بازگشت

المأمون العباسي


كان المأمون العباسي ابن هارون الرشيد يمتاز عن أسلافه بثقافة مشفوعة بالدهاء و الذكاء، و سياسة مرادفة للشيطنة و النفاق، و هذا شأن كل سياسي يلعب علي حبال عديدة. و يظهر بمظاهر مختلفة.

و قد شاهدنا - في زماننا - الكثيرين من الحكام كيف يتلونون بألوان مختلفة كما تفرضها سياسة الوقت.

فتري بعضهم يحارب الدين بلا هوادة، و يطارد المتدينين أشد المطاردة، و بعد فترة يظهر نفسه بمظهر المتدين الغيور علي الدين، المتحمس للاسلام و المسلمين، ثم يتغير، ثم يتبدل و هكذا و هلم جرا.

و لا مانع لديه من أن يتلون في كل ساعة بلون، و يتظاهر في كل آن بمظهر.

كان المأمون العباسي هكذا، و لقد كان ذكيا في شيطنته و خداعه بحيث التبس أمره علي أهل زمانه، و علي الأزمنة التي تأخرت عنه والي زماننا هذا، و لذلك تري البعض يحسن الظن بالمأمون، بل و يعتبره من الشيعة، اعتمادا علي كلام منقول عنه أنه قال: «أعلمتم كيف تشيعت»؟

و علي كل فان السياسة فرضت علي المأمون أن يخضع للامام الرضا (عليه السلام)



[ صفحه 53]



بل و يتنازل له عن عرش الخلافة!!.

ولكن الامام الرضا (عليه السلام) لم ينخدع بتلك الألعاب السياسية، و امتنع عن قبول الخلافة التي يهبها له المأمون!!.

فان امامة الامام الرضا (عليه السلام) و خلافته و ولايته و وصايته ثابتة من عندالله و رسوله، سواء رضي الناس بذلك أم أبوا، و قد نص عليه جده رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) في أحاديث متواترة صحيحة مشهورة عند المسلمين.

و اما الخلافة (التي معناها المنصب الالهي، التالي لمنصب النبوة، الخلافة التي تثبت بانتخاب الله تعالي و اختياره، و بنص من النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) و غير ذلك من الشرائط و المؤهلات) فان كانت وصلت الي المأمون بصورة شرعية فلا يجوز له أن يتنازل عن حقه الشرعي، و عن مقامه الذي جعله الله له.

و ان كانت الخلافة (بالمعني الذي ذكرناه) وصلت الي المأمون بصورة غير شرعية فلا يجوز له ان يهب ما لا يملك.

و من الذي اعطاه حق الانتخاب و الاختيار لأمور المسلمين؟!

نعم، يجب عليه أن يستقيل عن الخلافة و يعترف بأنه كان غاصبا للخلافة ظالما لآل محمد (عليهم السلام) فاقدا للمؤهلات، و يعلن للأمة الاسلامية بأن الخليفة الشرعي هو الامام الرضا (عليه السلام) كما فعله معاوية بن يزيد بن معاوية الذي استقال عن الخلافة، و عزل نفسه عنها، و أعلن لأهل الشام أن الخليفة الشرعي لرسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) هو الامام زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام) و القصة مشهورة و مذكورة في التاريخ.



[ صفحه 54]



ولكن المأمون كان قد خطط بأن يتنازل عن الخلافة للامام الرضا (عليه السلام) و من الطبيعي ان الامام الرضا سيجعل المأمون وليا للعهد، جزاء لاحسانه (حسب تفكير المأمون) و عند ذلك يسهل له اغتيال الامام، فتنتقل الخلافة اليه بصفته وليا للعهد.

و هكذا يتخلص من مشاكل السياسة التي فرضت عليه الخضوع للعلويين، و تغيير السلوك معهم، و فسح المجال أمامهم، و اعطاءهم الحريات التي كانت مكبوتة ايام أبيه هارون الرشيد.

و كان المأمون يجهل أن الامام الرضا (عليه السلام) هو أعلم و أعرف و أذكي من أن تتلاعب به الأهواء، و أن يصير العوبة لسياسة المأمون الشيطان.

و لما رأي المأمون امتناع الامام الرضا عن قبول الخلافة الموهوبة له! و رأي أن هذه الخطة باءت بالفشل، و لم تنجح فكرته الشيطانية دخل من باب آخر، فعرض علي الامام الرضا (عليه السلام) قبول ولاية العهد، و هذه تنزيل لمكانة الامام الرضا عن مقامه الأسمي.

فالامام الذي لا يرضي بالخلافة الموهوبة له من المأمون كيف يرضي أن يكون وليا للعهد؟ و لهذا امتنع (عليه السلام) أشد الامتناع.

ولكن الأجواء السياسية ضيقت الخناق علي المأمون، و لهذا هدد المأمون الامام الرضا بالقتل ان هو امتنع عن قبول ولاية العهد!!.

و من هنا ينكشف لنا أن المأمون لم يكن يحمل في قلبه شيئا من المحبة و الولاء للامام الرضا (عليه السلام) فلو كان يعتقد في الامام الرضا اعتقادا سليما لم يتجرأ علي تهديده بالقتل ولكنها السياسة التي لا تؤمن بالديانة و لا بالمعتقدات، و انما تؤمن بالظروف و المصالح فقط و فقط!!



[ صفحه 55]



و لما رأي الامام الرضا (عليه السلام) أن الأمر قد وصل الي هذه الدرجة و ان حياته مهددة بالقتل وافق علي ولاية العهد بشرط عدم التدخل نهائيا في شؤون الدولة، من العزل و النصب و غير ذلك من التصرفات.

و هذا البحث يحتاج الي مزيد من الشرح و التفصيل، و الدراسة و التحليل و ارجو من الله تعالي أن يوفقني لتأليف كتاب حول حياة الامام الرضا (عليه السلام) حتي اذكر - هناك - ما يناسب المقام.

و علي كل حال.. فان المأمون سولت له نفسه الشريرة أن يدس السم الي الامام الرضا (عليه السلام) ففارق الامام الحياة مسموما شهيدا، و خرج المأمون الشيطان في تشييع جنازته (عليه السلام) حافي القدمين، قد حل ازرار ثيابه حدادا و حزنا - علي حد زعمه -!!

ولكن المجتمع لا يخلو من أناس اذكياء، لا تلتبس عليهم الحقائق، و لا ينخدعون بالمظاهر و الظواهر.

و اخيرا، اشيع في خراسان ان المأمون هو الذي دس السم الي الامام و قتله.

و من الطبيعي أن الاستياء و التنفر و الانزجار من المأمون انتشر بين الناس و لم يستطع المأمون أن يمكث في خراسان، فقصد نحو بغداد، تغطية، للجريمة، و ابتعادا عن المجتمع المنزعج الناقم عليه.

فلنترك المأمون في بغداد منهمكا في ملذاته، مشغولا بشهواته، بين كؤوس الخمور و ألحان المغنيات و المغنين، يتفنن بأنواع الترف و البذخ.

و لنذهب الي المدينة المنورة لنسمع صدي وفاة الامام الرضا (عليه السلام) هناك:

انتشر خبر وفاة الامام الرضا (عليه السلام) في البلاد، و أكثر



[ صفحه 56]



الشيعة القاطنين في البلاد النائية لا يعرفون الامام القائم مقام الامام الرضا (عليه السلام) و لم يسمعوا - حينذاك - النصوص الدالة علي امامة الامام الجواد (عليه السلام).

و المدينة المنورة موطن آل رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) و يسكنها اكثر العلويين من آل رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) فلا بد من التحقيق و البحث عن الامام بعد الامام الرضا في المدينة المنورة.