بازگشت

دوافع اغتيال الامام


مني الحكم العباسي بهزيمة كبري بين يدي الامام محمد الجواد (عليه السلام)، في الوقت الذي أراد به النظام تصيير الامامة في نظر الشعب المسلم أضحوكة، و ولاية أهل البيت في نظر أتباعهم ألعوبة، و ذلك للقول بامامة هذا اليافع الدارج في سنواته السبع!! و اذا بهم يفاجئون بسيل متحدر من الأعالي يغمر التلاع و التلال و الأباطح بالعلم و المعرفة و الافاضة الانسانية المترامية الأطراف، و اذا بهذا الصبي الامام يصبح أعجوبة الزمن و حديث الجيل المعاصر، و اذا بشيوخ الاسلام تنحني أمام عظمته الكبري، و اذا بأساطين العلم شاخصة الأبصار و هي ترنو اليه خاشعة و اذا بقادة الفكر و أرباب الكلام يتطلعون الي مزيد من الأفكار الجديدة، و الامام يتحدث الي هذا الجمع الحاشد من العلماء بنظر ثاقب و قلب ثابت، تتفجر الحكمة ببيانه، و ينطلق صوت الحق مدويا بلسانه، صلبا لا يتزلزل، و شامخا لا يتداني، حتي انهزم الجمع و ولو الدبر!! و لو أردنا استقراء الحوادث المحيطة بحضرة الامام (عليه السلام)، لوجدناها تنبئ جميعا بمخطط القضاء عليه مبكرا، و ذلك مما يمثل دوافع اغتياله و أسباب قتله المفجع.

و بامكان البحث تشخيص جملة من هذه الدوافع و الأسباب، في نقاط قد تستوعب الجزء الأكبر منها في تلخيص مركز:

1- كان الامام محمد الجواد (عليه السلام) لدي تبرعم شبابه قبلة القاصد و الوارد من طلاب العلم و رواد المعرفة الحقة المسائل الشريعة و أحكام



[ صفحه 254]



الدين، و هم يتوافدون زرافات و وحدانا شطر سدته المنيعة بالتأييد الالهي، و كان هذا التلاحم في التوافد، و الاندفاع في القصد اليه بأعداد كبيرة مما يثير غضب الحاكمين و سخط المتنفذين، فتألبت عليه السلطات الجائرة و أجهزتها الأمنية، و أسرعت بحبك المؤامرة الكبري لاغتياله.

و علاقة تفوق الامام العلمي باستشهاده علاقة وثيقة الصلة، لأن من أوليات المتصدي للخلاقة الالهية الشرعية، و قيادة جماهير الشعب المسلم في ذلك الاتساع الجغرافي و الامتدد علي طول البلاد الاسلامية و عرضها، لابد أن يتسلح - بادئ ذي بدء - بالعلم النابض المتحرك مع متطلبات الزمن و الحضارة، و لابد له من الكفاية العالية في الأداء و البيان لتلبية متطلبات الشعوب الاسلامية في معرفة فروع الأحكام و مسائل الشريعة، و هذا هو المتوافر بغزارة معمقة بأكثر من المتصور لدي الامام الجواد (عليه السلام)، و هو المتوقع من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في الشعور العام، فاذا دعم ذلك الشعور بالتطبيق الخارجي كانت النظرية متكاملة الأبعاد، بينما مركز الخلافة الرسمي المتمثل بسلطان الزمان قد ثبت خسرانه في هذا المجال، فهو صفر الكفين من أبسط مقومات هذا الجانب.

2- كانت ردة الفعل الشعبية علي هذا الاكتشاف السريع الذي لا يحتاج الي الصبر و الاطالة. ان تعلق الشعب المسلم بالامام محمد الجواد في الاضاءة و الانارة لمعالم الطريق السوي في الهدي و الرشد، فحينما استدعي الي بغداد من قبل المعتصم كان التفاف الفقهاء و العلماء و حملة الفكر الانساني المجرد من التعصب منقطع النظير حوله، و كانت الفروق المميزة بين المناخ العقلي الذي يحمله الامام، و بين الأفكار العشوائية التي



[ صفحه 255]



مني بها قادة النظام تحتم اضطلاع الصفوة المثقفة بعب ء التمييز بين المؤشرين: الصاعد المتطلع في الرؤية، و الهابط المتخبط في الانحراف، و النظام يعي ما في هذا من الخطر المحدق الذي يدفع بالأمة الي تزلزل عقيدتها بصلاحية رجال الدولة، و هم يتربعون علي عروشها باسم الاسلام، و لا يحيطون بأدني الضروريات معرفة منه، فما علي السلطان بعد هذا الا أن يتخلص من الامام عاجلا، و بالقضاء عليه.

3- و في ضوء ما تقدم فان الاشكاليات ازدادت ضراوة ضد الامام من قبل السلطان، كما ازدادت القواعد الشعبية التصاقا بالامام (عليه السلام)، فالسلطان يكيد له و يمكر به، و الشعب المسلم يتمسك به أساسا راسخا قد تمكن من القلوب و استولي علي المشاعر و الأحاسيس.

هذه المفارقة في كل تبعاتها المحزنة و المفرحة، و لدت جوا من الحساسية الملتهبة في المناخ السياسي و الشعبي، فالموازين في الأحكام السلطانية و النظم الاسلامية لها موقفها الصريح في الحكم للامام، اذ الولاية الالهية لا تنطبق الا عليه من خلال ضروريات الدين، و هو ما توصل اليه الواعون من الوسط الشعبي المستقل، و التفكير السياسي يري في هذا التقرير الخطر كل علي مراكز الدولة و ذات السلطان، و في مثل هذه المعادلة يكون التخلص من حياة الامام محمد الجواد (عليه السلام) قضية مركزية للحكم.

4- كان للوشايات و تقريرات الأجهزة المسؤولة عن الأمن أثرها الفاعل في تأليب النظام الحاكم علي الامام، فهي تفتعل و تتقول و تفتري تقربا للنظام بما لا أصل له، و هذا جار في كل زمان و مكان لدي الأنظمة



[ صفحه 256]



الدكتاتورية التي تتراءي لها أشباح الهزيمة في كل بادرة، فالامام لا يحاول حكما، و لم يسع الي سلطان، و المعنيون بحفظ النظام يحاولون تأكيد التهم ضد الامام، و يكاد المريب أن يقول خذوني، و من هذه المقولة كان التخوف جاثما علي صدور الحاكمين، يضاف الي ذلك الأحقاد المتأصلة و الكراهية لأهل هذا البيت في مسلكهم الداعي الي العدل الاجتماعي، و حقوق الانسانية، و المساواة بين أبناء الشعب الواحد، و هذا ما يطوح بأحلام حكام الزمان الذين اتخذوا عبادالله خولا، و دينهم دخلا، و مال المسلمين دولا، فاجتمع هذا و ذاك في لا تفكير جديا بالقضاء علي الامام و هو في أول شبابه، و أوج نشاطه القيادي، و هو ما حصل علي يد المعتصم بن هارون الرشيد!!

5- كان الأثر الاجتماعي الفريد لسلوك الامام في حياته المتواضعة، و زهده الواقعي في فطرته الذاتية، و خلقه الرفيع في مثله العليا، مثار جدل كبير ازاء غطرسة السلطة، و كبريائها، و جبروتها، و اسرافها، و تبذيرها، و كان هذا الجدل يصب في رافد الامام عائدية، و كأنه التصويت الصامت علي أحقية الامام بادارة الدولة الاسلامية، فالامام يعيش حياة المسلم الاعتيادي في كل مظاهرها البسيطة، في البيت و المسجد و المحافل العامة، و في الممارسات السكنية و الغذائية و الألبسة والأثاث و متطلبات الحياة، و الحكام يتراوحون في ذلك البرج العاجي بين لهو و عبث و مجون، يرتكبون المحرمات و يسعون الي اللذائذ، و يتحينون الفرص للاقتناص الشهوة المحرمة و اللذة المشبوهة، و الارتماء بأحضان الجواري و القيان، و احياء



[ صفحه 257]



حفلات الرقص و الغناء، و اعمار موائد الخمور و الفجور، عدا الظلم الفاحش و الطغيان المستيطر.

و يبقي الشعب المسلم في فصائله الواعية و شرائحه المختلفة مبهوتا تجاه هذه الفوارق الفجة في كل شي ء!! و هذه مشاهدات ميدانية لها وزنها الوثائقي لدي من ألقي السمع و هو شهيد، و هو مما ازدادت معه شعبية الامام، و تلاشت به هيبة السلطان.

و شعر الحكم العباسي بهذه المسألة الخطيرة، و عليه أن يتأهب بجهد حثيث يصور الحاكم بأنه خليفة الله في أرضه و ان ظلم العباد و مزق البلاد، و تقف ثقافة الامام الرائدة ضد هذا الاتجاه الجبري، و يعود الحكم الي حل لمشكلته المتفاقمة، و لا حل لديه سوي القضاء علي الامام و هكذا كان. و اخترم عمر الامام و هو في ريعان شبابه، و سلامة من صحته و بدنه، و باستشهاده تنطوي تلك الصفحة المشرقة التي أنارت الدنيا بشعاعها الهادي.

و سيظل الامام محمد الجواد (عليه السلام) شعلة وضاءة تذكي حرارة النضال العلمي، و جذوة متوهجة تهدي الي الله تعالي.

و العاقبة اللمتقين.



[ صفحه 259]