بازگشت

جوده و كرمه


سبق فيما ذكرنا أن الامام الجواد عليه السلام لم يعش طويلا، فقد رحل عن الدنيا و هو في ريعان الشباب، فقد أتم عقده الخامس و العشرين، أو تجاوزه ببضعة أشهر و أياما علي بعض الروايات، و مثل هذه السن لا تتيح للانسان أن يقوم بنشاطات و فعاليات كبيرة علي مسرح الحياة، أو أن يغير واقعا أو يضع أطروحة رسالية هادفة يطبقها علي الواقع المعاش.



[ صفحه 143]



و طبيعي أن الانسان يبدأ بالتفاعل مع الحياة، و يؤثر علي المجتمع اعتبارا من عقده الثاني، هذا اذا كان صاحب مواهب و ابداعات فكرية.

لكننا نري امامنا جواد الأئمة صلوات الله عليه و هو في مطلع هذه المرحلة من العمر قد شكل تاريخا حافلا بالأحداث و المواقف الباهرة و الكرامات العجيبة. و مع ذلك فانني أعتقد - و هو اعتقاد كثير من المؤرخين و الباحثين - أن ما ورد عنه عليه السلام، و ما نقلته كتب التاريخ و الحديث، لا يعدو كونه فقرة من فقرات حياته القصيرة و المليئة بالحوادث الكبيرة، فلا شك أن كثيرا من تراث أئمة أهل البيت عليهم السلام، و جوانب مهمة من حياتهم عليهم السلام قد ضاعت، أما حرقا أو صودرت من قبل الناصبين بيت رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم العداء، هذا من ناحية المدونات التاريخية و الحديثية، أو أنها بقيت حبيسة صدور أصحاب الأئمة و شيعتهم حتي قضي عليهم حكام الجور الظلمة، الذين كانوا يتتبعون آثار أئمة أهل البيت عليهم السلام ليطمسوها، و يلاحقون أصحابهم و شيعتهم قتلا و سجنا و تشريدا.

و لا يخفي أن الحكام العباسيين الذين تعاقبوا علي الحكم بعد المعتصم الذي استدعي الامام الجواد عليه السلام الي بغداد، ثم دبر أمر قتله بالسم بواسطة زوجه أم الفضل، كانوا لا يتوانون في طمس آثار و معالم آل الرسول صلي الله عليه و آله و سلم، خاصة المتوكل الحاقد علي رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و أبنائه من السادة العلويين، حتي ورد في الأخبار أنه قام بحرث قبر الامام الحسين عليه السلام، و فتح ماء الفرات عليه، فحار الماء حول القبر الشريف. و قد ظن أنه يستطيع بعمله هذا أن يمحو آثار و ذكر أهل البيت عليهم السلام.

و بموت هذا الطاغية تنفس العلويون الصعداء، و شعروا بتخفيف الوطأة، و رفع كابوس الارهاب، و المطاردة، و التنكيل عنهم.

و هذا الذي ذكرناه انما هو نموذج علي سبيل المثال لا الحصر، و لو اطلعت علي التاريخ الحقيقي لما عاناه أهل البيت عليهم السلام و شيعتهم؛ لهالتك المشاهد،



[ صفحه 144]



و لا متلأت رعبا من كثرة المصائب، و شدة الأحداث، و فظاعة المجازر التي ارتكبها حكام بني أمية، و بني العباس و غيرهم بحقهم علي مر التاريخ منذ يوم السقيفة المشؤوم و الي يومنا هذا الذي جاوزنا فيه القرن الخامس عشر من الهجرة. و كل تلك السنون الطوال مرت ثقيلة حبلي بالأحداث الرهيبة، و التضييق، و الملاحقة لشيعة رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم و آله.

و رغم كل ذلك فقد برز لأهل البيت عليهم السلام و من شايعهم تاريخ حافل بالمواقف المشرفة، و الصمود علي العقيدة، و التضحية من أجل الدين و المبادي ء، في مقابل كل انحراف عن الدين، و اعتداء علي الحرمات و المقدسات، و قد شهد بذلك العدو، و المخالف و المؤالف.

و لقد تسنم تأريخ أهل البيت الحافل ذري العلياء، و قمة المجد، و سوف يبقي درة بيضاء في غرة العصور مهما تعاقبت، و حتي ظهور مهديهم الموعود، و عندها يبدأ تاريخ جديد لحياة البشرية في ظل العدل و الخير و الصلاح.

و سيرة الجواد عليه السلام هذه هي احدي تلكم الدرر الناصعة في جبين التأريخ، مع قصر عمرها، و اقتضاب في التدوين أو ضياع أو محو أو اتلاف، تعمدا حينا، و تهاونا حينا آخر، و خوفا أحيانا أخر.

فالمشهور و المتواتر من ألقابه عليه السلام: الجواد، و كل آبائه أجواد، و أبنائه أجاويد. و قطعا كان الامام محمد بن علي عليه السلام كريما، سمح العطاء، ذو يد بيضاء.

فمن ناحية أن الامام لم يكن محتاجا الي المال البتة لما كان فيه من وفور النعم من مطعم و مسكن و ملبس، فهو صهر الخليفة و قد أنزله المأمون بالقرب من داره أيام اقامته في بغداد، و هذا يعني أن الجواد عليه السلام كان يعيش ضمن حياة ترف الملوك و الخلفاء، لكن ذلك لا يعني أنه عليه السلام كان يطيب له ذلك العيش الناعم الرغيد، فقد عبر عن لواعجه و اشتياقه للعودة الي المدينة، بل و تفضيله خبز



[ صفحه 145]



الشعير، و ملح جريش و هو في حرم جده الرسول الأكرم محمد صلي الله عليه و اله و سلم علي ما هو عليه من نعيم و رفاهية في الحياة و هو مجاور المأمون العباسي الذي ما استقدمه الي بغداد و أفاض عليه من لذيذ العيش و نعومته، الا ليكون المهيمن عليه، و المطلع علي شؤون الامامة، و لكي يحد من تحركات الامام وسط الأمة أولا.

و ثانيا: أراد أن يصرف الامام الشاب عليه السلام بهذا الترف الدنيوي الذي هيأه له عن رسالته التبليغية الهادية للأمة و توعيتها علي حقائق دينها و عقائدها. و كان يجبره أحيانا علي أمور يأباها الامام عليه السلام؛ لأنها لا تتفق و خلقه السامي، و لا تنسجم مع رسالته.

و من ناحية أخري كانت تصل الامام أموال طائله من الحقوق و الوجوه الشرعية، و لما لم يكن الامام محتاجا للأموال لتمرير أمور معاشه، اذ كان يقنع من عيشه بخبز شعير و ملح. اذا فأين كانت تذهب هذه الأموال؟

لم يذكر التاريخ أن الامام خلف تركة عظيمة من الأموال التي كانت لديه، و هي التقاطة يبحث عنها الحكام أو الكتاب علي الأقل لتوظيفها لمصالحهم السياسية أو العقائدية. و هو ما لم نجد له أثرا في سيرة أئمتنا عليهم السلام.

و عليه فمن بديهة القول أن الامام كان يعطي.. يتصدق.. يجري المعاش.. يغني شيعته، أو قل ما شئت من أصناف العطايا و المواهب من الأموال التي كانت تصل اليه، فكان عليه السلام يوزعها و يضعها في مواضعها من مستحقيها.

مما تقدم يعتبر استدلالا منطقيا و تاريخيا علي كرم الامام عليه السلام وجوده. أما الشواهد التاريخية، فلا يوجد لدينا غير بضعة شواهد نقلها لنا الرواة، و هي لا تتناسب قطعا مع لقب الجواد اذا أردنا منها تعداد و احصاء الموارد التي كان الامام عليه السلام يجود بها فردا فردا. أما اذا أردنا منها نماذج مما وصلنا عن البذل و العطاء الذي جاد به الجواد عليه السلام، فاستحق أن يلقب بهذا اللقب، فنستطيع أن نكون



[ صفحه 146]



من تلك الروايات المعدودات صورة واضحة المعالم و الأبعاد لمقدار و كيفية جود الامام عليه السلام.

فقد روي الشيخ الصدوق عليه الرحمة عن أحمد بن محمد بن أبي نصر الكوفي البزنطي المتوفي سنة (221 ه)، و هو ممن أجمع الرجاليون علي تصحيح ما يصح عنه؛ لوثاقته، و أقروا له بالفقه. و كان ممن لقي الامامين الرضا و الجواد عليهماالسلام. و كان في بادي ء أمره واقفيا ثم رجع بالقول بالامامة و حسن ايمانه.

قال: قرأت كتاب أبي الحسن الرضا الي أبي جعفر عليه السلام: «يا أباجعفر بلغني أن الموالي اذا ركبت أخرجوك من الباب الصغير و انما ذلك من بخل لهم، لئلا ينال منك أحد خيرا فاسألك بحقي عليك لا يكن مدخلك و مخرجك الا من الباب الكبير، و اذا ركبت فليكن معك ذهب و فضة ثم لا يسألك أحد الا أعطيته، و من سألك من عمومتك أن تبره فلا تعطه أقل من خمسين دينارا، و الكثير اليك، و من سألك من عماتك فلا تعطها أقل من خمسة و عشرين دينارا و الكثير اليك، اني انما أريد أن يرفعك الله فانفق و لا تخش من ذي العرش اقتارا» [1] .

و في الثاقب في المناقب عن الخرائج روي عن اسماعيل بن عباس الهاشمي، قال: جئت الي أبي جعفر عليه السلام يوم عيد فشكوت اليه ضيق المعاش فرفع المصلي، فأخذ من التراب سبيكة من ذهب فأعطانيها، فخرجت بها الي السوق فكان فيها ستة عشر مثقالا من الذهب [2] .

و أتاه عليه السلام رجل فقال له: أعطني علي قدر مروتك، فقال: «لا يسعني».

فقال: علي قدري.



[ صفحه 147]



قال: «أما ذا فنعم؛ يا غلام أعطه مئة دينار» [3] .

و في كتاب الدلائل لأبي جعفر الطبري نقل هذه الرواية، و قد أوردناها أيضا في معاجز الامام و كراماته، فنقل بسنده عن المنخل بن علي قوله: لقيت محمد بن علي بسر من رأي، فسألته النفقة الي بيت المقدس، فأعطاني مئة دينار، ثم قال لي: «غمض عينيك»، فغمضتهما، ثم قال: «افتح»، فاذا أنا ببيت المقدس تحت القبة، فتحيرت في ذلك [4] .

قال الحميري: و قال لي أبوهاشم: و أعطاني أبوجعفر ثلاثمائة دينار و أمرني أن أحملها الي بعض بني عمه و قال: «أما انه سيقول لك دلني علي حريف يشتري لي بها متاعا فدله عليه».

قال: فأتيت بالدنانير فقال لي: يا أباهاشم دلني علي حريف يشتري بها متاعا، ففعلت.

و روي الكليني في الكافي في باب الفي ء و الأنفال عن علي بن ابراهيم، عن أبيه قال: كنت عند أبي جعفر الثاني عليه السلام اذ دخل عليه صالح بن محمد بن سهل، و كان يتولي له الوقف بقم، فقال: يا سيدي اجعلني في عشرة آلاف درهم في حل، فاني أنفقتها.

فقال عليه السلام له: «أنت في حل».

فلما خرج صالح، قال أبوجعفر عليه السلام: «أحدهم يثب علي أموال حق آل محمد و أيتامهم، و مساكينهم، و فقرائهم، و أبناء سبيلهم، فيأخذه ثم يجي ء فيقول: اجعلني في حل، تراه ظن أني أقول: لا أفعل؟! والله ليسألنهم الله يوم القيامة عن ذلك سؤالا حثيثا» [5] .



[ صفحه 148]



و روي ابن الجوزي في تاريخه المنتظم، فقال بلغنا عن بعض العلويين أنه قال: كنت أهوي جارية بالمدينة، و تقصر يدي عن ثمنها، فشكوت ذلك الي محمد ابن علي بن موسي الرضا، فبعث فاشتراها سرا. فلما بلغني أنها بيعت و لم أعلم أنه اشتراها، زاد قلقي. فأتيته فأخبرته ببيعها، فقال: من اشتراها؟

قلت: لا أعلم.

قال: فهل لك في الفرجة؟

قلت: نعم. فخرجنا الي قصر له عنده ضيعة فيها نخل و شجر، و قد قدم اليه فرشا و طعاما، فلما صرنا الي الضيعة أخذ بيدي و دخلنا، و منع أصحابه من الدخول، و أقبل يقول لي: بيعت فلانة و لا تدري من اشتراها؟

فأقول: نعم و أبكي، حتي انتهي الي بيت علي بابه ستر، و فيه جارية جالسة علي فرش [6] له قيمة، فتراجعت، فقال: والله لتدخلن، فدخلت، فاذا الجارية التي كنت أحبها بعينها، فبهت و تحيرت.

فقال: أفتعرفها؟

قلت: نعم.

قال: هي لك مع الفرش و القصر و الضيعة و الغلة و الطعام، و أقم بحياتي معها، و أبلغ و طرك في التمتع بها. و خرج الي أصحابه فقال: أما طعامنا فقد صار لغيرنا، فجددوا لنا طعاما، ثم دعا الأكار [7] فعوضه عن حقه من الغلة حتي صارت لي تامة ثم مضي. [8] .



[ صفحه 149]



هكذا يكون الجود و الكرم و الا فلا.

و أخيرا فقد جاء في كتاب الوافي بالوفيات أنه عليه السلام لما كان مقيما في بغداد كان يرسل بعطاياه السنوية الي فقراء المدينة، فتوزع عليهم. و في ذلك يقول الراوي: و كان يبعث الي المدينة في كل عام بأكثر ألف ألف ]مليون[ درهم. [9] .


پاورقي

[1] راجع الأنوار البهية: ص 220.

[2] الثاقب في المناقب: ص 526.

[3] كشف الغمة: 3 / 158.

[4] دلائل الامامة: ص 399 ح 351.

[5] أصول الكافي: 1 / 548 ح 27.

[6] في المصدر: فرض، و لم أجد له معني. و الكلام الذي يليه يشير الي أنه فرش له قيمة، كأن يكون سجادة ثمينة أو غيرها من أنواع البسط.

[7] المنتظم في تاريخ الملوك و الأمم: 11 / 62 حوادث سنة 220 ه.

[8] الأكار: الفلاح الذي يحرث الأرض.

[9] الوافي بالوفيات / الصفدي: 4 / 105.