هو حجة الله.. منذ الصغر
قد ثبت نص أبيه عليه بقول الأعلام الثقات الكثيرين الذين منهم: عمه علي بن جعفر الصادق، و صفوان بن يحيي، و معمر بن خلاد، و ابن أبي نصر البيزنطي، و الحسين بن يسار، و الحسن بن الجهم، و أبويحيي الصنعاني، و يحيي بن حبيب الزيات، و غيرهم.. [1] .
و كان امامنا هذا عليه السلام، أقصر حجج الله في أرضه عمرا.. اذ عاش خمسا و عشرين سنة فقط!.
و قام بأعباء الامامة حوالي سبع عشرة سنة.
فحياته - سلام الله عليه - تقاس عرضا وسعة.. لا طولا و امتداد عمر.. حتي أنه لو قيس عمره بمدة امامته، لجاءت النسبة عكسا لا طردا.
فما الحكمة في أن يكون - مع قصر حياته - طويل عهد الامامة؟!!
لا يستولين عليك التفكير.. و لا يأخذن بك العجب.. و لا تذهبن بك المذاهب في البحث عن الجواب، فهو قريب المنال.
فالامام الجواد عليه السلام جاء معدا لأن يكون في «عصر ذهبي» كان بكرا في العصور الاسلامية،
[ صفحه 172]
فرصده الله تبارك و تعالي لأن يكون بكرا في الأئمة،
لتظهر «الامامة» في خصبها الرباني المبكر الذي لا يخضع لسنة العلم، و التجارب، و المكتسبات..
فقدمه اله سبحانه لذلك العصر المتقدم المدارك.. اماما معطاء، «متقدمة» مخايل امامته علي السن المعقول.. متفوقا علي أرباب العلم و الفهم في عصره، قبل أن يطر شارباه.
ليكون «صبيا» عجيبا.. يقف «الشيوخ» بين يديه مؤدبين، باخعين لغزير علمه،
و «غلاما» زكيا.. يطأطي ء العلماء، و الفقهاء، و أرباب المعرفة، رؤوسهم خضوعا لقوله.. سواء في ذلك المؤمن به منهم، و الجاحد به، بل المسلم و الملحد، و الأمير الخطير، و السوقة و الوزير.. اذ تعنو وجوه الكل.. لمعجزة السماء تنثال علي لسان غلام آتاه الله تعالي الحكمة من غير أن يرتاد معهد تدريس، أو جامعة تفقيه، أو مجلس بحث و نقاش و علم.
فيري أهل عصره امامة «ذهبية» الشكل و الاخراج.. كعصرهم «الذهبي».. قد فجأتهم لتتربع علي عرش برجها العاجي.. فصعبت فلسفتها علي أرباب العرش الأرضي و أصحاب العنعنة و الشنشنة.. و ورمت منها أنوف الحاكمين، لأنها «امامة» تحد لأنوف المستكبرين من المتسلطين!.
فكانت امامته كعصره سواء بسواء ازدهارا سماويا، زيف ازدهارا أرضيا متزندقا.. و كلمة حق تري كيف تكفخ كلمة السماء العليا، كلام المتفيهقين و المتزندقين!.
لقد عاش الامام الصادق عليه السلام حوالي ست و ستين سنة - و جعله الله تعالي أمد أئمة أهل البيت عليهم السلام عمرا - لغاية ربانية اقتضتها حكمته سبحانه، فأكمل تأثيل العقيدة و بين الأحكام، و عد هو و أبوه عليهماالسلام مؤسسي المذهب، و صاحبي أول مدرسة اسلامية بمعني المدرسة الجامعية العليا.
[ صفحه 173]
و كذلك عاش أبوه - الباقر عليه السلام - سبعا و خمسين سنة، فمهد لتلك المدرسة في فترة «السكوت السياسي الجزئي» تمهيدا عمليا حيث وضع الأساس، و رفع القواعد، و أرسي البناء و أقام مجلسا علميا حافلا استقطب رواد العلم.. ثم تربع علي دسته - من بعده - ابنه الذي ملأ علمه - و علم أبيه - ما بين الخافقين، حتي أنك لا تجد بين فقهاء عصريهما الا من يقول: سمعت أباجعفر عليه السلام يقول، أو: قال أبوعبدالله عليه السلام!.
و مع ذلك فان ولاية الامام الباقر عليه السلام، كانت تسع عشرة سنة، رغم كونه مقيضا لمثل عمله التأسيسي الجبار.. و لم تبلغ مدة ولايته الا أقل من ثلث عمره الشريف.
ثم كانت ولاية ابنه الامام الصادق عليه السلام أربعا و ثلاثين سنة، لأنه كان معدا لأمر عظيم، و عمل جليل طويل.. و لم تتجاوز مدة ولايته نصف عمره الكريم.
فلم كانت ولاية الامام الجواد - الشاب - عليه السلام، سبع عشرة سنة.. و بلغت ثلثي عمره بالضبط، مع تكليفه المبكر الذي حمله للمسؤولية الكبري طري العود، في مزدهر العهود؟!!
و ما هي حكمة السماء في ذلك؟!!
امامنا الجواد عليه السلام كان - منذ كان في علم الله عز و جل - تحديا صارخا في وجه الملحدين، و وصمة في جبين المتأسلمين.
و صفعة شديدة لجهل فقهاء الدين،
و انذارا صريحا فصيحا للمتسلطين الحاكمين باسم الدين!.
و كان - الي جانب ذلك - أعجوبة - معجزة، لسائر العارفين.. و آية للعالمين.
بدليل أنه وعد به أبوه قبل أن يكون،
فكان،
[ صفحه 174]
و كان كما وعد!.
و بدليل أن لما جعله الله سبحانه اماما منذ طفولته،
برهن علي أنه امام.. ذو آيات بينات!.
و بدليل أنه تكلم في المهد،
و قرأ رسائل أبيه و هو في عامه الأول - في القماط!. - و من كان في مثل ذلك العمر لا يحسن الجلوس و لا المشي، بله الكلام، و القراءة، و الكتابة.
و عمل بما كان يأمره به أبوه [2] من أعمال الكبار، فبهر الأنظار طفلا بمعني الطفل!.
و كان سيد مشيخة بني هاشم بلا منازع.. و الامام - المعجزة، و الآية البينة المدهشة!.
و مع ذلك نبقي نقول:
نعم، و لكن لماذا جعله الله سبحانه موضع هذه التساؤلات.. ثم حمل أعباء الامامة مبكرا؟!..
و لم كانت له هذه المدة الطويلة من الولاية، مع هذا العمر المحدود؟!!
و ماذا عمل أثناءها؟.
و ماذا أعطي؟.
و ما الغاية الجوهرية من ولاية بدأت من عهد الطفولية.. و انتهت في بدو الشباب؟!!
انه - أولا بالذات - قد سربله الله عز و جل بسربالها منذ الصغر، لأنه سبق في علمه تعالي أن «سلطان الزمان» سيغتال أباه في عصر سماه أهله «عسر الازدهار» العلمي و الفلسفي و الكلامي، فبعثه سبحانه يومها لتأتي «وظيفته» وفاقا مع مستوي
[ صفحه 175]
أهل ذلك العصر، بل متفوقة عليهم بتحد و اعجاز!.
فاشتدت بذلك قلوب آل الله من المؤمنين من جهة،
و وقف اعجازه الباهر في وجه التيار الظالم الهادر.. من جهة ثانية،
و كان نيقد «ذهبهم العصري» و فضاح عملتهم الزائفة.. من جهة ثالثة،
و اشتق أمامه طريق العطاء.. فبين المشابه، و أوضح المبهم، و قرر الحلال و الحرام..
و أظهر بطلان أمر حكام الاسلام، في تلك الأيام.. من جهة أخيرة!.
الي جانب أنه بهت فقهاء، السوء، و المفتين بغير ما أنزل الله، منذ كان حليب الرضاعة منعقدا علي شفتيه الكريمتين.. و في فترة كثر فيها الكلام و التعليل، و ضاع الأنام في التحليل، و خاضت عقول الفحول فيما كان يبعدها عن الايمان، بسفسطائية مضللة.
و ثبت لتيارات الضلال، و الانحراف، و الالحاد - كما تري في سيرته طي هذه الفصول - يتحداها تحدي الرسل و حملة الدعوات.
فألجم المهملجين و أشرقهم بريقهم،
و كم أفواه الذين ركبوا رؤوسهم عنادا،
و ألقم خصوم الدين حجرا، في سائر مجالسه و أمكنة وجوده،
و كان مباهلا فذا.. يضرب بسيف الحق.. و ينطق بالصواب، ويحكم بالسنة و الكتاب،
فظهر امام حق.. مع الحق.. و الحق معه.. تماما كجده أميرالمؤمنين و كآبائه الطاهرين صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين..
و كان «حجة» علي الناس، يطالبون بها يوم الدين..
كما كان «كلمة عدل» في مجالس الظالمين.. من مبدأ عمره الي منتهي أمره.
و كلمة العدل عند الحاكم الجائر جهاد.
[ صفحه 176]
بل انها أصعب الجهاد، و أعظم الجهاد..
و اعلان الرأي - المخالف للحكم الغاشم - في قصر خليفة الزمان، و من علي عرش الأمة.. هو خير برهان علي ذلك.
و مما لا شك فيه أن أول واجبات النبي، و الوصي، الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و الدعوة الي الله تعالي، و جهاد أعدائه.. بدءا برؤوس الضلال، كما فعل ابراهيم مع النمرود، و موسي مع فرعون، و عيسي مع باطس.. و كما فعل محمد صلي الله عليه و عليهم جميعا، مع جبابرة قريش، و عتاة الجاهلية، و ملوك العالم.
فعلي هذا الأساس:
لننظر فيما فرضه الله عز و جل علي امامنا الجواد عليه السلام من الجهاد، لنعرف أنه هل ولي خلافة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم علي تركته الضخمة الفخمة، و قام بالعب ء، أم لا؟. و لننظر كيف تصرف غلاما، فيافعا، ففتي فشابا، و ماذا فعل؟.
و ما هي حصيلة عهد ولاية طويل، مع عمر قصير، و في وقت كان فيه قتل الهاشمي - علي الهوية!. - أمرا مستساغا لدي الحكام.. لا يثور له أهل الاسلام.. بل كان قتل الواحد منهم أقرب اليه من لمح البصر.. و بفتوي بعض فقهاء سلاطين الاسلام الحاكمين باسم خلفاء جد بني هاشم: - رسول الله صلي الله عليه و آله -؟!.
ان وظيفة الامام - كل امام - تتلخص - مبدئيا - في كشف «باطل» أهل عصره بكلمة «الحق» التي يحملها، و بيان «ظلمهم» و تعدياتهم علي حدود ما أنزل الله، بالحكم الحق الذي يلفظه، لئلا يكون لهم حجة في باطلهم و ظلمهم و جهلهم.
و الدعوة الي الله ليس سهلا أمرها..
و لا هي كلمة تقال، و للسامع أن يقنع أو أن يرفض.. ثم لا بأس علي قائلها بعد أن أمر بالمعروف و نهي عن المنكر، و بلغ للناس ما يحمله لهم من نصح.
لا، بل هي ثقيل حملها.. لأنها يجب أن تواكبها حجة قاطعة، و براهين ساطعة..
[ صفحه 177]
و علي حاملها أن يثبت أمام طواغيت زمانه.. و أن يبدههم بالحق، و لا «يفر فرار العبيد، و لا يعطي يده اعطاء الذليل» لأن النبي حين «شرع» و الوصي حين «يرسخ و يبين» يكثر من حولهما المنافقون.. بل يرد علي الله الرادون.. و لا يجوز لهما اخلاء الساح قبل القاء الحجة الدامغة التي تهدي قلوب المؤمنين، و يفر من دربها الكافر بيوم الدين.. ثم - بعدها - (لا يضركم من ضل، اذا اهتديتم) [3] .
و هذا كله من الجهاد بكلمة الحق..
أما الجهاد - بالسيف - فلا يكون الا وفق موازين شرعية سماوية.. اذ ليس كل قتال للعدو جهادا.
بل من الجهاد ما يكون دون قتال.
و قد قال أميرالمؤمنين عليه السلام في خطبة له يصف بها النبي صلي الله عليه و آله و سلم، حين ذكر الامام:
«... انه ليس علي الامام الا ما حمل من أمر ربه، الا البلاغ في الموعظة، و الاجتهاد في النصيحة، و الاحياء للسنة، و اقامة الحدود علي مستحقيها و اصدار السهمان علي أهلها..» [4] .
و قد قال الامام الصادق عليه السلام لعبد الملك بن عمرو:
«يا عبدالملك، مالي لا أراك تخرج الي هذه المواضع التي يخرج اليها أهل بلادك.
قال: و أين؟
قال عليه السلام: جدة، و عبادان، و المصيصة، و قزوين. - أي الي الأمكنة التي فيها مرابطون مسلمون..
فقال: انتظارا لأمركم و الاقتداء بكم.
فقال عليه السلام: اي و الله (لو كان خيرا ما سبقونا اليه) [5] .
قال: انهم يقولون: ليس بيننا و بين جعفر خلاف الا أنه لا يري الجهاد.
[ صفحه 178]
فقال عليه السلام: أنا لا أراه؟. بلي و الله لأراه. ولكني أكره أن أدع علمي الي جهلهم» [6] .
فهو عليه السلام يعرف مواطن الجهاد.. و لا يري وجوبه الا في مواطنه.
و قد قال النبي صلي الله عليه و آله و سلم لعلي عليه السلام في وصية له:
«يا علي، ان ازالة الجبال الرواسي، أهون من ازالة ملك لم تنقض أيامه» [7] .
فالتصدي للملك الظالم لا يجدي فتيلا، اذا لم يقدر الله تعالي انقضاءه.. و لا شأن للعباد بتغيير ما سبق القضاء فيه.. و ما عليهم الا انتظار مشيئته سبحانه بتغيير الحال من غير أن يعينوا ظالما في ظلمه.
و عن أبي الحسن العبيدي أن الامام الصادق عليه السلام قال:
«ما كان عبد ليحبس نفسه علي الله، الا أدخله الله الجنة» [8] .
و حبس النفس عليه تعالي يكون بالمرابطة في الثغور، أو بنصر أولياء الله المنتظرين لأمر الله.
و أمر الله هو الأحري بأن يطاع.. و قدره هو الأجدر بأن يمضي.
و بذلك يسقط جهاد أهل البغي مع قلة الأعوان، لأن من يشهر سيفه وحيدا بوجههم، يكن كمن ألقي بنفسه الي التهلكة.
قال الهيثم بن عبدالله الرماني: «سألت علي بن موسي الرضا عليه السلام، فقلت له:
يا ابن رسول الله، أخبرني عن علي بن أبي طالب عليه السلام، لم لم يجاهد أعداءه خمسا و عشرين سنة بعد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، ثم جاهد في أيام ولايته؟.
فقال: لأنه اقتدي برسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، في ترك جهاد المشركين بمكة - بعد النبوة - ثلاث عشرة سنة، و بالمدينة تسعة عشر شهرا، و ذلك لقلة أعوانه عليهم.
و كذلك علي عليه السلام ترك مجاهة أعدائه لقلة أعوانه عليهم.
[ صفحه 179]
فلما لا تبطل نبوة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم مع تركه الجهاد ثلاث عشرة سنة، و تسعة عشر شهرا، فكذلك لم تبطل امامة علي عليه السلام مع تركه للجهاد خمسا و عشرين سنة اذا كانت العلة المانعة لهما واحدة» [9] .
أما الامام الصادق عليه السلام فقد أجاب أصحابه علي مثل هذا السؤال بقوله:
«للذي سبق في علم الله أن يكون. و ما كان له أن يقاتلهم و ليس معه الا ثلاثة رهط من المؤمنين» [10] .
فتأمل سمو مرتبة الايمان، حين تري أن عليا عليه السلام لم يكن معه الا ثلاثة أشخاص يوم وفاة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم بلغوا مرتبة الايمان!. و حينئذ تعلم أن ايماننا فطير.
و روي مثل هذا الجواب بعينه عن امامنا أبي جعفر عليه السلام، في تفسير العياشي.
و قال الامام الكاظم عليه السلام لصاحب له - في حديث -:
«.. فعلي لم يجد فئة، و لو وجد فئة لقاتل» [11] .
أضف الي كل ذلك أن أهل الحق لا يبدأون بقتال قبل الاعذار و الانذار، و قبل أن يقاتلهم أهل البغي. فما قولك بمن يرفع سيفا في وجه موحد يقر بالشهادتين؟!.
و مما أوصي به أميرالمؤمنين عليه السلام أصحابه، قوله:
«لا تقاتلوا القوم حتي يبدأوكم، فانكم بحمد الله علي حجة. و ترككم اياهم حتي يبدأوكم حجة أخري لكم» [12] .
فهذه هي الخطة التي وضعها النبي صلي الله عليه و آله و سلم - و من تأخر عنه من أهل بيته عليهم السلام - لكيفية جهاد الأعداء، و لحلول وقت وجوب الجهاد و عدم المناص منه. و هؤلاء هم صفوة الخلق الذين اختارهم الله من بريته ليقيموا أمره، و ليدور عملهم - دائما - في فلك ارادته و مرضاته.
[ صفحه 180]
فهل كان علي امامنا الجواد عليه السلام، أن يجاهد حاكما يراه ظالما، و الناس يرون ذلك الظالم «محسنا» للامام: يحترمه، و يجله، و يتفداه، و يجلس بين يديه بخضوع و احتشام، بل يقربه و يدنيه.. حتي يزوجه ببنته - الأميرة - كما جري لامامنا هذا، و لأبيه، عليهماالسلام؟!!
قد قرب الامام الرضا عليه السلام - علي أعين الناس - فرفع الي «تقليد» ولاية العهد، بعد المصاهرة - الغادرة!.
و صار ابنه - الجواد عليه السلام - المقرب، الأثير، المحاط بحفاوة «الأمير».. حتي أنه زوج قبل البلوغ!. و نثرت في عرسه بدر الجواهر الثمينة، و كان عرسه فرحة «القصر» الكبري!. و ستري تفصيل ذلك.
و رأي الناس أن أي انسان لا يسي ء الي من أحسن اليه.. و لو كان احسانه «ظاهرا».
فكيف بالامام الذي يري ما الناس عليه من رأي بتوقير الخليفة له، و بتقريبه و الاحسان اليه؟.
هذا و ان الوقت لم يكن ليسمح باعلان كلمة، فضلا عن اعلان ثورة.. فالسيوف مشرعة، و الأمر مستوثق للحكم، و طلاب الدنيا حاضرون لتفشيل كل حق و تخسير كل مطالب به، لأنهم يتمرغون في لذائذها، و يتقلبون في نعيمها، و هم يبذلون أقصي ما عندهم للاستمساك بها و لو أدي ذلك الي قتل نبي مرسل!.
فمن تحرك يومئذ أصيبت دعوته في الصميم.. و الأمثلة الشاهدة كثيرة من حول الامام عليه السلام و حواليه.. و هو و شيعته كانوا يواجهون شرا مستحكما و ظلما متحكما، و سيوفا مسلطة.. و قلوبا لم يلج شغافها الايمان!.
و هل يصدق الامام أحد، اذا أطلعه علي ما في «دخيلة» ذلك «المحسن» اليه؟!.
و هل ينصره أكثر من ثلاثة رهط.. و يكون القتل مصيرهم المحتم؟!.
و الاحسان الذي كان «يظهر» للناس كان احسانا كبيرا.. بل كان مبالغة في
[ صفحه 181]
الاحسان.. في حين أنه لا يعلم خلفياته سوي الامام عليه السلام.. أو من دله الامام علي تلك الخلفيات.
هذا، و ان عهد الجواد عليه السلام، الذي امتد خمسا و عشرين سنة، قد حفل بأحداث سياسية هامة كانت كسلك الخرز الذي انقطع خيطه فانفرطت حباته يتبع بعضها بعضا.
فقد أبصر النور في جو مكفهر بسحب من الخلاف بين الأمين و أخيه المأمون انجلت عن البيعة للمأمون بعد هنات و هنات.
و تلا ذلك سلسلة من الأحداث و الفتن: كخروج أبي السرايا، و ابن طباطبا، و قوم من العلويين.
و وقع قتل الفضل بن سهل و ما تلاه من أزمات.
و توفي الامام الرضا عليه السلام في غموض فتح باب التهم، و أحدث غليانا.
و خرج ابراهيم بن المهدي، و غزا المأمون الروم، و توفي، و تولي المعتصم، و حبس أحمد بن حنبل و جلد بأمر المعتصم ذاته، و هرب محمد بن القاسم العلوي.. و ضعف - الي ذلك - الوازع الديني فطغت الخلافات الجاهلية القديمة و عملت علي تفريق الأمة الي سنة و شيعة و أشاعرة، و خوارج، و أمويين، و زيديين، و عباسيين، و متوقفة، و معتزلة و مرجئة.. فتمادي الخلاف و تعمق بين تلك الفرق، و انحسر المد الاسلامي بعد أن كان قد امتد و سيطر علي العالم الشاسع المعروف آنذاك.. ثم غاب عن ذهن المسلمين - عامة - أمر الله تعالي الذي لو اتبعوه و رجعوا في الأمور (الي الرسول، و الي أولي الأمر منهم، لعلمه الذين يستنبطونه منهم) [13] و لأرشدهم أولو الأمر الي كتاب الله الذي التهوا عنه بالقشور و لهوا عن اللب، فاختلفوا في «قدم» القرآن و «خلقه» و مضوا في نزاعات جانبية حادت بهم عن روح الدين القويم، فجر الشيطان أكثرهم بشعرة معاوية التي ربطهم بها، و لو أنهم
[ صفحه 182]
قطعوها - يومئذ - لا نقطع النزاع و اجتمعت الكلمة علي الخير.
و لم نذكر هذه الأمور الا لنبين أن امامنا عليه السلام فتح عينيه علي أمة جده تتذابح فيما بينها، و تتنازع السلطان، و المناصب، و الشهرة الفارغة.. بغضب كغضب الخيل علي اللجم!. «فانتصب» - سلام الله عليه - طري العود.. حافظ العهود في بيان الأحكام و ترجمة الوحي من السنة و القرآن.. تماما كما «انتصب» جده أميرالمؤمنين عليه السلام حين نفض يديه من دفن النبي صلي الله عليه و آله و سلم، و جلس للفتيا في الدين ليقيم شرعة سيد المرسلين، و لم يرفع سيفا لاسترجاع حقه المستباح، لأن السيف - يومئذ - كان يمكن أن يذهب بالدين برمته، فيفجع النبي في أمته.. ثم لا يكون أميرالمؤمنين - ساعتئذ - ولي الله، و لا وصي رسول الله الذي رباه و جعله كفاء نفسه - الا أن هذا نبي، و هذا وصي - ليحفظ بيضة الاسلام و ليرسخ العقيدة في نفوس قريبة العهد بالوثنية و الجاهلية.. و لذا، وضع عليه السلام الدين الجديد علي الناس في كفة الميزان، و الدنيا و ما فيها من بهارج و مغريات في الكفة الأخري، فشالت كفة الدنيا، و رجحت كفة الدين الذي هو عليه «أمين».. فتربع في المسجد الجامع، و في مجالس «الخلفاء» يفتي المسلمين في حلال دينهم و حرامه، و يبين لهم حدود الله و أحكامه.. و ان هو لم يفعل ذلك فما حفظ «الأمانة» و لا رعي «الوصاية» و لا أعطي لربه سبحانه حقه حين منحه «الولاية» علي العباد.
روي جابر، عن أبي جعفر - الباقر - عليه السلام، أنه قال:
«أنكروا بقلوبكم، و الفظوا بألسنتكم، و صكوا بها جباههم، و لا تخافوا في الله لومة لائم. فان اتعظوا و الي الحق رجعوا فلا سبيل عليهم (انما السبيل علي الذين يظلمون الناس و يبغون في الأرض بغير الحق، أولئك لهم عذاب أليم).. هنالك فجاهدهم» [14] .
فهذا هو خط الأئمة الالهي الذي لا يتعدونه.
[ صفحه 183]
و قد أنكر امامنا بقلبه كثيرا،
و أنكر بلسانه أكثر،
وصك بها جباههم أكثر و أكثر.. و لم يخف في الله لومة لائم.. و ما عليه ان هم لم يتعظوا!.
و أنت - أيها القاري ء - تتكامل في ذهنك صورة مواقفه في كل المناسبات، و ستتم - عندك - واضحة عندما تلم بسائر خطوطها و معالمها المبثوثة في مختلف فصول هذا الكتاب، لتري أن هذا الامام الشاب قد أدي ما عليه كاملا غير منقوص.
فانه - عليه السلام - لم يقم في محفل الا و كان سيد المحفل الذي تتجه اليه الأنظار و الأفكار.. يرون القرآن و السنة يدوران علي لسانه دوران السوار في معصم الفتاة، و يسمعون حكم الله ينثال من فمه انثيال بسم الله الرحمن الرحيم من ألسنة المصلين!.
وقد كان يحتج.. و يخالف.. و يقضي، و يفلسف حكمه و قضاءه ببيان يبهر أهل الفأفأة و التأتأة ببيان هاشمي، و برهان قطعي و حجة دامغة، و هو - بعد - أمرد لم يبلغ الحلم، و المشايخ من حوله تسد لحاهم الآفاق و تزحم المجلس!..
فامامنا - سلام الله عليه - لم يرض مخلوقا بسخط الخالق،
و لم يفعل الا ما هو الأولي،
و لا يليق «بوارث» علم الأولين و الآخرين، و «حامل» الدعوة الي الله، الا أن يمثل دور «وريث» الدعوة السماوية، و «وصي» محمد صلي الله عليه و آله و سلم علي رسالته العظمي التي ينبغي أن تدوم الي أن ينطفي ء قرص الشمس!.
و ينقدح في الذهن حالا أن الوريث الأمين - المستأمن من الله في أرضه - يفترض أن لا يهادن و لا يرضي بالحل الوسط، بل يفعل كما فعل أميرالمؤمنين عليه السلام بقتال الناكثين، و القاسطين، و المارقين، و كما فعل السبطان، عليهماالسلام
[ صفحه 184]
حين رفعا صوت الحق بوجه الباطل، أي أنه كان علي الامام الجواد عليه السلام أن يقف في وجه الظلم، لأن ذلك من واجبه العيني.
أجل، هذا حق. و لكن الوقوف في وجه الظلم يكون باليد أو باللسان.
أما اليد يومئذ فلم يكن من شأنها أن تعمل عملا في عهد تلك الفوضي التي مررت بصورة بشعة من صورها.. و من رفع سيفا بيده - حينها - قتل به.
و أما اللسان فقد جلي يومئذ و فتن الألباب، و ولج الي القلوب و هز النفوس، حتي أن هذا الاشكال - الذي كان سؤالا - ينقلب الي جواب منه و فيه، أمام فتي أعزل، معزول عن قواعده الشعبية، مغلول بمظاهر احترام مصطنعة لم تترك له الا نافذة يخاطب منها المخالفين، و الخاذلين و المزورين.. ثم «لا يبالي بعدها بمن خلافه اذا وافقه، و لا يحفل بمن خذله اذا وازره، و لا يكترث بمن ازور عنه اذا ساعده» عملا بقول جده الأعظم صلي الله عليه و آله و سلم..
فقد أعلن كلمة الحق بين الناس و حملهم مسؤليات المخالفة و الخذلان و الازورار..
و رغم ما كان عليه من حال «التطويق السلطاني» تقاصر أي أحد - حتي السلطان - أن يحتوي «كلمته» أو أن يحد من حوله و طوله اذا سنحت فرصة «القول - الحق»!.
قد سدوا السبل بوجهه، و أوصدوا الأبواب، و حبسوه لدن العود في «قفص الزواج» و بكروا في خطب وده، و جعلوه عريسا لأميرة القصر الأثيرة المتكبرة علي الأمراء و الوزراء، و أوطأوا نعاله بسطهم، و جعلوا منه الشغل الشاغل لمقربي القصر و أباعده - نساء و رجالا - و رفع فوق الحكام و الفقهاء و الأمراء.. و كان جوهرة عقد مجلس امارة المؤمنين و درة تاج الملك.. و هو عالم بسرائرهم، و مطلع علي ما في ضمائرهم.. عارف بأن ذلك كله شباك قضبان لقفص ذهبي يعزلونه فيه عن قواعده و فاعلياته و يبعدونه فيه عن ميدانه، و يحاولون اذابة شخصيته و صهرها مع زمرة المتسلطين.. علي حقه!.
[ صفحه 185]
و كان ذلك كذلك.. و لذلك.
و لكنه.. لم يغب عنه شي ء من أمرهم.
و حين ندرك نحن بعض هذه الجوانب، فما يكون شأن الامام عليه السلام؛ و هو يعيشها، و لا تخفي عليه خافية مما أدركناه، و مما غاب عنا علمه؟.
و كيف نريده أن يتحرك ليظهر بوار ما هم فيه، و عليه؟.
قد عمد - أول ما عمد - الي القيام بوظيفة «الوصي».
فاحتوي الحاكم الذي حاول احتواءه.
و ذلك حين «جهل» العالم الذي تربع علي كرسي الفتوي في الدين، و استوي مكانه فقيه العصر الذي خلق و الفقه و العلم جزءان منه،
و حين نطق عن علم علمه اياه الله...
و حين كشف عمائم مكورة أعشاشا للشياطين، و مزورة لنيل المال و الجاه.
و حين كسف هالة الرياء المشعة من قفاطين رجال الحاشية و المشيرين،
و أخيرا.. حين سفه ما هم فيه، و عليه.. و كرس حكم الله، و قدس القرآن و كرس السنة..
.. فظهر - للنابهين - أنه يهدم ملكا بغير معول،
و يدك عرشا غاشما، بغير حسام،
و ينتصر في معركة جهاد بدون سلاح؛ اذ استطاع أن ينفض الغبار عن وجه الحق ليبدو لألاء بدون جلبة.. و استوت الغلبة لله تعالي علي لسان خليفة من خلفائه سبحانه علي الأرض، لا ينطق عن الهوي.. و لا يخشي غائلة المكر و الخداع و القوي!.
و هكذا.. فان باب القفص الذهبي كان مفتوحا للامام عليه السلام، يذيع منه كلمة الحق.. دون وجل.
واعيا أن جده أميرالمؤمنين عليه السلام كان قد قبع في زاوية مسجد رسول
[ صفحه 186]
الله صلي الله عليه و آله و سلم أياما، ثلاثة «ينشر كلمة الحق باللسان.. «و أياما ثلاثة» يمليها بالسيف.. فكان بذلك حافظ الشريعة و حارس الرسالة..
و أن نجله السبط المجتبي حاور أعداءه «يوما» بالحكمة و الموعظة الحسنة، ففضح باطلهم و كشف عن وثنية لبسوا لها ثوب الاسلام.. فظهر حقه للأنام، و حفظ الدين و حملة الاسلام.
و أن أخاه السبط الشهيد - أرواحنا فداه - قد وقف «يوما، أو بعض يوم» في كربلاء، فأزهق الباطل و أخزاه خزيا أبديا.. و أطلق كلمة الحق لتدوي في أسماع الأجيال الي يوم الدين.. و كان سيد شهداء العالمين في العالمين..
و كذلك وقف أبناء الحسين عليه و عليهم السلام - واحدا بعد واحد - يبينون للناس ما أسي ء فهمه من أوامر الله تعالي ليعيدوا الحق الي نصابه.
... فقال الامام الجواد عليه السلام - من بعدهم - كلمة الحق التي كانت «زنة» سيف جده - ذي الفقار -.
و «كفاء» صلح عمه الحسن عليه السلام،
و «ثقل» تضحية جده أبي عبدالله، الحسين سلام الله عليه، عقيدة، و جهرا بكلمة الله، و دعوة للعدل في مجلس الظلم..
و كان المنتصر في معركة تاريخ اشتري وبيع، و زور و حرف..
فأفتي بما سنة الاسلام لمن «لبسوا الاسلام لبس الفرو مقلوبا»!.
و ان ضربة علي عليه السلام يوم الخندق - التي توازي عمل الثقلين -.
هي كوثيقة صلح الحسن التي وازت الابقاء علي الدين و المتدينين، يوم لم يكن الحاكم من الاسلام لا في طين و لا عجين،
و كثورة الحسين التي أبقت علي كلمة «لا اله الا الله» الي يوم الدين،
و كدمعة زين العابدين علي أبيه التي سالت ابتهالات تعمر القلوب بها و تربطها بالمعبود العظيم،
و ككلمتي الباقرين الصادقين اللتين كرستا حلال الله و حرامه الي يوم يبعثون،
[ صفحه 187]
و كحبس الكاظم الذي كان منبرا للدرس الرباني السديد الرشيد.
و «كولاية العهد» للرضا التي كان قبوله القسري بها أعظم اسفين في عروش الحكام الظالمين،
و «الامانة» التي حملها الأئمة عليهم السلام واحدا بعد واحد، هي واحدة.
أدوها بأمانة.. في عهود متفرقة، و بأدوار مختلفة،
و كان كل منهم فذا في تمثيل دوره حين تأديته..
و لولا براعة تأديتهم لفقدت الرسالة الكريمة معناها، و مبناها.
فقد رعوها حق رعايتها.. منذ الابتداء.. و حتي الانتهاء،
و ظلوا «أمناء» عليها.. و «أوصياء» كالأنبياء..
أجل،
قد ثبت كل واحد من أئمة أهل البيت عليهم السلام في ميدان الدفاع عن رسالة الاسلام أمام طاغية زمانه،
و قد أثبت وجوده، و ضرب اما باليد أو باللسان،
و نادي بكلمة الحق عاليا رغم صولان الباطل و جولانه.
و لكن الذي لا ينقضي التعجب منه، هو أن التساؤلات تنصب حول سلامة موقف كل منهم، بظلم له فوق ظلمه، حتي يضطر مواليهم الي الدفاع، ثم يسكت عن الحاكم الظالم و لا يذكر أحد ما أصاب امام زمانه من ظلمه و جوره، و لا يتذكر شي ء مما لحق بذلك الامام الذي كان يؤخذ علي غرة، و يراح و يجاء به الي الخليفة في بغداد، أو من بلاد الي بلاد كالسلعة الرخيصة، و لا يراعي فيه ال و لا يرعي له ذمام أو قربي من رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و هو القائل لأمته بنص القرآن الكريم: (لا أسألكم عليه أجرا الا المودة في القربي)!! [15] .
فهل كان هذا التنكيل من مودة قربي الرسول؟!
[ صفحه 188]
لا و الله.. بل لو أوصاهم الرسول بأن ينكلوا بقرباه لخجلوا أن يفعلوا أكثر مما فعلوا!.
لقد حكموا الأمة الاسلامية باسمه صلي الله عليه و آله و سلم، و باسم دينه، ثم تمادوا في غيهم الوقح و عاملوا ذريته بأقسي أنواع الظلم. و لو أنت ذكرت طاغية منهم بسوء لعضوا عليك الأنامل من الغيظ، و لصروا بأنيابهم حنقا، و رموك بالالحاد بالتاريخ الذي يذكر ذلك الخليفة بتمام التبجيل و هو رأس النفاق و الشقاق في زمانه!.
أما التاريخ «المقدس» بنظرهم، فما أدراك ما ذلك التاريخ؟. و ما أدراك بزوره و وضعه و تلفيقه!. و ان أنت نقدت ذلك التاريخ، و شككت في بعض فجوات دسه و تلفيقه رموك بألسنة حداد و ارتفع بوجهك صوت الضمائر الصدئة التي ترعي «قدسية» التاريخ، و تغفل عن قدسية الله عز و علا، فهو يسب علي مرأي و مسمع من الناس دون أن يكون في ذلك بأس، بشرط أن لا تنبس ببنت شفة علي التزوير و من زور أو علي ذلك الخلق المتعوس من سفلة المسلمين حين حكم و تأمر!.
فالزمان هو الزمان.. لم يتغير.
و قل الحق، يرتفع صوت الباطل.. و يرعد بوجهك صوت الخلق!.
فكأن الشيطان نصب «محامين للدفاع» عن زمرة يقفون دائما و أبدا أمام الكلمة المنصفة!.
فكيف بك - يا أخي القاري ء - و أنت تواجه عالما ظالما، كلما وصلت كلمتك المنصفة - عن هنات ذلك التاريخ المقلوب المغلوب - الي آذان «محامي الدفاع» لا يدعون كلمتك تصل الي الأسماع و القلوب؟!.
ثم اذا هزت تلك الكلمة ضميرا حيا، فمن للضمائر الخدرة المخدرة يحركها و يوقظها من الغاشية التي تحيق بها؟!.
فأنت - و كل حر - اذن، مضطر لأن تجعل نفسك مدافعا عن المظلوم، لأن الادعاء الغاشم ينصب عليه، و الاتهامات القاسية تنسب اليه، و يبقي ظالمه حرا
[ صفحه 189]
طليقا دون حسيب أو رقيب، و دون أن يقال كلمة «ببابه العالي»!. فان «ثعالب القصر» التي كانت تبذل المال، و تشتري الرجال، و تغير الأمور من حال الي حال، قد عقبها زمرة تنسج علي نفس المنوال، و تقف في وجه كل ما يقال.. فتضيع الحقائق - هكذا - بين أشداق مؤرخين مأجورين من ذوي الأقلام التي فعل بها حب الدنيا فعل السحر الحلال!.
(فلعلك باخع نفسك علي آثارهم ان لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا) [16] .
و (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين) [17] برأيك.. و لو كان حقا، سديدا، رشيدا؟.
لا، لا تزعج حالك بالبرهنة لمن لا يريد الاقتناع برأيك،
و لا تذهب نفسك حسرات علي أحد.
لأننا نريد من الآخرين ايمان اختيار، لا ايمان اضطرار،
و قد قال سبحانه في محكم كتابه: (انا جعلنا ما علي الأرض زينة لها، لنبلوكم أيكم أحسن عملا) [18] و الأرض و زيتها: امتحان للعباد.
فما همك لو تركت كلا و هواه ليسقط من يسقط في الامتحان، و يفوز من يفوز، بعد أن بشرت و أنذرت؟!.
لقد كان الجواد عليه السلام علي خط السماء، و سيرة من مضي من هذه الشجرة المباركة الطيبة.
و ما كان في حسبانه أن ينتظر موافقة أحد منا خطة سير عمله.
و لا كان في اطار التقويم أن تعلل أعمال أولياء الله و صفوته.. لأن أولياء الله يكونون دائما علي الحق و معه و له، و لو خالفه سائر العالمين.
و لم يأل الامام عليه السلام جهدا أيام حياته - في تثبيت المؤمنين، و الاعتراض
[ صفحه 190]
علي المارقين، و صد الفسقة و المخاريق، و هتك أهل البهتان.. يصحح، و يقوم.. و لم يقف بوجهه ما اعتور طريق مسيرته من فتن و حروب، و من منافسات مذهبية، و سورات جدلية كانت تمنع من حمل الناس علي العدل و قول كلمة الفصل التي تردهم الي جادة الصواب.
فماذا يراد منه فوق هذا، حتي يعترف الناس بأنه كان «موجودا» - ثابتا وجوده - في ذلك المجتمع الذي سيطر فيه الفساد علي الحكم الاسلامي؟.
هل يطلب منه أكثر مما طلب الله تعالي من جده الأعظم صلي الله عليه و آله و سلم حين قال له تبارك و تعالي: (و اتبع ما يوحي اليك من ربك): [19] (انا أرسلناك شاهدا و مبشرا و نذيرا) [20] .
فاتبع ما أوحي اليه،
و بشر و أنذر،
و كان شاهدا علي الناس بعد التبشير و الانذار،
و لم يرفع سيفا علي ناطق بالشهادتين،
بل عمل بقوله عز و جل: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم، لا يضركم من ضل اذا اهتديتم).. [21] .
فلم تذهب نفس رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم حسرات علي الضالين،
و لا ضره من ضل،
و لا كانت سيرة حفيده الجواد عليه السلام الا كسيرته:
في الشهادة علي الظلمة،
و في التبشير و اذاعة أحكام الله،
و في الانذار بعد الاعذار،
و لم يتوان عن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر قط.. حتي في مجلس «الخليفة» و لفيفه.
[ صفحه 191]
أما هل أكره قومه علي أن يكونوا مؤمنين؟.
فالجواب: لا.
لأن جده رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم قال:
«لا أبالي بمن خالفني اذا وافقني،
و لا أحفل بمن خذلني اذا وازرني،
و لا أكثرت بمن ازور عني اذا ساعدني» [22] .
فما هم سيرة امامنا عليه السلام عمش العيون.. اذا لم يروا،
و لا أقلق خاطره صم الآذان.. اذا لم يسمعوا،
و لا ضاره أبواق ظالميه اذا ولوا مدبرين.. و رضوا بضلالهم المبين..
[ صفحه 193]
پاورقي
[1] أنظر مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 380 و أكثر مصادر كتابنا.
[2] أنظر اثبات الهداة ج 6 ص 184 و غيره من المصادر، و قد أثبتنا حوادث عليه السلام في كتابنا هذا، تثبت ذلك.
[3] المائدة - 105. و انظر المصادر اللاحقة.
[4] المائدة - 105. و انظر المصادر اللاحقة.
[5] الأحقاف - 11.
[6] الوسائل م 11 ص 32.
[7] المصدر السابق: نفس المجلد ص 38.
[8] المصدر السابق، نفس المجلد ص 38.
[9] المصدر السابق، نفس المجلد ص 66.
[10] المصدر السابق، نفس المجلد ص 67 و ص 69.
[11] المصدر السابق، نفس المجلد ص 67 و ص 69.
[12] المصدر السابق، نفس المجلد ص 67 و ص 69.
[13] النساء - 83.
[14] الوسائل م 11 ص 404 - 403 و الآية الكريمة في الشوري - 42.
[15] الشوري - 23.
[16] الكهف - 6.
[17] الشعراء - 2.
[18] الكهف - 7.
[19] الأحزاب - 2 و 45.
[20] الأحزاب - 2 و 45.
[21] المائدة - 105.
[22] بحارالأنوار ج 17 ص 324.