بازگشت

الدعاء المعارض، التراتيل، المعارضة


لم يزل أئمة أهل البيت عليهم السلام يعانون من مشكلة التضييق بل و المطاردة، لطروحاتهم، و لم يزل يعاني أصحابهم من الملاحقة و حبس الأنفاس، و احصاء تحركاتهم التي تعدها الأنظمة بأنها المعارضة الأشد عنفا في التأثير و النتائج.. الا أن ذلك لا يمنع من ممارسة أنشطتهم و بث روح العلم و المثابرة من أجل الوصول الي الحقائق... و اذا حظر علي الحديث و معارفه فان الامام علي بن الحسين عليهم السلام لم تتوقف جهوده المعرفية، فقد صاغها علي شكل أدعية تتعهد في تقديم اطروحة أهل البيت عليهم السلام من خلال تراتيل تنبعث في جوف الليل، أو تلقي في جموع المحتشدين من الناس، أو يأنس بها الانسان عند عزلته، أو يتوسل بها المحزون عند وحشته، أو تنفث الي حشاشته الحري عند تعسر حاجته..

هكذا هي أدعية أهل البيت عليهم السلام، و هذه هر تراتيل الصحيفة السجادية، الا أنها لم تكن مجردة عن هدف معرفي يسعي الأئمة الي تعزيز مفاهيمه و ايداع معارفه في ضمير الأمة، و معني هذا فان الدعاء سيحال فضلا عن كونه عبادة يتبتل بها ذوو الحاجات، الا أنه خطاب ثقافي فكري يطرحه أئمة أهل البيت عليهم السلام بعيدا عن



[ صفحه 111]



توجسات الدولة و مطاردة النظام، و بهذا فقد حفظ أهل البيت عليهم السلام - بالرغم من الظرف السياسي العنيف الذي طاردهم - مفاهيمهم المحظورة ضمن أدعية و توسلات، فضلا عن تنبيهات الامة عما يحيطها من مخاطر تعمل علي ايقاظها، و النظام في هذه الحالة غير قادر علي منع هذه الاطروحات التي تصاغ علي شكل أدعية، و لم يشملها الحظر كما يشمل التعاطي بحديث أحد الأئمة، و التي تعده الدولة ترويجا لاطروحاته و تبليغا لشخصه.

و الامام محمد بن علي الجواد عليهم السلام لم يكن بعيدا عن هذه الحالة من الطرح و التبليغ، فقد أعد أدعيته لتعطي رؤية في توجهات الامام و مفاهيم رسالته، و في بعض نماذج أدعيته نقرا بعض هذه الاطروحات التي صاغها الامام في صحيفته... فمن ذلك ما صاغه من الدعاء و بيان مظلوميته عليه السلام و ما يعانيه من المضايقة، و مناشدة أتباعه في الوقوف عليها، و هي وثيقة تتناقلها الأجيال ليقرؤوا فيها محنة أهل البيت عليهم السلام و مظلوميتهم و معاناتهم:

«منائحك متتابعة، و أياديك متوالية، و نعمك سابغة، و شكرنا قصير، و حمدنا يسير، و أنت بالتعطف علي من اعترف جدير.

اللهم و قد غص أهل الحق بالريق، و ارتبك أهل الصدق في المضيق، و أنت - اللهم - بعبادك و ذوي الرغبة اليك شفيق، و باجابة دعائهم و تعجيل الفرج عنهم حقيق.

اللهم فصل علي محمد و آل محمد، و بادرنا منك بالعون الذي لا خذلان بعده، و النصر الذي لا باطل يتكأده، و أتح لنا من لدنك متاحا فياحأ، يأمن فيه وليك، و يخيب فيه عدوك، و تقام فيه معالمك، و تظهر فيه أوامرك و تنكشف فيه عوادي



[ صفحه 112]



أعدائك. [1] .

اللهم بادرنا منك بدار الرحمة، و بادر أعداءك من بأسك بدار النقمة.

اللهم أعنا، و أغثنا، و ارفع نقمتك عنا، و أحلها بالقوم الظالمين». [2] .

و في دعائه بعد أن يظهر نعم الله علي عباده و رحمته و فضله، فانه عليه السلام يطرح معارضته للأنظمة الجائرة ضمن دعائه، و يبين ما ارتكبته هذه الأنظمة من جرائم و خروقات و تعديات علي حقوق أصحاب الحق، و هم الأئمة عليهم السلام و كيف أنهم أبعدوا عن حقوقهم و ممارستها...

«اللهم أنت الأول بلا أولية معدودة، و الآخرة بلا آخرية محدودة، أنشأتنا لا لعلة اقتسارا، و اخترعتنا لا لحاجة اقتدارا، و ابتدعتنا بحكمتك اختيارا، و بلوتنا بأمرك و نهيك اختبارا، و أيدتنا بالآلات، و منحتنا بالأدوات، و كلفتنا الطاقة، و جشمتنا الطاعة، فأمرت تخييرا، و نهيت تحذيرا، و خولت كثيرا، و سألت يسيرا، فعصي أمرك فحلمت، و جهل قدرك فتكرمت، فأنت رب العزة و البهاء، و العظمة و الكبرياء، و الاحسان و النعماء، و المن و الآلاء، و المنح و العطاء، و الانجاز و الوفاء.

و لا تحيط القلوب لك بكنه، و لا تدرك الأوهام لك صفة، و لا يشبهك شي ء من خلقك، و لا يمثل بك شي ء من صنعتك.

تباركت أن تحس أو تمس، أو تدركك الحواس الخمس، و أني يدرك مخلوق خالقه؟ تعاليت - يا الهي - عما يقول الظالمون علوا كبيرا.



[ صفحه 113]



اللهم أدل [3] لأوليائك من أعدائك الظالمين، الباغين الناكثين القاسطين المارقين، الذين أضلوا عبادك، و حرفوا كتابك، و بدلوا أحكامك، و جحدوا حفك، و جلسوا مجالس أوليائك، جرأة منهم عليك، و ظلما منهم لأهل بيت نبيك عليهم سلامك و صلواتك و رحمتك و بركاتك، فضلوا و أضلوا خلقك، و هتكوا حجاب سترك عن عبادك، و اتخذوا - اللهم - مالك دولا، و عبادك خولا [4] ، و تركوا اللهم عالم أرضك في بكماء عمياء ظلماء مدلهمة، فأعينهم مفتوحة، و قلوبهم عميئة، و لم تبق لهم اللهم عليك من حجة. لقد حذرت اللهم عذابك، و بينت نكالك، و وعدت المطيعين احسانك، و قدمت اليهم بالنذر، فآمنت طائفة.

فأيد اللهم الذين آمنوا علي عدوك و عدو أوليائك، فأصبحوا ظاهرين، و الي الحق داعين، و للامام المنتظر القائم بالقسط تابعين.

و جدد اللهم علي عدوك و أعدائهم نارك و عذابك، الذي لا تدفعه عن القوم الظالمين.

اللهم صل علي محمد و آل محمد، و قو ضعف المخلصين له بالمحبة، المشايعين لنا بالموالاة، المتبعين لنا بالتصديق و العمل، المؤازرين لنا بالمواساة فينا، المحيين ذكرنا عند اجتماعهم، و شد ركنهم، و سدد لهم اللهم دينهم الذي ارتضيته لهم، و أتمم عليهم نعمتك، و خلصهم و استخلصهم.

و سد اللهم فقرهم، و المم اللهم شعث فاقتهم، و اغفر اللهم ذنوبهم و خطاياهم، و لا تزغ قلوبهم بعد اذ هديتهم، و لا تخلهم أي رب بمعصيتهم، و احفظ لهم ما



[ صفحه 114]



منحتهم به من الطهارة بولاية أوليائك، و البراءة من أعدائك، انك سميع مجيب، و صلي الله علي محمد و آله الطيبين الطاهرين». [5] .

هكذا كان الامام الجواد عليه السلام كآبائه الطاهرين من قبل، يصدر معارفه الي الامة عن طريق الدعاء، و هي قنوات أمينة تضمن وصول رؤي الأئمة الي الناس بعيدا عن توجسات النظام و مراقبته لتحركاتهم عليهم السلام، و بذلك فقد نجحت انسيابية المعرفة الي أعماق المجتمع بطريقة لم يكن للنظام أن يمنعها، فهي تراتيل القديس في أعماق المحن و أغوار النوائب.


پاورقي

[1] في المصدر: «و تنكف فيه عوادي عداتك».

[2] مهج الدعوات لابن طاووس: 80، طبع مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1414 ه. ق.

[3] الادالة: الغلبة.

[4] الخول: واحدة خائل، و هم العبيد و الاماء و غيرهم من الحاشية، و خول الرجل: حشمه، و الخول: ما أعطي الله سبحانه و تعالي للانسان من النعم. لسان العرب 250:4 (مادة خول).

[5] حياة اولي النهي: 227، عن مهج الدعوات: 82 -80.