بازگشت

يحيي بن أكثم في مسائلة الامام


و حياة أئمة أهل البيت مع الفقهاء الرسميين ذات أبعاد تأريخية شائكة، تمتد جذورها الي بعد عصر الرسالة مباشرة، فقد تصدر للافتاء و الرواية و الحديث نفر ممن ادعي الصحبة، فكثر الكذب علي رسول (صلي الله عليه و آله و سلم) و تمادي الانتحال، و ظهرت علي الأفق أحاديث مفتعلة تتعارض مع صريح القرآن، فكان هذا المناخ الجديد بديلا عن مرجعية أهل البيت (عليهم السلام)، و الامام علي قد يشاور حينا، و لكنه لا يستفتي أحيانا كثيرة، و قد يقرب فترة، و لكنه يستبعد فترات أخري، و كانت الاسرائيليات تغزو المجتمع المدني شاء ذلك أو أبا، و تصدر جيل من اليهود ممن أظهروا الاسلام لقضايا المسلمين التشريعية، فكان كعب الأحبار، و وهب بن منبه، و أمثالهما ممن أدخلا علي الاسلام ما ليس منه.

حتي اذا استولي الأمويون علي الحكم اتخذوا بطانة من وعاظ السلاطين يبرمجون التشريع و علم الكلام وفق رغبات النظام الحاكم، و استبعد الأئمة (عليهم السلام) استبعادا تاما علي المستوي الرسمي و ان تغلغل نفوذهم الجماهيري في المستوي الشعبي، و لكنه بسرية و كتمان شديدين، و مع هذا فقد ذهب الكثير ضحايا لمجرد انتسابهم للتشيع، و حرف كثير من مفاهيم الاسلام نتيجة الزيغ عن مرجعية أهل البيت، و قرب الوضاعون فدست أحاديث لم ينطق بها النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) و رويت أخبار ما أنزل الله بها من سلطان، و وضعت فضائل و مناقب للأموين=



[ صفحه 208]



بألسنة هؤلاء الكذبة، حتي اذا جاء الحكم العباسي كان الانحراف عن الصراط واضحا، و نفوذ فقهاء البلاط قويا، و الدولة تنعم عليهم بالأعطيات و الجرايات، و الجوائز و الهبات، حتي استفحل الداء العياء، و عمت البلوي، و اتسعت الاشكالات المعقدة بما فاض به الاناء و تمادت السياسة بغيها و انحرافها عن النهج الاسلامي، فقيدت الأفكار و الآراء، و دعت الي تعطيل الأحكام و تجميد النظر الشرعي، فألغت عملية الاستنباط من أدلتها التفصيلية و أغلقت باب الاجتهاد.

و لم يقف أئمة أهل البيت (عليهم السلام) من هذا الاعتداء السافر موقف المتفرج و اللامبالاة، و لكنهم جدوا و شمروا عن ساعد النضال العلمي في أطاريح جديدة شملت الدعاة و المبلغين و التلامذة و الأصحاب، و هم يمدونهم بالعلم الخالص المستند الي الكتاب و السنة، و أمروا بتقييد العلم، و تدوين الحديث، و ضبط الرواية، و أسسوا عملية الاجتهاد بالرجوع الي الأصول التي شرعوها، و القواعد التي ثبتوها و عملوا جاهدين الي برمجة التعدد في التخصص، فكان الرواة و المحدثون، و أهل الكلام، و مفسرو القرآن، و رجال الفقه، و علماء التشريع، عدا مجالات العلوم الانسانية بعامة، فكانت الحركة الفكرية دائبة في الحياة، تواكب الزمن، و تستقطب الأجيال، و كان الدور التأسيسي للامامين محمد الباقر و ولده جعفر الصادق (عليه السلام) ذا عمق أصيل في ترسيخ دعائم هذا المنهج، و تسلم ذلك من بعدهم الامام الكاظم و الامام الرضا و الامام الجواد (عليهم السلام)، فكانت الجهود العلمية المركزة حائلا دون مبادرات الحاكمين في شل التوجه التشريعي، و الغاء العقل الانساني، و سيادة



[ صفحه 209]



الهوي و الرأي الاستحساني دون مستند ديني أو رسالي، و بذلك بدأ الصراع علي أشده بين دعاة الجمود لأغراض سياسية، و بين قادة الوعي المعرفي علي أساس ديني لا ريب فيه.

و في ظل هذه المفارقات و تحت الضغوط السياسية الحرجة، تسلم الامام محمد الجواد (عليه السلام) منصب الامامة الشرعية - بما أوضحنا آنفا - ما عرض له من الاستفزاز و التشكيك و الاختبار الميداني، و لكن الامام محمد الجواد بما أوتي من التسديد الالهي، و بما امتلك من خصائص و مواهب و قابليات، شق طريقه بثبات و صلابة و ايمان.

و حينما عزم المأمون علي تزويجه من ابنته أم الفضل كبر ذلك علي بني العباس، و طلبوا للمأمون أن يمهل الامام حتي يتفقه في الدين علي حد زعمهم، فقال لهم:

«و يحكم أنا اعرف بهذا الفتي منكم، و ان هذا من أهل بيت علمهم من الله، و مواده و الهامه، لم يزل آباؤه أغنياء في علم الدين و الأدب عن الرعايات الناقصة عن حد الكمال!!

فان شئتم فامتحنوا أبا جعفر بما يتبين لكم به ما وصفت من حاله!! قالوا له: قد رضينا لك يا أميرالمؤمنين و لأنفسنا بامتحانه، فخل بيننا و بينه لننصب من يسأله بحضرتك عن شي ء من فقه الشريعة!! فان أصاب الجواب عنه لم يكن لنا اعتراض في أمره، و ظهر للخاصة و العامة سديد رأي أميرالمؤمنين، و ان عجز عن ذلك فقد كفينا الخطب في معناه، فقال لهم المأمون: شأنكم ذلك و متي أردتم.



[ صفحه 210]



فخرجوا من عنده، و اجتمع رأيهم علي مسائلة يحيي بن أكثم، و هو قاضي الزمان أن يسأله مسألة لا يعرف الجواب فيها، و وعدوه بأموال نفسية علي ذلك!!

و عادوا الي المأمون، فسألوه أن يختار لهم يوما للاجتماع، فأجابهم الي ذلك، فاجتمعوا في اليوم الذي اتفقوا عليه و حضر معهم يحيي بن أكثم فأمر المأمون أن يفرش لأبي جعفر (عليه السلام) دست و يجعل فيه مسورتان ففعل ذلك، و خرج أبوجعفر (عليه السلام) و هو يومئذ ابن تسع سنين و أشهر فجلس بين المسورتين، و جلس يحيي بن أكثم بين يديه، و قام الناس في مراتبهم، و المأمون جالس في دست متصل بدست أبي جعفر (عليه السلام).

فقال له المأمون: استأذنه في ذلك.

فأقبل عليه يحيي بن أكثم فقال: أتأذن لي جعلت فداك في مسألة؟ فقال له أبوجعفر (عليه السلام): سل ان شئت.

قال يحيي: ما تقول - جعلني الله فداك - في محرم قتل صيدا؟

فقال له أبوجعفر (عليه السلام):

قتله في حل أو حرم؟

عالما كان المحرم أم جاهلا؟

قتله عمدا أو خطأ؟

حرا كان المحرم أم عبدا؟

صغيرا كان أم كبيرا؟



[ صفحه 211]



مبتدئا بالقتل أم معيدا؟

من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها؟

من صغار الصيد كان أم من كباره؟

مصرا عيل ما فعل أم نادما؟

في الليل كان قتله للصيد أم نهارا؟

محرما كان بالعمرة اذ قتله أو بالحج كان محرما؟

فتحير يحيي بن أكثم و بان في وجه العجز و الانقطاع، و لجلج حتي عرف جماعة أهل المجلس أمره.

فقال المأمون: الحمد لله علي هذه النعمة و التوفيق لي في الرأي.

ثم نظر الي أهل بيته و قال لهم:

أعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه؟

فلما تفرق الناس و بقي من الخاصة من بقي، قال المأمون لأبي جعفر (عليه السلام):

ان رأيت جعلت فداك أن تذكر الفقه فيما فصلته من وجوه قتل المحرم الصيد؟ لنعلمه و نستفيده.

فقال أبوجعفر (عليه السلام): نعم.

ان المحرم اذا قتل صيدا في الحل و كان الصيد من ذوات الطير، و كان من كبارها فعلية شاة، فان أصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفا، فاذا قتل فرخا في الحل فعلية حمل قد فطم من اللبن، و اذا قتله في الحرم فعليه الحمل



[ صفحه 212]



و قيمة الفرخ، فان كان من الوحش، و كان حمار وحش فعلية بقرة و ان كان نعامة فعلية بدنة، و ان كان ظبيا فعليه شاة، فان قتل شيئا من ذلك في الحرم فعلية الجزاء مضاعفا هديا بالغ الكعبة، و اذا أصاب المحرم ما يجب عليه الهدي فيه، و كان احرامه بالحج نحره بمني، و ان كان احرامه بالعمرة نحره بمكة، و جزاء الصيد علي العالم و الجاهل سواء، و في العمد له المأثم، و هو موضوع عنه في الخطأ، و الكفارة علي الحر في نفسه، و علي السيد في عبده، و الصغير لا كفارة عليه، و هي علي الكبير واجبة، و النادم يسقط بندمه عنه عقاب الآخرة، و المصر يجب عليه العقاب في الآخرة.

فقال له المأمون: أحسنت يا أبا جعفر أحسن الله اليك، فان رأيت أن تسأل يحيي عن مسألة كما سألك؟

فقال أبوجعفر (عليه السلام) ليحيي: أسألك؟

قال يحيي: ذلك اليك جعلت فداك، فان عرفت جواب ما تسألني عنه و الا استفدته منك!!

فقال له أبوجعفر (عليه السلام):

أخبرني عن رجل نظر الي امرأة في أول النهار، فكان نظره اليها حراما عليه، فلما ارتفع النهار حلت له، فلما زالت الشمس حرمت عليه، فلما كان وقت العصر حلت له، فلما غربت الشمس حرمت عليه، فلما دخل عليه وقت العشاء الآخرة حلت له، فلما كان انتصاف الليل حرمت عليه فما طلع الفجر حلت له.

ما حال هذه المرأة؟ و بماذا حلت له و حرمت عليه؟



[ صفحه 213]



فقال له يحيي بن أكثم: و الله ما اهتدي الي جواب هذا السؤال، و لا أعرف الوجه فيه، فان رأيت أن تفيدناه؟

فقال أبوجعفر(عليه السلام):

هذه أمة لرجل من الناس نظر اليها أجنبي في أول النهار فكان نظره اليها حراما عليه، فلما ارتفع النهار ابتاعها من مولاها فحلت له، فلما كان عند الظهر أعتقها فحرمت عليه، فلما كان وقت العصر تزوجها فحلت له، فلما كان وقت المغرب ظاهر منها فحرمت عليه، فلما كان وقت العشاء الآخرة كفر عن الظهار فحلت له، فلما كان نصف الليل طلقها واحدة فحرمت عليه، فلما كان عند الفجر راجعها فحلت له.

قال: فأقبل المأمون علي من حضرت من أهل بيته فقال لهم:

هل فيكم أحد يجيب عن المسألة بمثل هذا الجواب؟ أو يطرف القول فيما تقدم من السؤال؟

قالوا: لا و الله ان أميرالمؤمنين أعلم بما رأي.

فقال لهم المأمون: و يحكم ان أهل هذا البيت خصوا من الخلق بما ترون من الفضل و ان صغر السن فيهم لا يمنعهم من الكمال، أما علمتم أن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)، افتتح دعوته بدعاء أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) و هو ابن عشر سنين؟ و قبل منه الاسلام و حكم له به، و لم يدع أحدا في سنه غيره؟

و بايع الحسن و الحسين (عليهماالسلام)، و هما ابنا ست سنين؟ و لم يبايع صبيا غيرهما. أفلا تعلمون الآن ما اختص به هؤلاء القوم؟



[ صفحه 214]



و انهم ذرية طيبة بعضها من بعض، يجري لآخرهم ما يجري لأولهم؟

قالوا: صدقت يا أميرالمؤمنين، ثم نهض القوم. [1] .

و أنت تري الامام محمد الجواد (عليه السلام) كيف فرع هذه المسألة و كيف صنفها؟ و كيف بوبها؟ بما أذهل السائل!! ثم كيف أجاب عنها جوابا تفصيليا حافلا بالجزئيات الضرورية التي تغطي الموضوع من جوانبه كلها.

و كذلك صنع الامام (عليه السلام) حينما سأل ابن أكثم سؤالا محيرا لم يصل الي جوابه، بل و لم يستوعب أبعاده، مما كشف عن قصوره بين يدي المأمون، و من ثم تولي الامام الجواب، فلم يدع فيه قولا لقائل.

و هكذا نجد فقاهة الامام منفتحة علي المبتكر الأصيل من الفروع الفقهية تتحري الأهم، و تستوحي الأفضل.



[ صفحه 215]




پاورقي

[1] المفيد / الارشاد / 363 - 360.