بازگشت

مبررات هذا الكتاب


هذا الكتاب ضرورة اسلامية من ضرورات عصرنا الحاضر؛ لأن معرفة أهل البيت عليهم السلام واجبة، و طاعة أوصياء رسو الله صلي الله عليه و آله مفترضة، و التغاضي عن أحد الأمرين لا يشكل عذرا للمسلم بين يدي خالقه. «فهم الذين قال الله تعالي فيهم: (و أطيعوا الله، و أطيعوا الرسول، و أولي الأمر منكم..)» [1] دون سائر من برأ و ذرأ.

و قد قال الامام الباقر عليه السلام: «لا يستكمل عبد الايمان حتي يعرف أنه يجري لآخرهم ما يجري لأولهم في الحجة، و الطاعة، و الحلال، و الحرام، سواء. و لمحمد صلي الله عليه و آله، و أميرالمؤمنين عليه السلام، فضلهما» [2] فلا ينبغي رد ما ينسب اليهم من الآيات لمجرد الضيق باستيعابها، أو لعدم موافقتها للرأي الشخصي، حتي لا يقع الراد لها في حظيرة المنكرين لما جاء من عند الله فيكون من الهالكين الذين اذا حدثوا بالمعجزة - أو بشي ء لا يحتملونه - قالوا: و الله ما كان هذا، لا و الله ما كان هذا و لا يكون!



[ صفحه 10]



و نحن اذا استعرضنا المسلمين عامة - و الشيعة الامامية منهم خاصة - و سألناهم شيئا مفصلا عن أي واحد من أوصياء النبي صلي الله عليه و آله، لهالنا الأمر!. لأننا نجد «قلة» قليلة تعرف أسماءهم.. «و بعضا» من هذه القلة يلم بموجزات عن سيرهم.. و «أفرادا» نادرين يعرفون عن كل واحد منهم نصا مختصرا يبرهن علي كون أحدهم «اماما» لائقا بالسفارة عن عرش السماء، و يستطيعون رسم معالم شخصيته المميزة له عن علماء الأمة و فقهاء الزمان، ولكنهم يفأفئون و يتأتئون اذا سألتهم عن خصوصيات عهده، و سلطان عصره، و جلائل أقواله و أعماله... ثم لا يحرون جوابا اذا سئلوا عن دوره الريادي، و أثره التوجيهي، و عما يثبت «وجوده» الفعال، و يبين أفكاره و فلسفته التي تتقرر علي ضوئها شخصيته الربانية.

فهذا هو الذي حملني علي دراسة جوانب من حياة هذا الامام الفذ الذي لا يعرف عنه الخاصة الا نزرا يسيرا، و تجهله جمهرة المسلمين جهلا تاما، فان لكل واحد من الأئمة الاثني عشر دورا محددا في مجالي الدين و الدنيا، أناطته به السماء فلا يتعداه، و لذا كانت أدوارهم - المتباينة شكلا، المتفقة هدفا - مفروضة عليهم حتي لكأنهم كانوا «موظفين» لأدائها كما قررها «عهد» رسول الله صلي الله عليه و آله المعهود الذي نزل عليه من ربه عز و علا و توارثوه عنه واحدا بعد واحد...

و أنا أعرف - و معي عدد كبير من القراء يعرف - أن المسلم الشيعي الذي يحفظ أسماء أئمته الاثني عشر عليهم السلام، اذا أراد أن يعلم أسماءهم لولده - في طفولته - ربما قال له: تعالي يا حبيبي احفظ «شهادة الموت»!. ثم يتلو علي سمعه: الله ربي، و الاسلام ديني، و محمد نبيي، و القرآن كتابي... و علي امامي... و... و.... الي الامام الثاني عشر - عجل الله تعالي فرجه - فيردد الولد ذلك - صدي لصوت أبيه - رغم أنه يرعبه اسم «شهادة الموت»! ثم يحفظ أسماء لا يعرف عن أصحابها الا ما يعرفه من يعلمك أسماء الخلفاء الراشدين بقوله: هم أبوبكر بن عفان، و عمر بن أبي طالب، و عثمان بن الخطاب، و علي بن أبي قحافة!. فتظهر لك «براعته» في التاريخ، و «علمه» بالأنساب!.



[ صفحه 11]



أما من لا يعرف أسماء أئمته فلا تستغرب اذا وجدته لا يميز بينهم و بين عنترة العبسي، و أبي زيد الهلالي، و الزير بن أبي ليلي المهلهل، و ان كان يعتقد تفوق علي بن أبي طالب عليه السلام علي سائر الأبطال في كل حال..

و حين أقول ذلك لا أنكر أن أسماء الأئمة عليهم السلام تدور علي ألسنة بعض الشيعة الاماميين، و لكن «حقيقة» أصحاب تلك الأسماء تكاد تكون مجهولة منهم الي حد كبير.. و من يدع أنه يستطيع أن يحدث أسرته - في سهرته - عن هذا الموضوع سهرة كاملة، حديث معرفة صحيحة، يكن قد أبطل قولي ورد دعواي...

فأمام هذا الواقع من المفارقة بين شدة تمسك الشيعة بأئمتهم، و بين جهلهم بحقائق ذواتهم، رأيت نفسي مطالبا بكتابة بعض سيرهم الكريمة كتابة متواضعة في جنب عظمة كل منهم، محاولا ابراز الدور الذي قام به الواحد منهم في الحياة، و كشف ما يدل علي أنه كان «موجودا» بين معاصريه «كامام»، و بيان ما أدي من وظيفته الالهية، و ما أعطي للناس أثناء توليه «الأمر» لأوضح أنه كان «اماما» اسما و مسمي و كما اختاره الله تعالي لولاية أمر الدين و ارشاد المسلمين... و لن أدعي بلوغ الاحاطة بحقيقتهم و واقعهم، ولكنني سأبرز معالم الصورة بخطوط بعيدة عن الخرافيات، لأن أهل البيت عليهم السلام عظماء بحد ذاتهم، و لا حاجة بهم الي التعظيم حين التقويم.

و امامنا الذي نحن بصدد الكتابة عنه، لم يتعد «خط السماء المرسوم» لسيرته في مجتمعه. ولكننا اذا لم نكشف عن بعض جوانب حياته المميزة، نبقي ندور في الفراغ و لا نصل الي معرفة ما كان عليه كمسؤول رباني حمل أعباء الامامة و الريادة مدة ثماني عشرة سنة رغم أنه لاقي الرفيق الأعلي و هو في الخامسة و العشرين من عمره، أي أنه اغتيل و هو في عمر الزهور، بعد أن تولي «الأمر» فيما بين السابعة و الثامنة من عمره!.

الامام الجواد عليه السلام ذو «عمر قصير».. و ذو «وجود» عريض... سار عكسا مع قصر حياته.



[ صفحه 12]



فقد ولد فكان طفلا عجيبا،

ثم دب و درج، و قام و قعد مرجعا مرموقا..

فعرف «اماما» بذاته و بصفاته، مع أنه قضي طفولته - وحده - مع أمه في الحجاز، و كان والده فيما بين العراق و ايران... فلم يخف أمره علي أحد - و ان كان الباطل يعدو علي الحق ليطمس آثاره - لأن الحق لا يضيع في زبد الباطل وفقاقيعه، و لا في سورات الشر و ثوراته.

ولكننا بحاجة الي الجرأة علي قول الحق.

و الي الصراحة في لفظ الكلمة المنصفة،

و الي الايمان الذي لا تنماث فيه وسوسة الشيطان،

لترتاح ضمائرنا لما نقوله..

بل لنقف موقف أسلافنا الشرفاء. فان علي بن جعفر - مثلا - عم امامنا هذا، كان من أجل مشايخ الهاشميين، و أكبر فقهاء المسلمين، و حكي عنه محمد بن الحسن بن عمار قائلا: «كنت عند علي بن جعفر بن محمد جالسا بالمدينة، و كنت أقمت عنده سنتين أكتب عنه ما سمعه من أخيه، يعني أباالحسن - الكاظم عليه السلام - اذ دخل عليه أبوجعفر، محمد بن علي الرضا المسجد، مسجد رسول الله صلي الله عليه و آله - و هو طفل - فوثب علي بن جعفر بلا حذاء و لا رداء فقبل يده و عظمه.

فقال له أبوجعفر عليه السلام: اجلس يا عم، اجلس رحمك الله.

فقال: يا سيدي كيف أجلس و أنت قائم؟!.

فلما رجع علي بن جعفر الي مجلسه، جعل أصحابه يوبخونه و يقولون:

أنت عم أبيه!. و أنت تفعل به هذا الفعل؟!.

فقال: اسكتوا.. اذا كان الله عزوجل - و قبض علي لحيته - لم يؤهل هذه الشيبة، و أهل هذا الفتي و وضعه حيث وضعه، أنكر فضله؟!. نعوذ بالله مما تقولون، بل أنا له عبد!.» [3] .



[ صفحه 13]



فقد قال شيخ الهاشميين كلمة الحق بمل ء فيه، و هو صاعد فوق الثمانين، و ابن أخيه الذي عظمه فقبل يده كان لا يزال في طفولته و نعومة أظفاره!.

و قالها و هو من أكابر أهل عصره، و من سادة القرشيين.

و في غلام لم يبلغ السبع من السنين!.

فضرب مثلا رائعا في عدم النفاق حين امتحن في مجلس كان أكثر رواده مزلزلين زلزالا شديدا.

و في عهد كانت فيه المدية بيد الجزار، و السيف الظالم يقط رقاب معارضي السلطان.

ذلك لأنه ربي نفسه علي أن لا يصانع غير وجه الله تعالي، و لا يخشي لوما و لا لؤما، و لا يهاب سلطانا أرضيا!. بل بقي مع كتاب الله و سنة رسوله يتولي أولياء ربه و يعادي أعداءه.

فكم و كم من مراتب الايمان يجب أن نترقي حتي نصل الي مرتبة ايمان هذا الشيخ الهاشمي المنصف؟

و كم من الانانيات يجب أن ندوس حتي نبلغ شأو حمله «لأمانة السماء» و صدق أدائه لها؟!.

يلزمنا من أجل ذلك شي ء واحد، و هو التخلص من أدران النفوس لنصير مؤمنين..و لنتحرر من همزات الشياطين فنكون جريئين علي قول «كلمة الحق».

كتاب الله عز و جل هو القرآن الصامت الذي سن و شرع،

و الامام - ولي الله - هو القرآن الناطق الذي يوضح و يبين.

و لكن الحاكم «المتأسلم» الظالم، كان يتعدي القرآن الصامت و لا يأخذ بما فيه، ثم لا يرأف بالقرآن الناطق، و لا يرعي له الا و لا ذمة..

بل يلاحقه فيما بين الخافقين ليكم فاه:

فيفرض عليه الاقامة الجبرية مرة،



[ صفحه 14]



و يستقدمه فيسجنه - بلا جرم - مرة ثانية،

ثم يحتال في قتله.. و يلحقه بالقرآن الصامت في المرة الأخيرة... لأنهما العدوان الأبديان لظلمه و جوره!.

و ليس عجيبا أن يجور سلطان كل زمان علي امام عصره... لأنه يري فيه المنازع الوحيد في حكمه المغتصب!.

كما أنه ليس غريبا أن يستعدي للامام فقهاء السوء، لأن فضيحة باطلهم علي لسانه، و لعنة سيرتهم بين شفتيه..

و لا هو عجيب - كذلك - أن يظلمه رجال القصر و فئرانه الذين يخضمون مال الله خضما فما يشبعون، و يأكلون التراث أكلا لما فما يقنعون.. و لا المؤرخون المأجورون الذين يستفون فتات الموائد ليزوروا الحقائق و يحوروا الوقائع!.. بل العجيب - عجبا لا ينقضي - هو أننا نصم آذاننا عن الحق اذا ظفرنا به، لأننا «لا نريد» أن نسمع «كلمة الغيب» التي حملها نقلة الغيب، و لا نروض أنفسنا علي التفكر و التدبر..

و نشمئز ممن ينبش حقائق ألقي عليها التاريخ جواشن تحبسها في أقبية الظلم، و جنادل تمنع مجراها الي القلوب التي «تريد» أن تعي!.

و المريب حقا، هو أن نتبجح بالعلم الحديث الكافر بالمغيبات، الذي قالوا: انه «حقق» المعجزات بغزو الكواكب و المجرات..

مع أنه - لتحقيق غزوه هذا - انتزع اللقمة من أفواه ملايين الجوعي في المعمورة،

و «عجز» عن حل أي من المشكلات العالمية،

و خسي ء عن دفع أية معاناة انسانية،

ثم لم ينتج علمه الا الطلوع الي الكواكب.. و العودة بخفي حنين؟.

و لم تخرج مصانعه الحديثة الا الكومبيوتر و الالكترونيات التي تدفع الأسلحة التدميرية الآلية، لتقض مضاجع أمن الدنيا من أطرافها!.



[ صفحه 15]



فأدعياء «العلم الحديث» عمالقة سلاح..

و جابرة صواريخ موجهة..

و أرباب حرب نجوم!.

و «فراعنة عصريون» لم يعتم أن يعلنوا عن غزو السماء ليطلعوا الي اله موسي، مع أنهم خربوا الأرض بالطول و العرض حتي وصلوا الي كواكب لا تزال بعيدة بعيدة عن السماء الدنيا..

و جهلوا أنهم طمعوا «بخربشة السماء» التي بينها و بين الكواكب التي وصلوا اليها مثل ما بينهم و بينها آلاف آلاف الآلاف من المرات!.

و ليصلوا الي «خربشتها» لا بد لهم من مختبرات ذرية - صاروخية تعمل ملايين ملايين الملايين من السنين..

ثم يفجأهم أن وراء هذه السماء سماء ثانية.. و ثالثة.. الي سابعة،

و أن بين كل سماء و سماء أكثر مما بين سمائنا و أرضنا بأضعاف مضاعفة!.

و وراء ذلك كله العرش القدسي الذي تكون الكائنات كلها بالنسبة اليه كالحلقة الملقاة في الصحراء الواسعة الشاسعة!.. و ان «هامان» - بالأمس - لم يستطع أن يبني «لفرعون» صرحا يوصله الي اله «موسي»!.

و لن يصل اليه - اليوم - فراعنة عصرنا الحاضر:

(ان في صدورهم الا كبر ما هم ببالغيه!.) [4] .

و صمم الآذان عن كلمة الحق، هو دائما ايقاد علي الطين لبناء صرح يطلع منه فراعنة بيع الأسلحة الي ما وراء الغيب..

و الله تعالي - وحده - (عالم الغيب، فلا يظهر علي غيبه أحدا، الا من ارتضي من رسول..) [5] .

و قد أراحنا سبحانه من هذه الناحية و أطلعنا علي كثير من غيوبه بواسطة رسله



[ صفحه 16]



و أوليائه، و لم يستأثر بسوي شيئين هما:

موعد قصف عمر كل واحد منا،

و وقت قيام الساعة، و الوقوف للحساب بين يديه!.

فلم لا نسمع قول من لا ينطقون عن الهوي، و هم يقدمون الينا ما نبحث عنه علي طبق من ذهب؟!.

و لم تعشي أبصارنا عن النظر فيما عن ربهم حملوا، و تصطك أسماعنا عن الاصغاء لما عن الله نقلوا، و تتبلد أذهاننا عن استيعاب الآيات التي فعلوا؟!!

ألا انه لا يميز عمي الأبصار بين غسق الليل و ألق النهار..

و فرق بين ظلمة الليل الدامس، و ضحوة النهار الشامس!.

فكيف بعمي البصائر اذا حاولوا معرفة ما ثم.. وراء الغيب؟!!

امامنا الذي نحن بصدد التعرف الي سيرته الكريمة، فرد من الأسرة التي اختارتها السماء لأمرها و نهيها.

و واحد من أهل بيت النبوة الذين فاقوا الناس طيب عنصر و زكاء ميلاد، فما داني أصله أصل، و لا شارفه شرف، و لا باره علم و لا فضل؛ لأنه مغرق في السيادة و الريادة، منتم الي شجرة مباركة أصلها ثابت و فرعها في السماء..

جمع أشتات المعالي: فلا أب كأبيه، و لا جدود كجدوده، و لا أسرة و لا عشيرة كأسرته و عشيرته.

و هو من المصطفين الألي اتضحت بهم سبل الهدي، و سلم الوري من العمي؛ و من الذين حازوا أشرف المآثر فالناس كلهم عيال عليهم... و حبهم فريضة لازمة من فرائض الدين و لوازمه..

قد قال أبوهم أميرالمؤمنين عليه السلام:



[ صفحه 17]



«نحن - أهل البيت - لا يقاس بنا أحد. فينا نزل القرآن، و فينا معدن الرسالة» [6] .

و يكفيهم شرفا أنهم أبناء رسول الله صلي الله عليه و آله، و ولد فاطمة الزهراء عليهاالسلام التي نقل عنها «المأمون» العباسي، فيما حدث به عن أبيه «هارون الرشيد» عن أبيه «المهدي» عن أبيه «المنصور» عن أبيه عن جده الذي قال:

«قال ابن عباس:

أتدري لم سميت فاطمة فاطمة؟.

قال: لا.

قال: لأنها فطمت هي و شيعتها من النار. و سمعت رسول الله صلي الله عليه و آله يقوله» [7] .

فالمتجاهل لأهل البيت عليهم السلام يتعمد أمرا خطيرا (يوم ندعوا كل أناس بامامهم!.) [8] .

و ويل لمن لم يكن له امام يدعي به يوم حسابه، بعد أن يكون قد تولاه و اقتدي به في حياته!..

و الطريق الموصل الي السعادة في الدارين، هو الطريق الذي مهده نبينا العظيم صلي الله عليه و آله و سلم لأمته بوصيته المتكررة بكتاب الله و أهل بيته الذين عقلوا الدين - وحدهم عقل وعاية و رعاية لا عقل سماع و رواية؛ و الذين هم معدن الحكمة، و عنصر الرحمة... و صغر السن عندهم لا ينافي كمال العقل و بلوغ الرشد، خرقا للعادة خاصا بهم، لأنهم حجج الله و الأدلاء عليه.

«... لم يزل الله تعالي يختارهم لخلقه من ولد الحسين عليه السلام، من عقب كل امام - يصطفيهم لذلك و يجتبيهم، و يرضي بهم لخلقه - فجرت بذلك فيهم



[ صفحه 18]



مقادير الله علي محتومها» [9] .

و كانوا كذلك.. لأن الله تعالي «جعلهم كذلك».

و «ان رحم آل محمد معلقة بالعرش يقول:

اللهم صل من وصلني، و اقطع من قطعني» [10] .

و فاطمة الزهراء عليهاالسلام نصحت بعض النساء قائلة لها:

«أرضي أبوي دينك محمدا و عليا بسخط أبوي نسبك، و لا ترضي أبوي نسبك بسخط أبوي دينك.

فان أبوي نسبك ان سخطا، أرضاهما محمد و علي بثواب جزء من ألف ألف جزء من ساعة من طاعتهما - أي بالشفاعة -. و ان أبوي دينك ان سخطا، لم يقدر أبوا نسبك أن يرضياهما، لأن ثواب طاعات أهل الدنيا كلهم لا تفي بسخطهما» [11] .

فمن التعدي علي الحرمات، و التسور علي الكرامات، الخوض في موضوع فضل امام مفترض الطاعة، حال كونه «منصوبا» من ربه تبارك و تعالي، و «منصوصا» عليه من جده رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و «موصي» له من آبائه عليهم السلام.

و من التجني علي قداسة الحق، و السطو علي القيم، اتعاب أنفسنا في اثبات كون المهندس أو الطبيب أو العالم أو المحامي يحسن القراءة و الكتابة، و أنه ليس أميا بالمرة!. اذا المفروض بهؤلاء جميعا أن يكونوا مثقفين و متقنين لأصول حرفهم، و أنهم ان جهلوا غيرها، لا يجهلون ما هو من ركائز قواعدها و أصولها.

و في الامام جانب خفي ينبغي أن نوضحه للناس، و هو أنه - بحكم كونه خليفة النبي - مقيم الدولة الاسلامية - ليس من الضروري أن يملك و يحكم دنيويا، و لا



[ صفحه 19]



من طبيعة وظيفته أن يكون ملكا أو سلطانا، كما أنه ليس مأمورا بمحاربة الناس و اكراههم علي الايمان. و لذا كان سائر أئمتنا عليهم السلام زاهدين في أمور الدنيا، عازفين عن زخرف الحياة، لا يهمهم الا تقويم الاعوجاج، و هداية التائهين و الوقوف في وجه المنحرفين.. و هم - جميعهم - كجدهم الذي «كان صلي الله عليه و سلم يجلس علي الأرض، و يأكل علي الأرض، و يعتقل الشاة - ليحتلبها - و يجيب دعوة المملوك علي خبز الشعير» [12] فلا طمع لهم مطلقا، الا باصلاح أمور معاش الناس و معادهم.

و الامام - المنصب لسائر الأنام - يمر في حياته العالم و الجاهل، و المؤمن و الكافر من مختلف أجناس البشر و ألوانهم، و هو «مكلف» بالوقوف ضد التعدي علي حرمات الله، منزه عن الخنوس أمام التيارات الضالة، و مبرأ عن الهروب من الأخطار التي تعرض للرسالة، لأنه «موظف» لاقامة الحق و ابطال الباطل بالحجة الدامغة و البرهان القاطع، «مسلح» بجميع مقومات الكمال، معلم، مفهم مفقه لا يحجب عنه «معلمه و موظفه» حل معضلة، و لا يتركه عيا عن جواب، بل «جبله» كما شاء و «جعله» كاملا مكملا لا يخطر في ذهنه الريب، يصدر - دائما - عن كتاب الله الذي يعلم تفسيره و تأويله، و عن سنة الرسول التي يدرك حقائقها و دقائقها، و لا يحيد عما جاء فيهما قيد شعرة، عصمة من الله تبارك و تعالي له عن الزلل و الخطل، و تأييدا منه بجنود من الملائكة المسددين يطلعونه - فوق علمه - علي حقائق أمور الدنيا و الدين. و لذا قال الامام الصادق عليه السلام:

«ان من علم ما أوتينا، تفسير القرآن و أحكامه، و حكاية علم تغير الزمان و حدثانه. و اذا أراد الله بعبد خيرا أسمعه، و لو أسمع من لم يسمع لولي معرضا كأن لم يسمع - ثم أمسك هنيئة، ثم قال -: لو وجدنا وعاء أو مستراحا لعلمنا» [13] فهم علماء معلمون، و فقهاء مفقهون، لا يحجب الله تعالي عنهم شيئا يحتاجون اليه كما سنثبت ذلك في موضوع لاحق.

و نحن ما كنا لنعرض الي هذه الاستطرادة هنا، لولا أن أكثر الناس يظنون في



[ صفحه 20]



أمر الامام ظن الجاهلية، و يعتقدون أن بمقدورهم محاكمته كما يحاكمون أي فرد من أفراد الرعية، ساهين عن أن النائب المنتخب لمجالس التشريع له حصانته القانونية و لا يجوز محاكمته قبل رفع الحصانة عنه لتجريده من صفته، و مستجيزين لأنفسهم وضع الامام علي و ضم التشريح كأنه مخلوق عادي بلا حماية و لا حصانة، أو كأنه لا ترعاه حكومة السماء «سفيرا» عنها يتحدي أهل العناد و يسكت ذوي الألسنة الحداد!.

فالامام ليس واحدا من النكرات فيتطاول الي قدس ذاته ذوو الحذلقة و الزندقة ليزنوا علمه و يروزوا فضله بمقاييسهم العاثرة و موازين عقولهم المطففة التي لا تفرق بين وزن التبر و التبن، و لا بين قيمة جلاميد الصخر و فلذات الدر.

قال ابن عباس: «قال رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم: أيها الناس، الله الله في عترتي و أهل بيتي، فان فاطمة بضعة مني، و ولديها عضداي، و أنا و بعلها كالضوء. اللهم ارحم من رحمهم، و لا تغفر لمن ظلمهم. ثم دمعت عيناه و قال: كأني أنظر في الحال!» [14] أي كأنه يري حالهم و ما يحل بهم من الظلم الذي لا قوه حتي أيامنا هذه!.

و كذلك قال أميرالمؤمنين عليه السلام فيهم: «ان أهل بيتي مطهرون، فلا تسبقوهم فتضلوا، و لا تتخلفوا عنهم فتزلوا، و لا تخالفوهم فتجهلوا، و لا تعلموهم فانهم أعلم منكم... هم أعلم الناس كبارا، و أحلم الناس صغارا، فاتبعوا الحق و أهله حيث كان» [15] .

فبحث علم الامام و فضله، كالبحث في علم رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم الذي كان أميا و طلع علي العالم بقرآن تحدي الفصاحات و العبقريات، و أطل علي الانسانية بشريعة انمسحت و انمسخت أمامها جميع التشريعات، من غير أن يكون له معلم، و من غير أن ينال شهادة دكتوراه... بل علمه الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم.



[ صفحه 21]



فالنظر في مصدر علمهم كالتنكيش بالأصابع في رمضاء النار التي يكوي حرها اليدين، و يعمي رمادها العينين، لأن النبي و أهل بيته صلوات الله عليهم، تم تخريجهم من «الكلية الالهية» العليا... و الامامة - كالنبوة - رتبة ربانية لا شأن فيها لأهل الأرض، و لا يسأل عن علم أحدهما كيف كان، و لا عن فضله كيف صار، و لا عن النبوة و الامامة كيف جرتا، لأن كلا من النبي و وصيه، يكون «خليفة» الله في الارض، و «سفيره» بين العباد، و هو الذي عنته الآية الكريمة: (و اذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الأرض خليفة) [16] أي خليفة عنه سبحانه علي خلقه و لا يمكن أن يكون كل انسان خليفة له تعالي..

فالله سبحانه هو المختار الخلافته: و الاعتراض علي مشيئته كالاعتراض علي خلق واحد برأسين، و آخر بقلبين، و ثالث أحمق، و رابع فطين فطنة نادرة!.

فهذا كله من «فعل» الله عز و جل؛ و هو لا يسأل عما يفعل، و لا تدرك حكمته و لا اعتراض علي مشيئته في بريته. و قد قال سعد بن عبدالله القمي:

«سألت القائم عليه السلام - و هو طفل في حجر أبيه (ع) - فقلت:

أخبرني يا مولاي عن العلة التي تمنع القوم من اختيار امام لأنفسهم؟.

قال: مصلح أو مفسد؟!.

قلت: مصلح.

قال: هل يجوز أن تقع خيرتهم علي المفسد بعد أن لا يعلم أحد ما يخطر ببال غيره من صلاح أو فساد؟!!.

قلت: بلي.

قال: فهي العلة، أيدتها لك ببرهان.. يقبل ذلك عقلك؟

قلت: نعم.

قال: أخبرني عن الرسل الذين اصطفاهم الله، و أنزل عليهم الكتب و أيدهم بالوحي و العصمة، اذ هم أعلام الأمم و أهدي الي ثبت الاختيار، و منهم موسي



[ صفحه 22]



و عيسي عليهماالسلام، هل يجوز مع وفور عقلهما و كمال علمهما اذا هما بالاختيار أن تقع خيرتها علي المنافق و هما يظنان أنه مؤمن؟!!

قلت: لا.

قال: فهذا موسي، كليم الله، مع وفور عقله و كمال علمه و نزول الوحي عليه، اختار من أعيان قومه و وجوه عسكره لميقات ربه، سبعين رجلا ممن لم يشك في ايمانهم و اخلاصهم، فوقعت خيرته علي المنافقين، قال الله عز و جل: و اختار موسي قومه سبعين رجلا لميقاتنا..) [17] .

فتأمل كيف أسقط - عجل الله تعالي فرجه - طريقة الاختيار الأرضي بعد أن قال الله سبحانه و تعالي: (و ربك يخلق ما يشاء و يختار، ما كان لهم الخيرة، سبحان الله و تعالي عما يشركون) [18] أي: تنزيها له عن الحاجة الي مشاركة عباده في اختياره!.

فلرد مشيئته، يترتب علي العباد أن يردوا الموت عن أنفسهم ان كانوا يقدرون!. أو فلينصبوا أنفسهم آلهة - شركاء له تعالي ان كانوا يستطيعون... أو فليخلعوا ربقة الاسلام من أعناقهم ليكونوا في صف الملحدين!. و لن، و لن تقاس الأمور السماوية بالأمور الأرضية، لأن مثل هذا القياس هو الذي طرد ابليس من رحمة الله تعالي، و جعله رجيما لعينا بعد أن عمل برأيه في مقابل قول الله عز و جل في محكم كتابه: (و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة اذا قضي الله و رسوله أمرا أن



[ صفحه 23]



يكون لهم الخيرة من أمرهم!) [19] و قد قضيا - كلاهما - بشأن «الامامة» كما قضي سبحانه بشأن «النبوة»، (و من يعص الله و رسوله فقد ضل ضلالا مبينا) [20] .

و قد كانت تحدث لأسلافنا الشرفاء مثل هذه الشبهات، و لكنهم كانوا موفقين بمعاصرة الأئمة، يعرضون عليهم شبهاتهم و يتلقون أجوبتها مفلسفة رأسا، في حين أننا - اليوم - ليس لنا الا الأخذ بما ورد علينا منهم، لنصل الي الحقائق التي لا شبهة فيها.. و قد قال عبدالعزيز بن مسلم:

«كنا عند مولانا الرضا عليه السلام بمرو فاجتمعنا و أصحابنا في الجامع يوم الجمعة في بدء مقامنا، فأداروا أمر الخلافة و ذكروا كثرة الاختلاف فيها. فدخلت علي سيدي الرضا عليه السلام، فأعلمته خوض الناس في ذلك، فتبسم عليه السلام ثم قال:

يا عبدالعزيز، جهل القوم و خدعوا عن آرائهم. ان الله تبارك اسمه لم يقبض رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم حتي أكمل الدين، فأنزل عليه القرآن فيه تفصيل كل شي ء، بين فيه الحلال و الحرام، و الحدود و الأحكام، و جميع ما يحتاج اليه الناس كملا، فقال عز و جل: (و ما فرطنا في الكتاب من شي ء) [21] و أنزل عليه في حجة الوداع، و هي آخر عمره: (اليوم أكملت لكم دينكم، و أتممت عليكم نعمتي، و رضيت لكم الاسلام دينا) [22] و أمر الخلافة من تمام الدين.. لم يمض صلي الله عليه و آله و سلم حتي بين لأمته معالم دينهم، و أوضح لهم سبيلهم، و تركهم علي قول الحق، و أقام لهم عليا عليه السلام علما و اماما، و ما ترك شيئا تحتاج اليه الأمة الا بينه لها.

فمن زعم أن الله لم يكمل دينه فقد رد كتاب الله، فهو كافر!.

هل تعرفون قدر الامامة، و محلها من الأمة فيجوز فيها الاختيار؟!. - الي أن يقول -:



[ صفحه 24]



ان الامامة خلافة الله و خلافة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم،

الامام يحلل حلال الله، و يحرم حرام الله، و يقيم حدود الله، و يذب عن دين الله، و يدعو الي سبيل ربه بالحكمة و الموعظة الحسنة و الحجة البالغة..

فمن ذا الذي يبلغ معرفة الامام و يمكنه اختياره؟.

هيهات هيهات.. ضلت العقول و تاهت الحلوم!!.. ثم قال في أواخر كلامه -:

.. ان العبد اذا اختاره الله عز و جل لأمور عباده، شرح الله صدره لذلك، و أودع قلبه ينابيع الحكمة، و ألهمه العلم الهاما فلم يعي بجواب و لا يحيد فيه عن الصواب. و هو معصوم، مؤيد، موفق، مسدد، قد أمن من الخطايا و الزلل و العئار، يخصه الله بذلك ليكون حجته علي عباده و شاهده علي خلقه (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، و الله ذو الفضل العظيم) [23] .

.. ولكن، كما أنه لا يمكن انزال البغلة في الابريق، و لا جمع الكون كله في البيضة، فان معاني هذه الأمور لا تلج القلوب المغلقة دون ازالة الرين عنها، و لا تصل الي بعض الأذهان دون كسر أقفال بعدها أقفال!.

ولكنها اذا انفتحت لها القلوب و الأفهام تصير مقبولة و معقولة، كأن يجمع الله سبحانه و تعالي الكون و ما احتواه في عين الانسان. بل جعله سبحانه - بحجمه الهائل - يمر في بؤبؤ العين الذي هو بحجم السمسة من غير أن تتأثر الباصرة أو تنوء برؤيته، و دون أن تتشنج أعصاب النظر عند احتوائه من أطرافه الضاربة في اللانهاية... فلا بد - اذن - من تفتح القلوب و الأذهان ليسهل أمر استيعاب خلاقة الله تعالي علي الأرض بشرطها و شروطها.

و امامنا - القصير العمر، العريض العهد - أحري الأئمة بالتفكر في «آياته» و التدبر في «بيناته» لاستيعاب عظيم قدره و جليل أمره.



[ صفحه 25]




پاورقي

[1] الاختصاص ص 277 و بحارالأنوار ج 7 ص 62 رواه الحسين بن أبي العلا، عن الامام الصادق عليه السلام، و الآية الكريمة في النساء - 59.

[2] بحارالأنوار ج 50 ص 353 و في الاختصاص ص 22 و روي بلفظه عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن الامام الرضا عليه السلام.

[3] بحارالأنوار ج 50 ص 36 و الكافي م 1 ص 322 و حلية الأبرار ج 2 ص 431.

[4] المؤمن 56.

[5] الجن - 27.

[6] عيون أخبار الرضا ج 2 ص 65.

[7] عيون أخبار الرضا ج 2 ص 72 - 71 و هو مروي في مصادر اسلامية كثيرة بهذا الاسناد و بغيره، و مصحح عند أئمة المذاهب من السنة و الشيعة.

[8] الاسراء - 71.

[9] تجد الحديث مفصلا في المحجة البيضاء ج 4 ص 180 عن اسحاق بن غالب، عن الامام الصادق عليه السلام.

[10] بحارالأنوار ج 23 ص 265 رواه محمد بن الفضيل عن أبي الحسن عليه السلام، و هو في مصادر اسلامية كثيرة.

[11] بحارالأنوار ج 23 ص 262 - 261.

[12] المصدر السابق ج 16 ص 222 و مجالس الشيخ ص 250.

[13] بحارالأنوار ج 23 ص 194 عن بصائر الدرجات ص 35 رواية عن عمر بن صعب.

[14] بحارالأنوار ج 23 ص 144 - 143 نقلا عن الروضة ص 147 - 146 في حديث طويل.

[15] المصدر السابق، نفس الجزء ص 130 نقلا عن تفسير القمي ص 5 و 6.

[16] البقرة - 30.

[17] بحارالأنوار ج 23 ص 69 - 68 و الاحتجاج ج 2 ص 465 - 464 و الآية الكريمة في الأعراف 155.

[18] القصص - 68.

[19] الأحزاب - 36.

[20] الأحزاب - 36.

[21] الأنعام - 38.

[22] المائدة - 3.

[23] غيبة النعماني ص 146 - 145 في حديث طويل، و كذلك هو في عيون أخبار الرضا ج 1 ص 175 - 169 و الآية الكريمة في الجمعة - 4.