بازگشت

الاستدعاء الي بغداد


و ينتقل الي سمع المأمون خبر الوفود التي أمت دار الامام في الموسم؛ لاستفتائه في المسائل الشرعية أو لتحويل الحقوق الشرعية اليه، أو لزيارته و التبرك بالنظر اليه والسلام عليه فقط.. كما أن وفاة الامام الرضا عليه السلام لم يمض عليها وقت طويل..

و أصابع الاتهام ما زالت تشير اليه بقتل الامام الرضا عليه السلام..



[ صفحه 93]



و الأسئلة و الاستفسارات ما زالت تطرح في النوادي و التجمعات..

و الشائعات تثار هنا و هناك من أن تدبير القتل صدر من بلاط الخليفة..

اذن لابد من موقف جديد، يكم الأفواه، و يموه علي العامة، و يجلب رضا البسطاء.. فينبغي اذا و الحال هذه أن يستدعي المأمون باشخاص ابن الرضا اليه و اظهار المبالغة في اكرامه، و تعظيمه، و اجلاله.

و هكذا كان: فقد أصدر أوامره باستحضار ابي جعفر من المدينة الي بغداد.

و من خلال استعراض و متابعة حياة الامام الجواد عليه السلام بما لدينا من النصوص التاريخية و الروايات، نستطيع استظهار و تثبيت عدة أمور، و في ضوء تلك الثوابت - اعتبرناها ثوابت تاريخية لعدم وجود نصوص موثقة أخري تعارضها - يمكن قبول بعض النصوص و الروايات أو تصحيحها. و الأمل أن نوفق للصواب ان شاء الله تعالي.

و من تلك الثوابت:

1- ان زواج الامام من أم الفضل بنت المأمون كان أول زواج له، أي لم يقترن بامرأة قبلها. ثم بعد اقترانه بها سنة (205 ه) و عودته الي المدينة تسري [1] عليها؛ لأنه علي ما يظهر لم يكن راغبا بها، و لم يشأ أن يكون له منها نسل، أو أنها أصلا لم تحمل منه عليه السلام بمشيئة الله.

2- ان الزواج من أم الفضل تم علي ثلاث مراحل:

الأولي: أنها سميت له في رمضان سنة (201 ه) يوم عقد لأبيه الرضا عليه السلام ولاية العهد و تزوج من ابنة المأمون أم حبيبة.

و المرحلة الثانية: تم اجراء العقد الشرعي عليها في حفل رسمي مجلل،



[ صفحه 94]



لدي وروده بغداد، للمرة الأولي، و في تقديرنا - و حسب ما استنتجناه من الروايات - كان ذلك سنة (205 ه) أو نحوها.

و المرحلة الثالثة: عودته ثانية الي بغداد و دخوله بها بأمر من المأمون العباسي، و ذلك سنة (215 ه).

3- ان ولادة ابنه علي الهادي عليه السلام كانت في المدينة المنورة سنة (212 ه)، علي الأرجح في قريتهم (صريا) التي بناها جده الكاظم عليه السلام و اتخذوها مسكنا ثانيا لهم.

4- من خلال الروايات و النصوص التاريخية نستنتج أن للامام الجواد عليه السلام ثلاث رحلات الي بغداد؛ الاولي في صباه يوم كان ابن سبع أو تسع سنين، بعد قدوم المأمون اليها، و استقراره بها؛ و الثانية يوم استدعاه المأمون العباسي أيضا في القدوم عليه، و أمره بالدخول، بابنته أم الفضل، و كان يومها في العشرين من عمره أو نحوها؛ و الثالثة و هي الخاتمة لحياته، و كانت في عهد المعتصم في أوائل سنة (220 ه).

أما رواية اسماعيل بن مهران التي يرويها الكليني في الكافي بسنده عنه، و التي تحدث فيها عن وجود رحلتين لأبي جعفر عليه السلام الي بغداد، و هو - أي اسماعيل - المحدث الثقة، المعتمد عليه، قال في روايته: لما خرج أبوجعفر عليه السلام من المدينة الي بغداد في الدفعة الأولي من خرجتيه، قلت له - عند خروجه -: جعلت فداك اني أخاف عليك في هذا الوجه، فالي من الأمر بعدك؟

فكر بوجهه الي ضاحكا، و قال: «ليس حيث ظننت في هذه السنة».

فلما أخرج الثانية الي المعتصم، صرت اليه، فقلت له: جعلت فداك، أنت خارج، فالي من الأمر من بعدك؟

فبكي حتي اخضلت لحيته، ثم التفت الي فقال: «عند هذه يخاف علي،



[ صفحه 95]



الأمر بعدي الي ابني علي». [2] .

أقول: في توجيه هذا الخبر، لعل الراوي ناظر الي الرحلتين الأخيرتين، الثانية و الثالثة التي كان يخشي فيهما علي حياة الامام، دون الأولي يوم كان صغيرا بعد لم يبلغ الحلم، و لم تكن شخصيته قد تبلورت بالشكل الذي كانت عليه و هو في العشرين من عمره، بعد أن أذعنت له الأمة الاسلامية في جميع أطراف الدولة المترامية شرقا و غربا بالامامة، و شهدت له بالتفوق العلمي، و مكارم الاخلاق، و في القرابة من رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و بانت معجزاته عليه السلام للحاضر و البادي، و القاضي و الداني، و حيث ان الاستدعائين الأخيرين لم يكونا طبيعيين، خاصة في المرة الثانية، اذ كان التوتر بين البيتين العباسي و الهاشمي يتصاعد حدة، و كان للزواج اللاموفور، و الاقتران المريب بين البيتين، عامل مساعد لطرف الصراع القوي في الانتقام من الطرق الآخر الذي هو تحت سيطرته، و في قبضته الحديدية؛ لكن حلم المأمون و دهائه، و حنكته السياسية لم تجعله يتورط في الاسراع بتسديد الضرية القاضية النهائية لمنافسه الذي كان ينمو و ينتشر في وسط الأمة، و لعله أو كل الأمر الي خليفته من بعده ليقوم بتنفيذ المهمة.

ثم ان الراوي أبدي تخوفه و قلقه في الدفعة الاولي، و هي الاستدعاء الثاني له من قبل المأمون العباسي، بقوله: اني أخاف عليك من هذا الوجه. و هو تخوف كان يساور بيت الامام و أصحابه من طاغية زمانه لما ذكرناه، فكان التوقع عدم عودة الامام في هذه من بغداد.

أما في الخرجة الثانية من الخرجتين الأخيرتين، التي أشار اليها الراوي بقوله: أنت خارج. يعني لا ندري اما أت تعود و اما لا تعود، فلو قدر أن لا تعود



[ صفحه 96]



فالي من الأمر من بعدك؟ هنا يبدي الراوي السائل قلقه، لكنه بدرجة أقل من المرة الأولي. و في كلا المرتيت كان جواب الامام عليه السلام خلاف ما توقعه السائل.

فالرحلات الي بغداد ثلاثة بناء علي ما سيأتي في استظهار جدول السنين، و لم يسافر الي غيرها، الا ما كان من ذهابه الي خراسان و غسل والده الامام الرضا عليه السلام و الصلاة عليه. ثم شهوده موسم الحج، فانه كان يتردد علي مكة المكرمة، اذ تركه أباه الرضا عليه السلام في مكة حين سفره الي خراسان، ثم عاد اليها سنة (205 ه) بعد الزواج حاجا. و يبدو أنه عليه السلام كان يحج بعد ذلك كل عام.

و أما ما انفرد به البيهقي محمد بن الحسين المتوفي سنة (469 ه / 1077 م) في تاريخ بيهق، من أن الجواد عليه السلام قدم علي أبيه في خراسان سنة (202 ه)، فهي رواية تبقي محل تأمل و نظر؛ لأن المعروف و الذي يتناقله العلماء و المشايخ، أن الرضا عليه السلام كان يراسل ابنه أباجعفر علي الدوام طيلة مدة ولايته للعهد.

اللهم الا أن يكون قدومه لغرض غسل و تجهيز والده بعد وفاته سنة (203 ه).

و قد اختلف العلماء و المؤرخون في تأريخي الرحلتين الأولي و الثانية، و اتفقوا جميعا علي تاريخ الرحلة الثالثة، من أنها كانت سنة (220 ه)، حيث حضر موسم الحج لسنة (219 ه)، ثم من مكة توجه في طريقه الي بغداد، فدخلها يوم الثامن و العشرين من المحرم من السنة التالية (220 ه).

و فيما يلي عرض لعدد من النصوص التاريخية و الروايات التي تحدثت عن ذلك الموضوع، مع مناقشة كل روايه قدر ما يسمح لنا به الجهد، في ضوء تلك الثوابت الأربعة التي حددناها؛ لنخلص الي النتيجة النهائية، ثم نعرج بعدها الي موضوع زواجه من أم الفضل.



[ صفحه 97]



من هذه النصوص:

1- الطبري محمد بن جرير المتوفي سنة (310 ه / 923 م) في حوادث سنة (215 ه / 830 م)، بعد أن ذكر عزم المأمون العباسي علي غزو الروم بنفسه، و تحركه من بغداد علي رأس جيش في نهاية شهر محرم من ذلك العام قال:

فلما صار المأمون بتكريت، قدم عليه محمد بن علي بن موسي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رحمه الله، من المدينة في صفر ليلة الجمعة من هذه السنة، و لقيه بها فأجازه، و أمره أن يدخل بابنته أم الفضل و كان زوجها منه، فأدخلت عليه في دار أحمد بن يوسف التي علي شاطئ دجلة، فأقام بها، فلما كان أيام الحج، خرج بأهله و عياله حتي أتي مكة، ثم منزله بالمدينة، فأقام بها. [3] .

و عليه فالامام عليه السلام كان -استنادا الي هذه الرواية - ابن عشرين سنة أو نحوها. و المؤرخون الذين تلو الطبري أكثرهم عيال عليه، و منه أخذوا، فلا داعي للتعرض لأقوالهم.

2- و أما الطبري الامامي محمد بن جرير الملقب بالصغير (من أعلام القرن الرابع الهجري) فقال:

و مكث أبوجعفر مستخفيا بالامامة، فلما صار له ست عشرة سنة، وجه المأمون من حمله اليه، و أنزله بالقرب من داره، و عزم علي تزويجه ابنته... [4] و هذا يعني أن زواجه تم في سنة (211 ه).

و نقف عند هذه الرواية وقفة تأمل قبل الحكم بصحتها و قبولها كشاهد



[ صفحه 98]



تاريخي أو ردها أو تصحيحها، فالأمر هنا يختلف عما أورده سابقا بشأن وفاته عليه السلام من أنها كانت في خلافة الواثق، و قطعنا هناك بالاشتباه الحاصل بلا تردد؛ لأنه خلاف النصوص التاريخية الثابتة في المصادر. أما هنا فالحال يختلف، و الأمر يحتاج الي مزيد عناية و تفحص.

3- قال ابن شعبة الحراني الحسن بن علي الحلبي (من أعلام القرن الرابع): لما عزم المأمون علي أن يزوج ام الفضل أباجعفر محمد بن علي الرضا عليه السلام اجتمع اليه أهل بيته الأدنون منه، فقالوا له: يا أميرالمؤمنين ناشدناك أن تخرج عنا أمرا قد ملكناه. و تنزع عنا عزا قد لبسناه. و تعلم الأمر الذي بيننا و بين آل علي قديما و حديثا.

فقال المأمون: أمسكوا والله لا قبلت من واحد منكم في أمره.

فقالوا: يا أميرالمؤمنين أتزوج ابنتك و قرة عينك صبيا لم يتفقه في دين الله، و لا يعرف حلاله من حرامه، و لا فرضا من سنة؟ - و لأبي جعفر عليه السلام اذ ذاك تسع سنين - فلو صبرت له حتي يتأدب و يقرأ القرآن و يعرف الحلال من الحرام... [5] .

4- و الشيخ المفيد محمد بن محمد المتوفي سنة (413 ه / 1022 م) تحدث عن زواج الامام في رواية طويلة عن الريان بن شبيب [6] ، و كان أبوجعفر عليه السلام قد ناظر في ذلك اليوم يحيي بن أكثم، ثم أجريت بعد تلك المناظرة مراسم عقد القران، فقال:

و اجتمعوا في اليوم الذي اتفقوا عليه، و حضر معهم يحيي بن أكثم، و أمر



[ صفحه 99]



المأمون أن يفرش لأبي جعفر عليه السلام دست [7] ، و تجعل له فيه مسورتان، ففعل ذلك، و خرج أبوجعفر عليه السلام و هو يومئذ ابن تسع سنين و أشهر، فجلس بين المسورتين، و جلس يحيي بن أكثم بين يديه، و قام الناس في مراتبهم و المأمون جالس في دست متصل بدست أبي جعفر عليه السلام. [8] .

و الرواية مثلها عن الريان بن شبيب أيضا أخرجها الطبرسيان، أحمد بن علي بن أبي طالب في (الاحتجاج) و الفضل بن الحسن صاحب مجمع البيان في كتابه (اعلام الوري).

5- قال الخطيب البغدادي أحمد بن علي المتوفي سنة (463 ه - 1072 م):

عن يحيي بن أكثم أن المأمون خطب فقال: الحمد لله الذي تصاغرت الأمور لمشيته، و لا اله الا الله اقرارا بربوبيته، و صلي الله علي محمد عبده و خيرته.

أما بعد فان الله جعل النكاح الذي رضيه لكما سبب المناسبة ألا و اني قد زوجت زينب ابنتي من محمد بن علي بن موسي الرضا أمهرناها عنه أربعمائة درهم. و يقال: انه كان عليه السلام ابن تسع سنين و أشهر و لم يزل المأمون متوفرا علي اكرامه و اجلال قدره. [9] .



[ صفحه 100]



مما سبق يتضح أن الروايات الخمس الأخيرة متفقة علي أن رحلته الأولي الي بغداد كانت سنة (205).

6- قال كمال الدين محمد بن طلحة القرشي الشافعي المتوفي سنة (652 ه - 1254 م):

ان هذا أبوجعفر محمد بن علي عليهماالسلام، لما توفي والده علي الرضا و قدم الخليفة المأمون الي بغداد بعد وفاته بسنة، اتفق أنه خرج يوما الي الصيد فاجتاز بطرف البلد في طريقه، و الصبيان يلعبون و محمد واقف معهم، و كان عمره يومئذ احدي عشرة سنة فما حولها... [10] [11] .

و لمثل هذه السن - العاشرة أو الحادية عشرة - أشار القمي علي بن ابراهيم في تفسيره المعروف بتفسير القمي، بأن زواجه تم فيها، أي بين سنتي (206 - 205)، و هي سنة رحلته الأولي الي بغداد.

7- و قال ابن الصباغ المالكي علي بن محمد بن أحمد المتوفي سنة (855 ه / 1451 م):

ان أباجعفر محمد الجواد لما توفي والده أبوالحسن الرضا، و قدم الخليفة المأمون الي بغداد بعد وفاته بسنة اتفق أن المأمون خرج يوما يتصيد، فاجتاز بطرف البلد، و ثم صبيان يلعبون و محمد الجواد واقف عندهم، فلما أقبل المأمون



[ صفحه 101]



فر الصبيان، و وقف محمد الجواد و عمره اذ ذاك تسع سنين... [12] [13] .

8 - قال المحدث الشيخ عباس القمي [14] المتوفي سنة (1359 ه / 1940 م) و قد نقل رواية الشيخ المفيد في أمر تزويجه عليه السلام؛ لكنه ذكر أن عمره يومئذ سبع سنين و أشهر. و الظاهر أن بعض نسخ الارشاد فيها ذلك، كما ذكر ذلك أيضا في هامش تحف العقول صفحة (451)، فقال: و في الارشاد سبع سنين.

فالصحيح اذا أن عمره يومئذ تسع سنين و أشهر، و هو - طبعا - يوافق الرأي القائل أنه كان ابن عشر سنين الذي قال به ابن طلحة الشافعي كما مر معك؛ لأن التسع سنين و أشهر تعني أنه قد أتم السنة التاسعة و دخل في سن العاشرة، فيصح معها وصفه ابن عشر سنين.

و عليه فالرواية الأخيرة تلحق بالروايات الخمس التي سبقتها، و جميعها تنطبق علي سنة (205 ه).


پاورقي

[1] أي اتخذ سدية و هي الأمة تقام في البيت لغرض الاستيلاد. راجع الارشاد: 2 / 288.

[2] أصول الكافي: 1 / 323.

[3] تاريخ الطبري: 8 / 623.

[4] دلائل الامامة: ص 202.

[5] تحف العقول: ص 451.

[6] سيأتيك خبره و ترجمته بعد حين في باب الرواة، فهو خال المعتصم العباسي.

[7] الدست (فارسية) و تعني صدر البيت أو المجلس، و هو علي شكل مقصورة خاصة كانت تفرد لجلوس الملوك.

[8] الارشاد: 2 / 283.

[9] النص أخذته عن مناقب آل أبي طالب: 4 / 382 لابن شهر آشوب، و عنه نقله المجلسي في بحارالأنوار: 50 / 73 ح 1، و عنهما المولي البهبهاني في كتابه الدمعة الساكبة: 8 / 75 و غيرهم. و لم أعثر علي النص في تاريخ بغداد.

و قد وجدت مؤخرا في جمهرة خطب العرب: 3 / 348 من الباب الرابع في خطب النكاح، أن الخطبة هذه قد خطبها المأمون العباسي يوم زوج ابنته من الامام الرضا عليه السلام و هي بهذا النص مع اختلاف يسير في بعض الألفاظ، و زيادة في بعضها. ثم زاد في الجمهرة اليها بعد عبارة و أمهرتها أربعمائة درهم، عبارة: اقتداء بسنة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و انتهاء الي ما درج اليه السلف، و الحمد لله رب العالمين.

[10] كشف الغمة للاربلي: ص 134، نقلا عن مطالب السول في مناقب آل الرسول لابن طلحة الشافعي.

[11] - هذه الرواية غير مستساغه لمكانه الامام الجليلة - غير ان امانة النقل تقضي ذلك.

[12] الفصول المهمة: ص 266.

[13] - هذه الرواية غير مستساغه لمكانة الامام الجليلة - هكذا أورد الخبر؟.

[14] الأنوار البهية: ص 214.