بازگشت

الامام الجواد و المعتصم العباسي


توفي المأمون العباسي عام 218 ه بعد أن امتدت به الخلافة عشرين سنة و أشهرا فتولي المعتصم الخلافة بعده، و المعتصم يختلف عن المأمون في أمور عديدة: منها أن المأمون سياسي بارع يتقمص اللين في تحقيق أهدافه، و يمكر بخصومه بطريقة ناعمة هادئة، و كان المأمون محبا للمعرفة و العلم، حتي أقام في بغداد أكبر دار للكتب و الترجمة اسماها «دارالحكمة» ولسعة اطلاعه العلمي و مرونته العقلية عده بعض المؤرخين شيعيا في اتجاهه الفكري و العقائدي مع ان الرجل لم يتبن من التشيع غير بعض الافكار العقائدية و الفقهية [1] .

أما المعتصم فينقصه الامران المذكوران معا، فقد كان محدود التفكير ميالا للقسوة في تعامله مع الخصوم الفكريين و السياسيين، كما يفتقد كثيرا من مقومات الحنكة السياسية في ادارة شؤون الدولة، و قد تعرض حكمه للكثير من صور الاضطرابات السياسية في اقاليم عديدة من اقاليم الدولة العباسية - مما لسنا بصدد الحديث عنها - [2] .



[ صفحه 80]



و قد هيمن الجيش علي الحكم في عصره بعد أن مال المعتصم الي اخواله الا تراك و كون منهم جيشا خاصا، و اغدق عليهم الاموال الطائلة مما أثار حفيظة العسكريين العرب، و عمق الروح القومية في المجتمع.

و تعتبر العملية التي أقدم عليها المعتصم أخطر ما واجهته الدولة العباسية في مسيرتها «منذ قيامها حتي عصر المعتصم» حيث ساءت الاحوال بعد المعتصم، و استشري خطر العسكريين في الدولة، و باشروا الانقلابات العسكرية علي الخلفاء الذين تعرضوا لسلطتهم.

و في مطلع حكمه دعا المعتصم العباسي الامام الجواد (ع) من المدينة المنورة الي بغداد، و يبدو انه أراد أن يضع الامام (ع) تحت الاقامة الجبرية، و ليسهل علي السلطة مراقبة تحركاته علي طريق دفع المسيرة الاسلامية باتجاه النمو و التكامل.

و تفيد بعض المعلومات ان الحاكم العباسي قد زور بعض الوثائق لا دانة الامام (ع) بالدعوة لخلع الخليفة العباسي، و لكن الامام (ع) نجح في افشال مخطط المعتصم [3] .

و لقد كان لحاشية المعتصم أسوأ الاثر في تأجيج نار الحقد و الحسد في قلب المعتصم العباسي علي الامام (ع) رغم حمله لتلك الروح البغيضة ابتداء.

فقد ذكر المؤرخون انه بعد اجراء الامام الجواد (ع) لعدة حوارات مع وعاظ السلاطين من فقهاء الدولة و قضاتها في عصر المعتصم [4] ،



[ صفحه 81]



امتلأت نفوس بعضهم حقدا و حسدا و وشوا بالامام (ع) لدي السلطان، و تحدثوا بما يثير مخاوفه و يؤرق ليله، حتي حمله عمي بصيرته علي المكر بالامام (ع) و التسبب في قتله مظلوما شهيدا.

روي زرقان: ان ابن ابي داود قال: صرت الي المعتصم... فقلت: ان نصيحة أميرالمؤمنين علي واجبة، و أنا أكلمه بما أعلم، اني ادخل به النار قال: و ما هو؟

قلت: اذا جمع أميرالمؤمنين في مجلسه فقهاء رعيته، و علماءهم لأمر واقع من أمور الدين، فسألهم عن الحكم فيه، فأخبروه بما عندهم من الحكم في ذلك، و قد حضر مجلسه أهل بيته، و قواده و وزراؤه، و كتابه، و قد تسامع الناس بذلك من وراء بابه، ثم يترك، أقاويلهم كلهم لقول رجل يقول شطر هذه الامة بأمامته، و يدعون أنه أولي منه بمقامه، ثم يحكم بحكمه دون حكم الفقهاء! قال: فتغير لونه، و أنتبه لما نبهته له، و قال: جزاك الله عن نصيحتك خيرا.

قال: فأمر فلانا من كتابه و وزرائه بأن يدعوه - يعني يدعو الامام الجواد (ع) - الي منزله، فدعاه، فأبي أن يجيبه، و قال: قد علمت اني لا أحضر مجالسكم، فقال: اني انما ادعوك الي الطعام، و أحب ان تطأ ثيابي، و تدخل منزلي، فأتبرك بذلك، فقال: أجب فلانا بن فلان من وزراء الخليفة، فصار اليه، فلما طعم منها أحس بالسم، فدعا بدابته، فسأله رب المنزل أن يقيم قال: خروجي من دارك خيرلك، فلم يزل يومه ذلك، وليله في حلقه حتي قبض [5] و تجسد هذه القصة المأساوية عدة حقائق:



[ صفحه 82]



1- ان الامام الجواد (ع) قدنافس السلطان العباسي حكمه، و هدد المركز العام للقيادة المنحرفة رغم تكتمه علي هذا الامر سيما و ان نصف الامة يومئذ قد اجمع علي قيادته الشرعية - كما اشارت القصة -.

2- ان حركة التشيع لآل النبي (ص)، و الميل عن سواهم قد بلغت مستوي رفيعا جدا حتي اضطرت حاشية المعتصم ان تعترف صراحة بهذه الحقيقة: «رجل يقول شطر هذه الامة بأمامته و يدعون انه أولي منه بمقامه...»

3- ان القصة تعكس احدي الصور البشعة للاغتيال السياسي غير المتورع التي يلجأ اليها الطواغيت عادة في تصفية قادة الاصلاح و حملة الهدي الي الناس.

و من الجدير بالذكران استعمال السم في تصفية المعارضين للطاغوت كان أبرز أساليب الحكام العباسيين و أكثرها خبثا و حقارة.

هذا و من الجدير بالذكران عددا من المؤرخين يشيرون الي ان عملية اغتيال الامام (ع) بالسم كانت قد جرت علي يد زوجته ام الفضل بنت المأمون، حيث دفعها المعتصم و جعفر بن المأمون لذلك العمل البشع الذي يجسد القباحة و القسوة بأجلي صورهما، و يميل الكثيرون الي تأييد هذه الرواية بسبب سوء طوية ام الفضل تجاه الامام (ع) التي أظهرتها مرارا علي شكل شكاوي من الامام (ع) او اتهامات له سلام الله عليه و رضوانه كالتهمة التي لفقتها عليه بأنه



[ صفحه 83]



يتسري [6] بالنساء مما يحملها علي الشعور بالغيرة من عمله، كما ان ام الفضل تعيش حالة الشعور بالنقص بسبب عدم انجابها للولد، اضافة الي ان الامام (ع) كان يخص زوجته ام ولده الهادي (ع) بكثير من الرعاية لفضلها و دينها و شرفها، روي المرتضي (رض) في عيون المعجزات: ان المعتصم جعل يعمل الحيلة في قتل أبي جعفر عليه السلام، و أشار علي ابنة المأمون زوجته بأن تسمه، لأنه وقف علي انحرافها عن أبي جعفر (ع)، و شدة غيرتها عليه، لتفضيله ام أبي الحسن ابنه عليها، و لأنه لم يرزق منها ولدا، فأجابته الي ذلك، و جعلت سما في عنب رازقي، و وضعته بين يديه، فلما أكل منه ندمت و جعلت تبكي» [7] .

فلما مضي ابوجعفر (ع) شهيدا محتسبا، شيعه الآلاف من مواليه و شيعته فدفن في مقابر قريش في بغداد عند قبر جده شهيد السجون ابي الحسن موسي بن جعفر عليه الصلاة والسلام.

و هكذا ختمت حياة ولي الله ابي جعفر محمد بن علي الجواد عليه الصلاة والسلام، و هو في خضم ارسائه لقواعد دين الله تعالي، و كفاحه عن محجته البيضاء، و كان عمره الشريف اثناء شهادته خمسة و عشرين عاما.



[ صفحه 84]




پاورقي

[1] يتبني المأمون بعض الافكار التي يقول بها الشيعة و له مواقف كمواقفهم منها: القول بأحقية علي بن ابي طالب (ع) بالخلافة، و بتفضيله علي الصحابة، و قوله بجواز نكاح المتعة، و ثلبه لمعاوية بن ابي سفيان.

[2] يراجع الكامل لابن الاثير ج 5 ص 232 - ص 265: ثورة الطالقان بقيادة محمد بن القاسم العلوي (رض)، ثورة الزط في البصرة، ثورة بابك الخرمي، تحرك الروم الي زبطرة و غيرها من بلاد الاسلام، و ثورة المبرقع في فلسطين و غيرها.

[3] تاريخ الشيعة ص 57 المرحوم محمد حسين المظفري ط بصيرتي قم المقدسة.

[4] سنستعرض بعضها في فصل قادم ان شاء الله تعالي.

[5] حلية الابرار ج 2 ص 419 نقلا عن العياشي في تفسيره.

[6] كشف الغمة ج 2 ص 366 - 365.

[7] في رحاب ائمة أهل البيت (ع) ج 2 ص 172.