصدر الأصيل لكرامة الانسان، و شرفه، و الينابيع الفياضة للفكر و الوعي، لا لهذه الامة فحسب، و انما للناس جميعا علي اختلاف قومياتهم، و أديانهم، و ميولهم.. و قد رفعوا راية الحق عالية خفاقة، و هي ترشد الضال، و تهدي الحائر، و توضح القصد، و تدلل علي الايمان بالله الذي تبتني عليه قوي الخير و السلام في الأرض. ان البحث عن سير أئمة أهل البيت عليهم السلام يكشف عن كنوز مشرقة من العلم و الحكمة و يكشف عن ذوات أخلصوا للحق، و خلقوا للايمان، و اتجهوا صوب الله تعالي، وتبنوا الدعوة اليه، و عانوا في سبيل ذلك من فراعنة عصورهم ما لم يعانه أي مصلح اجتماعي في الأرض، ان الامام الجواد عليه السلام أحد كواكب تلك العترة الطاهرة، و هو ممن رفع كلمة الله، فامتحن كأشد ما يكون الامتحان من أجل ذلك قابله فراعنة عصره و طواغيت زمانه، بألوان قاسية من الاضطهاد و الجور و يوضح هذا الكتاب جميع هذه الجوانب.

(10)

و لم تحظ المكتبة العربية بدراسة عن حياة الامام أبي جعفر الجواد عليه السلام الذي هو من



[ صفحه 16]



منابع الفكر و العلم في الاسلام، و أحد مفاخر هذه الامة وقادتها الطليعيين فلم يكتب أحد عن سيرته سوي محمد بن وهبان فقد ألف كتابا عن حياته أسماه «أخبار أبي جعفر الثاني» [4] لكنه لم يوجد في مكتباتنا. و لعله من جملة ما فقدته الامة من ثرواتها المخطوطة، أو أنه في بعض خزائن المخطوطات في مكتبات العالم.

و قد وفقت - و الحمد لله - الي البحث عن سيرة هذه الامام العظيم الذي ملأ الدنيا بفضائله و علومه و زهده و تقواه، و لا أدعي أني ألممت بجميع جوانب حياته المشرقة، فذاك أمر لا يتفق مع الواقع الذي نخلص له، و انما ألقينا أضواء خافتة علي بعض معالم شخصيته التي هي امتداد ذاتي - بلا شك - لحياة آبائه الطاهرين الذين أضاؤا الحياة الفكرية و الاجتماعية في الاسلام.

(11)

و أري من الحق علي و أنا في نهاية هذا التقديم أن أرفع بكل تقدير و اعتزاز آيات الشكر و الاخلاص الي سماحة الحجة العلامة الكبير الأخ الشيخ هادي القرشي علي ما تفضل به من مراجعة كثير من الموسوعات كوسائل الشيعة، و غيرها من المصادر التي أمدتنا بكثير من المعلومات عن حياة الامام أبي جعفر عليه السلام بالاضافة الي ملاحظاته القيمة في هذا الكتاب سائلا منه تعالي أن يجعله من ذخائر الفضل و العلم.. كما أن من الحق أن اشيد بولدنا المهذب النبيل السيد عبدالرسول نجل السيد رضا الحسيني الصائغ لمساهمته في الانفاق علي طبع هذا الكتاب في طبعته الاولي سائلا منه تعالي أن يوفقه لكل مسعي نبيل.



[ صفحه 19]




پاورقي

[1] سنعرض لهذه المسألة و غيرها في البحوث الآتية.

[2] اثبات الهداة 6: 185.

[3] عقيدة الشيعة: ص 200.

[4] الذريعة 1: 315، الأعلام 7: 155.