بازگشت

بعد وفاة والده


توفي الإمام الرضا في خراسان مسموماً، ودفن في طوس، واختلفت - بسبب موته - الأمة الإسلامية، وفقدت الأمة ملامحها التي كانت قد تميَّزت بها في عهد الرضا (ع).. فرجعت الخلافة إلي بغداد.. وقرَّب المأمون العباسي من يريد وغدر بمن كان قد نصره علي أخيه الأمين في نزع الملك عنه، وغيَّر شعاره الذي اتخذه للثورة التي كانت نصف علوية، ورجع إلي لبس السواد، فأصبحت الدولة دولة عباسية مرة أخري.

ومرة كان الإمام يسير في طرقات بغداد العاصمة المزدحمة وقد اصطف الناس لابن الرضا (ع)، رافعين أعناقهم كي يفوزوا بنظرة منه.. وكان من الواقفين رجل زيدي المذهب، يحدثنا فيقول:

خرجت إلي بغداد فبينما أنا بها، إذ رأيت الناس يتدافعون ويتشرفون ويقفون، فقلت:

ما هذا؟.. فقالوا: ابن الرضا (ع)، فقلت: والله لأنظرن إليه، فطلع علي بغل أو بغلة، فقلت لعن الله أصحاب الإمامة حيث يقولون أن الله افترض طاعة هذا، فعدل إليَّ وقال: يا قاسم بن عبد الرحمن: «فَقَالُوا أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذاً لَفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ» (القمَر/24)

فقلت في نفسي: “ ساحر والله “.

فعمد إليَّ فقال:

«أَءُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ» (القمَر/25)

قال: فانصرفت وقلت بالإمامة وشهدت أنه حجة الله علي خلقه واعتقدت به [1] ، أجل... إن الاستغراب الذي غمر قلب هذا الرجل من جهة صغر السن كان جوابه في هاتين الآيتين المباركتين واضحاً مستبيناً.

وكان الإمام الجواد (ع) رابضاً بالمدينة وهو الفتي الحديث في السن، المقدر عند الله والخلق، قد أعطت الشيعة - وهي يومذاك كثرة لا يستهان بها - أزّمتها بيده فنهض بتدبيرها خير نهوض، حتي التفت حوله طائفة من أصحاب أبيه وجده.

في المدينة:

وبقي في المدينة المنورة بعد عهد إمامته زهاء ثمانية أعوام، يحترمه الخاص والعام ويأوي إليه البعيد والقريب، يسألونه عما أغمض وأشكل عليهم فيحل ذلك لهم في أسرع وقت.

يقول بعض الرواة: لما مات أبو الحسن الرضا (ع) حججنا فدخلنا علي أبي جعفر وقد حضر من الشيعة من كل بلد لينظروا إلي أبي جعفر (ع) فدخل عمه عبد الله بن موسي وكان شيخاً كبيراً نبيلاً، عليه ثياب خشنة وبين عينيه سجادة.

فجلس وخرج أبو جعفر (ع) من الحجرة وعليه قميص قصب ورداء قصب ونعل خوص بيضاء، فقام عبد الله - عمه - واستقبله وقبَّل بين عينيه وقامت الشيعة، وقعد أبو جعفر (ع) علي كرسي ونظر الناس بعضهم إلي بعض تحيراً لصغر سنه.

فانتدب رجل من القوم فقال لعمه: أصلحك الله ما تقول في رجل أتي بهيمة [2] فقال تقطع يمينه ويقام عليه الحد.

فغضب أبو جعفر (ع) وقال: يا عم إتق الله - إتق الله - إنه لعظيم أن أفتيت يوم القيامة بين يدي الله عز وجل لما أفنيت الناس بما لا تعلم، فقال له عمه: يا سيدي أليس قال هذا أبوك(ع)؟

فقال أبو جعفر (ع): إنما سُئِل أبي عن رجل نبش قبر امرأة فنكحها، فقال أبي: تقطع يمينه للنبش ويضرب حد الزنا، فإن حرمة الميِّتة كحرمة الحية فقال: صدقت يا سيدي أنا أستغفر الله، فتعجب الناس فقالوا له: يا سيدنا أتأذن أن نسألك؟

فقال: “ نعم، فسألوه في مجلس عن ثلاثين ألف مسألة فأجابهم فيها وله تسع سنين” [3] .

وهذه القصة تبين مدي أهمية الإمام في عين الشيعة ثم غزارة علمه وطول باعه وسعة ثقافته التي نبعث عن قلب نفخ فيه الله علمه ومعرفته وأكثر فيه تقواه وخشيته.


پاورقي

[1] بحار الأنوار: (ج 50، ص 64).

[2] أي باشر ووطئ بهيمة.

[3] المصدر: ص 85 ومن المحتمل أن يكون عمره ثمان سنوات فقط كما هو مذكور في بعض الأحاديث، حيث أن الذي يبدو من هذا الحديث: أن الشيعة كانت قد اجتمعت بالمدينة في الموسم بعد وفاة الإمام الرضا مباشرة.. وكان للإمام الجواد (ع)، (7) سنين حين موته في آخر شهر صفر، فلما انقضت سبعة أشهر جاء شهر رمضان ودخل الجواد في الثامنة، وفي موسم الحج من تلك السنة كانت هذه المحاورة كما وإن من الممكن كون الأسئلة وجهت إلي الإمام في أيام متعددة مع وحدة المجلس فيكون مجلسه أشبه بالمؤتمرات التي تطول أياماً تباعاً يقضونها بالبحث باستثناء أوقات الراحة والطعام.