مع المأمون العباسي
اختار الله الأئمة عليهم السلام حكاما علي الخلق، و مشرفين علي تنفيذ الشريعة المحمدية و القائمين عليها، ولكن الناس منعوهم عن أداء رسالتهم، و حالوا بينهم و بين مهمته كما صنعت الأمم السالفة بأنبيائها.
بقي الأئمة عليهم السلام تحت وطأة الحاكمين، يفعلون بهم ما يشاؤون، فمرة يحبسونهم، و أخري يولونهم العهد علي غير رغبة منهم.
و للامام الجواد عليه السلام دور آخر بالنسبة للمأمون، فقد استقدمه الي بغداد، و عزم علي تزويجه من ابنته أم الفضل بعد ما شاهد من علومه و فضله، فعارض في ذلك العباسيون، و طلبوا من المأمون العدول عن ذلك، ولكنه أصر.
فقالوا له: ان هذا الفتي و ان راقك منه هديه، فانه صبي لا معرفة له و لا فقه، فأمهله ليتأدب، ثم اصنع ما تراه بعد ذلك.
فقال لهم: و يحكم اني أعرف بهذا الفتي منكم، و ان هذا من أهل بيت علمهم من الله تعالي و مواده و الهامه، لم يزل آباؤه أغنياء في علم اليدن و الأدب عن الرعايا الناقصة عن حد الكمال، فان شئتم فامتحنوا أباجعفر بما يتبين لكم به ما و صفت من حاله [1] .
لم يقتنع العباسيون بكلام المأمون، واتفقوا جميعا علي مناظرته، و قد أوقفناك علي بعض تلك المناظرات، و اندحار يحيي بن أكثم أمام الامام الجواد عليه السلام.
[ صفحه 197]
لقد كان قصد المأمون من عقد مجالس المناظرة مع الامام الرضا عليه السلام لزعزعة مركزه، و ليهبط به، بينما كان قصده من المناظرة مع الامام أبي جعفر عليه السلام أن يظهر للملأ علمه و فضله.
لقد انهزم يحيي بن أكثم في مناظرته مع الامام عليه السلام شر هزيمة، و بدا للجميع انهياره و عجزه، و انهزم من ورائه العباسيون، و أسقط ما في أيديهم.
و سر المأمون ذلك فقال: الحمد لله علي ما من به علي من السداد في الأمر، و التوفيق في الرأي.
و أقبل علي أبي جعفر و قال: اني مزوجك ابنتي أم الفضل و ان رغم لذلك أنوف قوم، فاخطب لنفسك، فقد رضيتك لنفسي و ابنتي.
فقال أبوجعفر عليه السلام: الحمدالله اقرارا بنعمته و لا اله الا الله اخلاصا لوحدانيته، و صلي الله عليه محمد سيد بريته، و الأصفياء من عترته، و أما بعد: فقد كان من فضل الله علي الأنام أن أغناهم بالحلال عن الحرام فقال سبحانه: (وانكحوا الأيمي منكم والصالحين من عبادكم و امائكم ان يكونوا فقرااء يغنم الله من فضله والله واسع عليم) ثم ان محمدا بن علي بن موسي يخطب أم الفضل بنت عبدالله المأمون، و قد بذل لها من الصداق مهر جدته فاطمة بنت محمد صلي الله عليه وآله و سلم و هو خمسمائة درهم جيادا، فهل زوجته يا أميرالمؤمنين علي الصداق المذكور.
قال المأمون: نعم.
و أخرج الخدم مثل السفينة من الفضة، مطلية بالذهب فيها الغالية مضروبة بأنواع الطيب و الماء الورد و المسك فتطيب منها الحاضرون علي قدر منازلهم، ثم وضعت موائد الحلواء، فأكل الحاضرون، و فرقت عليهم الجوائز علي قدر رتبهم، ثم انصرف الناس [2] .
فلما كان من الغد حضر الناس، و حضر أبوجعفر عليه السلام، و صار القواد و الحجاب و الخاصة و العامة لتهنئة المأمون و أبي جعفر عليه السلام، فأخرجت ثلاثة أطباق
[ صفحه 198]
من الفضلة، فيها بنادق مسك و زعفران معجون، في أجواف تلك البنادق رقاع متكتوبة بأموال جزيلة، و عطايا سنية، و اقطاعات، فأمر المأمون بنثرها علي القوم في خاصته، فكان كل من وقع في يديه بندقة أخرج الرقعة التي فيها و التمسه فأطلق له، و وضعت البدر، فنثر ما فيها علي القواد و غيرهم، وانصرف الناس و هم أغنياء بالجوائز والعطايا، و تقدم المأمون بالصدقة علي كافة المساكين [3] .
لقد شغف المأمون بالامام أبي جعفر عليه السلام، وانبهر بعلومه و تتابع الكرامات و المعاجز علي يديه.
قال الشيخ المفيد عليه الرحمة: كان المأمون قد شغف بأبي جعفر عليه السلام لما رأي من فضله مع صغر سنه، و بلوغه في العلم و الحكمة و الأدب و كمال العقل؛ مالم يساوه فيد أحد من مشايخ أهل الزمان [4] .
و قال الشيخ الطبرسي عليه الرحمة: كان قد بلغ في كمال العقل و الفضل و العلم و الحكم و الآداب و رفعة المنزلة مالم يساوه فيها أحد من ذوي السن من السادات و غيرهم، و لذلك كان المأمون مشغوفا به لما رأي من علو رتبته، و عظم منزلته، في جميع الفضائل [5] .
بقي الامام عليه السلام في بغداد معززا مكرما، ولكن مقامه فيها لم يكن برغبة منه، فهو يشعر بالوحشة لفراقه مدينة جده الرسول الأعظم صلي الله عليه و آله و سلم، فهو يقول للحسين المكاري: يا حسين خبز شعير، و ملح جريش في حرم رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم أحب الي مما تراني فيها [6] .
و لعل بعد أولياء الأمور من تعاليم الاسلام كان يزيد الامام عليه السلام وحشة من بغداد و أهلها، فالمأمون - و هو أميرالمؤمنين - كان يشرب الخمر، و قد عز علي الامام عليه السلام أن يري منه ذلك، فقال له: لك عندي نصيحة فاسمعها.
قال: هاتها.
[ صفحه 199]
قال عليه السلام: أشير عليك بترك الشراب المسكر.
قال: فداك ابن عمك، قد قبلت نصيحتك [7] .
و عند أول فرصة يجدها عليه السلام يقفل راجعا الي مدينة جده الرسول الأعظم صلي الله عليه و آله و سلم.
وفي هذا الحديث - لو أنصف الباحثون - تتجلي عظمة الامام عليه السلام، فهو صهر الخليفة، وابن ولي عهده، والدنيا - لو أرادها - تحت تصرفه، و رهن اشارته، و هو لا يزال في مقتبل عمره، و عنفوان شبابه، يعرض عن الدنيا و بهجتها، و يتركها لأهلها المتكالبين عليها.
(لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفتري ولكن تصديق الذي بين يديه و تفصيل كل شي ء و هدي و رحمة لقوم يؤمنون).
[ صفحه 200]
پاورقي
[1] الاحتجاج 2 / 341.
[2] نورالابصار للشبلنجي 147.
[3] تاريخ الامامين الكاظمين 43.
[4] الارشاد 342.
[5] أعلام الوري 202.
[6] بحارالأنوار 12 / 110.
[7] نورالابصار للحائري 258.