بازگشت

المدخل


الحديث عن علوم آل البيت عليهم السلام انما هو حديث عن الواضحات البديهية، أو هو كمن يثبت للمبصرين أن الشمس مشرقة في رائعة الضحي، أو أن طالب الدليل علي علومهم كالذي يريد برهانا بأن النبي الأكرم صلي الله عليه و اله و سلم عالم و عارف بالأحكام و التاريخ و السياسة و شؤون الحياة.

فأهل البيت عليهم السلام فرع لدوحة النبوة، و هم - بتعينهم للامامة - امتداد للرسالة الخاتمة علما و عملا، و لم لا و ذاك أبوهم أميرالمؤمنين و مولي الموحدين الذي قال فيه رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم: «أنا مدينة العلم و علي بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها» [1] .

و لم لا و أبوالأئمة الامام الحسين عليه السلام الذي قال فيه رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم:



[ صفحه 270]



«حسين مني و أنا من حسين» [2] ، فالذي هو قطعة من النبي، لابد و أن يكون من سنخ النبوة خلقا و خلقا و علما و عملا، و هو أدل دليل علي أن الامام الحسين عليه السلام أعلم من علي وجه الأرض. و كما يقال في الامام الحسين عليه السلام يقال في ولده الامام السجاد عليه السلام، و هكذا أبناؤهم - الذين من بعدهم - المتعينون للامامة، فهم كما ورد في حديث الرضا عليه السلام والذي ذكرناه ضمن النصوص الدالة علي امامة الجواد عليه السلام اذ يقول: «انا أهل بيت يتوارث أصاغرنا عن أكابرنا القذة بالقذة».

و لكن، مع هذا ليس لنا عن الخوض في مكانة الامام الجواد عليه السلام العلمية منتدح، رغم أن ما بأيدينا من الأخبار هو غيض من فيض علم النبوة الذي أفضي الي أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، و منه الي أبنائه الأئمة الطاهرين المنتجبين المعصومين.

فقد نقل الشيخ عباس القمي رضي الله عنه في الأنوار البهية عن عيون المعجزات أنه لما قبض الرضا عليه السلام كان عمر أبي جعفر عليه السلام نحو سبع سنين، فاختلفت الكلمة من الناس ببغداد و في الأمصار، و اجتمع الريان بن الصلت و صفوان بن يحيي و محمد ابن حكيم و عبدالرحمن بن الحجاج و يونس بن عبدالرحمن (رضوان الله عليهم



[ صفحه 271]



أجمعين) و جماعة من وجوه الشيعة و ثقاتهم في دار عبدالرحمن بن الحجاج في بركة زلزل [3] ، يبكون و يتوجعون، من المصيبة.

فقال لهم يونس بن عبدالرحمن: دعوا البكاء، من لهذا الأمر؟ و الي من نقصد بالمسائل الي أن يكبر هذا - يعني أباجعفر عليه السلام -؟ فقام اليه الريان بن الصلت و وضع يده في حلقه و لم يزل يلطمه و يقول له أنت تظهر الايمان لنا و تبطن الشك و الشرك. ان كان أمره من الله جل و علا فلو أنه كان ابن يوم واحد لكان بمنزلة الشيخ العالم وفوقه، و ان لم يكن من عند الله فلو عمر ألف سنة فهو واحد من الناس، هذا مما ينبغي أن يفكر فيه. فأقبلت العصابة عليه تعذله و توبخه.

و كان وقت الموسم فاجتمع من فقهاء بغداد و الأمصار و علمائهم ثمانون رجلا، فخرجوا الي الحج، و قصدوا المدينة ليشاهدوا أباجعفر عليه السلام، فلما وافوا أتوا دار جعفر الصادق عليه السلام؛ لأنها كانت فارغة و دخلوها و جلسوا علي بساط كبير، و خرج اليهم عبدالله بن موسي فجلس في صدر المجلس، و قام مناد و قال:

هذا ابن رسول الله فمن أراد السؤال فليسأله، فسئل عن أشياء أجاب عنها بغير الواجب، فورد علي الشيعة ما حيرهم و غمهم، و اضطربت الفقهاء و قاموا و هموا بالانصراف، و قالوا في أنفسهم لو كان أبوجعفر عليه السلام يكمل لجواب المسائل لما كان من عبدالله ما كان، و من الجواب بغير الواجب.

ففتح عليهم باب من صدر المجلس و دخل موفق و قال: هذا أبوجعفر عليه السلام فقاموا اليه بأجمعهم و استقبلوه و سلموا عليه، فدخل عليه السلام و عليه قميصان و عمامة بذؤابتين و في رجليه نعلان و جلس و أمسك الناس كلهم، فقام صاحب المسألة



[ صفحه 272]



فسأله عن مسائل فأجاب عنها بالحق، ففرحوا و دعوا له و أثنوا عليه و قالوا له: ان عمك عبد الله أفتي بكيت و كيت فقال: «لا اله الا الله يا عم، ان عظيم عند الله أن تقف غدا بين يديه فيقول لك: لم تفتي عبادي بما لم تعلم، و في الأمة من هو أعلم منك؟».

و فيه أيضا عن كتاب الاختصاص اذ أورد الرواية نفسها بشكل آخر عن علي بن ابراهيم عن أبيه قال: لما مات أبوالحسن الرضا عليه السلام حججنا فدخلنا علي أبي جعفر عليه السلام و قد حضر خلق من الشيعة من كل بلد لينظروا الي أبي جعفر عليه السلام، فدخل عمه عبدالله بن موسي و كان شيخا كبيرا نبيلا عليه ثياب خشنة و بين عينيه سجادة [4] ، فجلس.

و خرج أبوجعفر عليه السلام من الحجرة و عليه قميص قصب ورداء قصب و نعل حذو بيضاء، فقام عبد الله و استقبله و قبل بين عينيه و قامت الشيعة، و قعد أبوجعفر عليه السلام علي كرسي، و نظر الناس بعضهم الي بعض تحيرا لصغر سنه.

فانتدب رجل من القوم فقال لعمه: أصلحك الله، ما تقول في رجل أتي بهيمة؟ فقال يقطع يمينه و يضرب الحد، فغضب أبوجعفر عليه السلام ثم نظر اليه فقال: «يا عم اتق الله، اتق الله انه لعظيم أن تقف يوم القيامة بين يدي الله عزوجل فيقول لك: لم أفتيت الناس بما لا تعلم؟».

فقال عمه، يا سيدي أليس قال هذا أبوك صلوات الله عليه؟

فقال أبوجعفر: «انما سئل أبي عن رجل نبش قبر امرأة، فنكحها فقال أبي: تقطع يمينه للنبش و يضرب حد الزنا، فان حرمة الميتة كحرمة الحية».

فقال: صدقت يا سيدي و أنا استغفر الله، فتعجب الناس، فقالوا: يا سيدنا



[ صفحه 273]



أتأذن لنا أن نسألك؟ فقال: «نعم».

فسألوه في مجلس عن ثلاثين ألف مسألة فأجابهم فيها و له تسع سنين [5] .

من هاتين الروايتين، رغم ما عليهما من ملاحظات، يتبين أن الامام عليه السلام كان أعلم الأمة الاسلامية و هو في تلك السن المشار اليها في خاتمة الرواية، أما ملاحظتنا علي الرواية الأولي، هي المشادة التي حدثت بين الريان بن الصلت، و يونس بن عبدالرحمن [6] ، علما بأن يونس من أصحاب الامامين الكاظم و الرضا عليهماالسلام، و هو من الفقهاء الثقات، اذ صدر بحقه التوثيق من الأئمة الكاظم و الرضا و الجواد، و ترحم عليه الجواد و الهادي و العسكري عليهم السلام. كان الامام الرضا عليه السلام يشير اليه بالعلم، و يرجع أصحابه و شيعته اليه لمعرفة المسائل و أخذ الفتيا، حتي عده كسلمان الفارسي في زمانه. بل، قيل: ان علم الأئمة انتهي الي أربعة نفر، و عدوا يونس بن عبدالرحمن رابعهم. و رغم كل تلك التوثيقات فقد كان البعض من الشيعة و الأصحاب يوقعون في يونس، و كان رحمه الله يشكو ذلك الي الامام الرضا عليه السلام فكان الامام يأمره بمداراتهم. أورد أبوعمرو الكشي [7] الكثير من أخباره. و الظاهر من حاله أنه أجل من أن ينكر امامة الجواد عليه السلام خاصة و قد صحب من قبل أباه و جده عليهماالسلام، فامامة الجواد غير خافية عليه حتما و لابد أنه قد طرق سمعه النصوص الكثيرة و المتكررة من الامام الرضا عليه السلام علي امامة ابنه أبي جعفر من حين ولادته و حتي استشهاد الامام الرضا عليه السلام بخراسان.

فقد يكون قوله: من لهذا الأمر؟ و الي من نقصد بالمسائل؟ صدر منه تقية أو



[ صفحه 274]



لأمر هو كان يراه لازما في هذا المقام أو أنه كان ناظرا الي وضع الريان بشكل عام، هذا اذا عرفنا أن الريان بن الصلت - مع وثاقته - كان من خواص المعتصم العباسي، و قبله كان عاملا للمأمون علي بعض كور خراسان. و لا ندري فلعل الامام الرضا عليه السلام أجاز له ذلك والله العالم.

و أما ملاحظتنا علي ذيل الرواية الثانية، فقد أشرنا الي ذلك في شذرات من أخباره عليه السلام عند تعرضنا لذكر الثلاثين ألف مسألة، فراجع.

و لو أردنا ايراد الروايات التي تحدثت عن علم الامام و تضلعه في علوم الشريعة، للزم ذلك منا تكرار العديد منها، حيث ذكرناها في مواضع مختلفة من كتابنا هذا، لكنني هنا أحاول اجمال بعض الروايات - و ان تكرر بعضها - كشواهد من علم الامام، و ليست كدليل علي اثبات علمه، فعلمه عليه السلام حاصل و ثابت قبل وقوع هذه الأحداث التي تروي عنه.

فهناك رواية للرخجي [8] ذكرناها آنفا - يسأل فيها الامام عليه السلام متهكما عن علمه بوزن ماء دجلة حينما صادف أنهما التقيا يوما علي شاطي ء دجلة، فأجابه الامام عليه السلام مسائلا: بأن الله سبحانه و تعالي يستطيع أن يجعل علم ذلك الي بعوضة؟ و لما كان عليه السلام أكرم علي الله من بعوضة، بل و من أكثر خلقه، فلماذا لا يعطيه علم ذلك؟!

و أما ما جاء في البحار، عن تفسير العياشي، عن زرقان [9] صاحب ابن أبي



[ صفحه 275]



دؤاد [10] و صديقه بشدة، قال:

رجع ابن أبي دؤاد ذات يوم من عند المعتصم و هو مغتم، فقلت له في ]م[ ذلك؟

فقال: وددت اليوم أني قد مت منذ عشرين سنة.

قلت له: و لم ذاك؟ قال: لما كان من هذا الأسود أبي جعفر محمد بن علي بن موسي اليوم بين يدي أميرالمؤمنين.

قلت له: و كيف كان ذلك؟

قال: ان سارقا أقر علي نفسه بالسرقة، و سأل الخليفة تطهيره باقامة الحد عليه، فجمع ]المعتصم[ لذلك الفقهاء في مجلسه، و قد أحضر محمد بن علي عليه السلام، فسألنا عن القطع، في أي موضع يجب أن يقطع؟

قال ]ابن أبي دؤاد[ فقلت: من الكرسوع.

قال ]المعتصم[: و ما الحجة في ذلك؟

قلت: لأن اليد هي الأصابع و الكف الي الكرسوع، لقول الله في التيمم (فامسحوا بوجوهكم و أيديكم) [11] و اتفق معي في ذلك قوم.



[ صفحه 276]



و قال آخرون: بل يجب القطع من المرفق، قال ]المعتصم[: و ما الدليل علي ذلك؟

قالوا: لأن الله لما قال: (و أيديكم الي المرافق) [12] في الغسل دل ذلك علي أن حد اليد هو المرفق.

قال ]ابن أبي دؤاد[: فالتفت ]المعتصم[ الي محمد بن علي عليه السلام فقال: ما تقول في هذا يا أباجعفر؟

فقال: «قد تكلم القوم فيه يا أميرالمؤمنين».

قال: دعني مما تكلموا به، أي شي ء عندك؟

قال: «اعفني عن هذا يا أميرالمؤمنين».

قال: أقسمت عليك بالله لما أخبرت بما عندك فيه.

فقال: «أما اذ أقسمت علي بالله، اني أقول: انهم أخطأوا فيه السنة، فان القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع، فيترك الكف.»

قال: و ما الحجة في ذلك؟

قال: «قول رسول الله «السجود علي سبعة أعضاء: الوجه، و اليدين، و الركبتين، و الرجلين» فاذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها، و قال الله تبارك و تعالي: (و أن المساجد لله) [13] يعني بهذا هذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها (فلا تدعوا مع الله أحدا) [14] و ما كان لله لم يقطع».

قال ]ابن أبي دؤاد[: فأعجب المعتصم ذلك، و أمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكف، قال ابن أبي دؤاد: قامت قيامتي، و تمنيت أني لم أك حيا.



[ صفحه 277]



قال زرقان: قال ابن أبي دؤاد: صرت الي المعتصم بعد ثلاثة، فقلت: ان نصيحة أميرالمؤمنين علي واجبة، و أنا أكلمه بما أعلم أني أدخل به النار.

قال ]المعتصم[: و ما هو؟

قلت: اذا جمع أميرالمؤمنين في مجلسه فقهاء رعيته و علماءهم لأمر واقع من أمور الدين، فسألهم عن الحكم فيه فأخبروه بما عندهم من الحكم في ذلك، و قد حضر مجلسه أهل بيته و قواده و وزراؤه و كتابه، و قد تسامع الناس بذلك من وراء بابه، ثم يترك أقاويلهم كلهم، لقول رجل يقول شطر هذه الأمة بامامته، و يدعون أنه أولي منه بمقامه، ثم يحكم بحكمه دون حكم الفقهاء!

قال ]ابن أبي دؤاد[: فتغير لونه و انتبه لما نبهته له، و قال: جزاك الله عن نصيحتك خيرا، قال: فأمر ]المعتصم في[ اليوم الرابع فلانا من كتاب وزرائه بأن يدعوه ]أي الامام[ الي منزله، فدعاه فأبي أن يجيبه، و قال: «قد علمت أني لا أحضر مجالسكم» فقال: اني انما أدعوك الي الطعام، و أحب أن تطأ ثيابي [15] و تدخل منزلي فأتبرك بذلك، فقد أحب فلان بن فلان (من وزراء الخليفة) لقاءك.

فصار اليه، فلما طعم منه ]أي من الطعام الذي دعي له[ أحس السم، فدعا بدابته، فسأله رب المنزل أن يقيم، قال: خروجي من دارك خير لك.

فلم يزل يومه ذلك و ليله في خلفة [16] حتي قبض عليه السلام. [17] .

و لترسيم صورة واقعية عن مبلغ علم الامام عليه السلام الذي هو في الحقيقة فيض علم النبوة الخاتمة، الا الوحي، اذ ان علم الامام - كما ذكرنا آنفا - متوارث ابن عن أب عن جد، فأئمة أهل البيت عليهم السلام أوصياء الرسول صلي الله عليه و آله و سلم، سلسلة متصلة



[ صفحه 278]



الحلقات، متساوية الأبعاد، متشابهة المضمون، مختلفة في المصاديق، تنتهي بالامام الثاني عشر منجي البشرية المهدي الموعود عجل الله تعالي فرجه الشريف، و تبدأ بالامام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الذي هو عيبة علم الرسول صلي الله عليه و آله و سلم و باب مدينة علمه، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها.

فقد ورد في الصحيح المنقول: «علي عيبة علمي»، و هذا من لطائف العبائر المستعملة، قال المناوي: أي، مظنة استفصاحي و خاصتي، و موضع سري، و معدن نفائسي، و العيبة ما يحرز الرجل فيه نفائسه. [18] و قال ابن دريد: و هذا من كلامه صلي الله عليه و آله و سلم الموجز الذي لم يسبق ضرب المثل به في ارادة اختصاصه بأموره الباطنة التي لا يطلع عليها أحد غيره، و ذلك غاية في مدح علي عليه السلام. [19] .

اذا فالامام علي عليه السلام مستودع علم النبوة الخاتمة، و النبوات السابقة و لا غرو. و هكذا هو علم أئمتنا الاثني عشر، فعلم آخرهم كعلم أولهم، علم الهامي يتوارثونه امام عن امام، بل ورد أن الامام عليه السلام تنتقل اليه حتي مواريث الأنبياء عليهم السلام كسيف رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و عمامته أو عصا موسي عليه السلام التي صدرت منها المعاجز.

فقد روي أن العصا التي كانت بيد الامام الجواد عليه السلام و أجابت يحيي بن أكثم لما ناظره و سأله عن الامام، من يكون؟ و قد ذكرت الرواية في باب معاجز الامام و كراماته من الفصل الرابع.

و للوقوف علي المكانة العلمية التي كان عليها الامام عليه السلام ينبغي جمع و ايراد كل ما صدر عنه عليه السلام، و ما هو مسطور في كتب التاريخ، و الموسوعات الحديثية،



[ صفحه 279]



و هذا قد لا يكون بمقدور أحد من العلماء و المؤرخين المتتبعين، فضلا عن أن يكون بميسور هذا العاجز.

و ما ستستوعبه المواضيع الآتية: الفقه؛ التفسير؛ العقائد، من روايات يلقي ضوءا علي بعض الجوانب الملموسة و المتصورة من علم الامام. و الا فعلوم أهل البيت عليهم السلام لا ترقي عقولنا القاصرة الي ادراك كنهها و مكنونها.

و حقا قال امامنا الجواد عليه السلام يوم عرض علي القافة و هو طفل صغير، كما مر عليك في قبسات من نور كلامه: «و ايم الله لولا تظاهر الباطل علينا، و غواية ذرية الكفر، و توثب أهل الشرك، و الشك، و الشقاق علينا؛ لقلت قولا يعجب منه الأولون و الآخرون».

ففي رواية الحافظ رجب البرسي في مشارق الأنوار [20] أنه لما جي ء بأبي جعفر عليه السلام الي مسجد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم بعد موت أبيه، و هو طفل، و جاء الي المنبر و رقي منه درجة ثم نطق فقال:

«أنا محمد بن علي الرضا، أنا الجواد، أنا العالم بأنساب الناس في الأصلاب، أنا أعلم بسرائركم و ظواهركم، و ما أنتم صائرون اليه، علم منحنا به من قبل خلق الخلق أجمعين، و بعد فناء السموات و الأرضين، و لو لا تظاهر أهل الباطل، و دولة أهل الضلال، و وثوب أهل الشك، لقلت قولا تعجب منه الأولون و الآخرون».

ثم وضع يده الشريفة علي فيه، و قال: «يا محمد اصمت كما صمت آباؤك من قبل». [21] .



[ صفحه 280]



تري فما هذا القول الذي أراد الامام النطق به ولو نطق به لعجب منه الأولون و الآخرون؟!

انه خزانة أسرار الله تبارك و تعالي.. انه عيبة العلم اللدني.. انه محصلة مئة ألف و أربعة و عشرين ألف نبي. ذلك؛ لأن أهل البيت عليهم السلام خاتمة مسيرة النبوات و أوصيائهم للبشرية. بل، ما كانت النبوات لتأتي لولا وجودهم المبارك الشريف. و لهذا فلا غرابة اذا قلنا: ان عقولنا قاصرة عن ادراك كنه علومهم عليهم السلام. و لم لا! و أبوهم أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام يقول: «ها ان ها هنا لعلما جما - و أشار الي صدره [22] - و لكن طلابه يسير، و عن قليل تندمون لو فقدتموني».

و قال في موضع آخر: «بل اندمجت علي مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوي البعيدة». [23] .

و هو القائل أيضا: «لقد فتحت لي السبل، و علمت الأسباب، و أجري لي السحاب، و علمت المنايا و البلايا و فصل الخطاب...» [24] .

و قال أيضا: «.. سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني فان عندي علم الأولين و الآخرين..». [25] .

و لما قال له بعض أصحابه: لقد أعطيت يا أميرالمؤمنين علم الغيب قال عليه السلام: «علم الغيب الذي لا يعلمه أحد الا الله، و ما سوي ذلك فعلم علمه الله نبيه فعلمنيه». [26] .



[ صفحه 281]



و علي هذا، فهل يمكن لأحد أن يقيس مبلغ علمه عليه السلام؟

الجواب: كلا.. و تتبعها ألف كلا..؛ لانك لو حددت علمه عليه السلام فقد حددت علم النبي صلي الله عليه و آله و سلم.

ثم، لو حاولنا استقصاء الأحاديث و الأقوال في علمه عليه السلام لخرجت بنا عن موضوع الكتاب.

و هكذا الأئمة الأحد عشر من ولده.. علم آخرهم كعلم أولهم، و يستوي في ذلك صغيرهم و كبيرهم علي حد سواء، و قد وصفهم أميرالمؤمنين علي عليه السلام فقال:

«لا يتحمل هذا الأمر - أي الامامة - الا أهل الصبر، و البصر، و العلم بمواقع الأمر». ثم قال في صفة الامام:

«و الامام المستحق للامامة له علامات فمنها: أن يعلم أنه معصوم من الذنوب كلها، صغيرها و كبيرها، لا يزل في الفتيا، و لا يخطئ في الجواب، و لا يسهو و لا ينسي، و لا يلهو بشي ء من أمر الدنيا.

و الثاني: أن يكون أعلم الناس بحلال الله و حرامه، و ضروب أحكامه، و أمره و نهيه، و جميع ما يحتاج اليه الناس. فيحتاج الناس اليه، و يستغني عنهم.

و الثالث: يجب أن يكون أشجع الناس؛ لأنه فئة المؤمنين التي يرجعون اليها، ان انهزم من الزحف انهزم الناس لانهزامه.

و الرابع: يجب أن يكون أسخي الناس، و ان بخل أهل الأرض كلهم؛ لأنه ان استولي الشح عليه شح بما في يديه من أموال المسلمين.

الخامس: العصمة من جميع الذنوب، و بذلك يتميز عن المأمومين الذين هم غير المعصومين؛ لأنه لو لم يكن معصوما لم يؤمن عليه أن يدخل فيما يدخل



[ صفحه 282]



الناس فيه من موبقات الذنوب المهلكات، و الشهوات، و اللذات». [27] .

و كيف لا يكونون كذلك؟! و هم:

«شجرة النبوة، و محط الرسالة، و مختلف الملائكة، و معادن العلم، و ينابيع الحكم، ناصرنا و محبنا ينتظر الرحمة، و عدونا و مبغضنا ينتظر السطوة». [28] .

هكذا وصف أمير البلاغة علي عليه السلام أهل البيت في ختام خطبة له في بيان قدرة الله سبحانه. و لو أردنا تتبع علم أهل البيت عليهم السلام و ما ورد بحقهم في الكتاب و السنة، و ما ورد عنهم من أحاديث لاحتجنا في ذلك الي (مجلد كامل)، و لكن ما لا يدرك جله لا يترك كله. و الحق يقال، ما أجدب من انتجع بأهل بيت النبوة صلوات الله عليهم أجمعين.

و نعود بعد هذه الالمامة الوجيزة عن علم أهل البيت عليهم السلام، الي ساحة قدس امامنا الجواد عليه السلام لنستلهم من فيوض علومه و معارفه ما نستطيع من خلاله تحديد خط بياني نستقرئ به نشاط الامام العلمي رغم سني الحصار و الاقامة الجبرية التي عاشها الامام ردحا من عمره القصير بين عيون المأمون و المعتصم و مضايقاتهم.

و لما كانت رحاب علوم الامام أبي جعفر الثاني عليه السلام هي من الوسع مما لا يمكن الاحاطة بأطرافها، و قد دلت عليها الشواهد التاريخية. لكن ما نقلته لنا مصادر التأريخ و الحديث، و ما وصلنا من أخبار عن امامنا جواد الأئمة عليه السلام لا يتعدي موضوعات متفرقة في علم الفقه، و التفسير، و بعض الأسئلة العقائدية التي تتعلق بالتوحيد و الصفات الربوبية، و الامامة، و مجموع مناظرات و احتجاجات



[ صفحه 283]



ذكرها العلامة المحدث الشيخ أحمد بن علي بن أبي طالب، أبومنصور الطبرسي المتوفي حوالي 620 ه / 1223 م في كتابه (الاحتجاج)، و هو لا تتجاوز الستة و قد مر بك استعراضها في خاتمة الفصل السابق.

و سنتناول هذه الموضوعات تباعا بما يتيسر لنا مما بين أيدينا من مصادر ان شاء الله تعالي.



[ صفحه 284]




پاورقي

[1] الحديث مروي في العديد من المصادر منها: مناقب علي لأحمد بن حنبل، صحيح الترمذي، مسند البزار، تهذيب الآثار، المعجم الكبير و الأوسط للطبراني، مستدرك الحاكم، معرفة الصحابة لأبي نعيم، تاريخ بغداد، الاستيعاب، مناقب ابن المغازلي، بحر الأسانيد في صحاح المسانيد، فردوس الأخبار، زين الفتي للعاصمي، مناقب الخوارزمي، أسد الغابة، مطالب السول، تذكرة الخواص، فرائد السمطين، تهذيب الكمال للمزي، تذكرة الحفاظ للذهبي، فيض القدير، النقد الصحيح للفيروز آبادي، عمدة القاري، الجامع الصغير للسيوطي، و غيرها كثير أوردها العلامة الأميني رحمه الله في كتابه (الغدير): 6 / 111 - 87 الطبعة المحققة، و تجد فيه أيضا (143) من الأعلام من غير الشيعة ممن روي الحديث و صححه.

[2] الحديث متفق عليه من الفريقين، فقد رواه: البخاري في الأدب المفرد: ص 112 ح 369 و حسنه، مسند أحمد: 5 / 182 ح 17111، سنن ابن ماجة: 1 / 51 ح 144، سنن الترمذي: 5 / 617 ح 6775، المستدرك علي الصحيحين: 3 / 194 ح 4820 و في تلخيصه للذهبي و صححه، تاريخ مدينة دمشق: 14 / 149 تسلسل الحديث 3461 الطبعة المحققة، كنزالعمال: 12 / 115 و 120 ح 34264 و 34289 بلفظ: حسين مني و أنا منه. و غيرها من مصادر العامة.

و أما في مصادرنا فنذكر منها: الارشاد للمفيد: 2 / 127، اعلام الوري: ص 217، شرح الأخبار للقاضي النعماني: 3 / 88 و 112، بحارالأنوار: 43 / 261 و 271 عوالم - الامام الحسين -: ص 33 نقلا عن كامل الزيارات و غيرها.

[3] في المصدر ذلول، و الصحيح ما أثبتناه. و هي محلة ببغداد، و قد مر ذكرها في الفصل الثالث في عام خروج الجماعة.

[4] أي أثر السجود.

[5] الأنوار البهية: ص 216، الاختصاص: ص 102، و ذكر الرواية ابن شهر آشوب في مناقبه: 4 / 382 باختلاف يسير. و أما التسع سنين فلعلها تصحيف سبع.

[6] تأتي ترجمتهما في باب أصحابه و الرواة عنه.

[7] راجع اختيار معرفة الرجال: ص 397 - 483.

[8] هو عمر بن الفرج الرخجي، و قد مرت ترجمته في أوائل باب شذرات من أخباره و يأتي في باب الرواة أيضا.

[9] يظهر أنه محمد بن آدم المدائني الملقب بزرقان، و المعروف بلقبه. ذكره الشيخ الطوسي في رجاله من أصحاب الامام الرضا عليه السلام.

[10] هو أحمد بن أبي دؤاد المعتزلي، شغل منصب القضاء في بغداد و سامراء للمأمون و المعتصم و الواثق و المتوكل كان بينه و بين محمد بن عبدالملك الزيات وزير المعتصم و الواثق عداوة و حسد. و كان لسعاية ابن أبي دؤاد عند المعتصم لقتل الامام الجواد عليه السلام و تعريضه بالامام، أن ابتلاه الله في آخر عمره بأن غضب عليه المتوكل العباسي فحبسه هو و ولده - أبا الوليد محمد بن أحمد الذي كان علي القضاء أيضا - و اخوته و آذاهم و صادر أموالهم، فأخذ من أبي الوليد (120 ألف) دينارا، و جواهرا بقيمة (40 ألف) دينار مصادرة و سيرهم الي بغداد من سامراء. ثم أصيب ابن أبي دؤاد بالشلل سنة 233 ه، و بعد أن ثكل بولده محمدا، مات بعده بعشرين يوما سنة (240 ه / 854 م) ببغداد. و كان مولده بالبصرة. و في أيامه كان للمعتزلة نشاط ملحوظ، و تفوق علي خصومهم.

[11] المائدة: 6.

[12] الجن: 18.

[13] الجن: 18.

[14] الجن: 18.

[15] كناية عن التعظيم و التبرك بدخول بيته.

[16] الخلفة: ذهاب شهوة الطعام من المرض و نحوه. أو الهيضة علي أثر التسمم.

[17] بحارالأنوار: 50 / 5، الأنوار البهية: ص 223، المجالس السنية: 5 / 635.

[18] فيض القدير / المناوي: 4 / 356.

[19] جمهرة اللغة: 1 / 369.

[20] مشارق أنوار اليقين: ص 98 الفصل الحادي عشر.

و قد مرت رواية عرضه علي القافة لدي مناقشتنا سمرة الامام عليه السلام أو بياضه في مبحث ملامحه و هيئته من الفصل الأول فراجع.

[21] بحارالأنوار: 50 / 108.

[22] نهج البلاغة: ص 496 قصار الحكم - 147.

[23] المصدر نفسه: ص 52 خطبة - 5.

[24] تفسير نور الثقلين: 4 / 444 عن الخصال.

[25] الارشاد: 1 / 35. و راجع الخطبة - 93، و الخطبة - 189 من نهج البلاغة، و اللتان نبه فيهما عليه السلام عن علمه، و قال فيهما: سلوني قبل أن تفقدوني.

[26] نهج البلاغة: ص 186 خطبة - 128.

[27] بحارالأنوار: 25 / 164.

[28] نهج البلاغة: ص 162 خطبة - 109.