بازگشت

انه أوتي الحكم صبيا.. و علمه من علم الله!


نص الامام الرضا علي امامة ابنه الجواد عليهماالسلام، و سمع النص من فمه الشريف كل من:

علي بن جعفر الصادق بن محمد الباقر عليهماالسلام، و صفوان بن يحيي، و معمر بن خلاد، و الحسين بن بشار، و ابن أبي نصر البيزنطي، و ابن قياما الواسطي، و الحسن بن الجهم، و أبويحيي الصنعاني، و الخيراني، و يحيي بن حبيب الزيات، و جماعة كثيرون يطول بذكر هم الموضوع [1] .

و النص علي امامة غلام - أو قبل أن يولد صاحبها - أمر لا يدخل القلوب بيسر، و لا يلج الآذان دون رخصة!.

فان من طبائع البشر أن يتنكروا للمسألة التي تعرض لهم و لا تستطيع أفهامهم احتواءها بسهولة. بل قد يرفضونها - قبل التفكر و التدبر - غير مبالين بما يترتب علي رفضهم لها، و ناسين أن قصورهم عن فهمها لا يبطل حقيقتها و لا يجعلها غير باقية و غير ثابتة.

فاذا قيل ان النبي يوحي اليه - من الله تعالي - بواسطة ملك أمين، فكروا و قدروا، و عبسوا و بسروا.. ثم قالوا للنبي: أرنا الله، و أرنا الملك، و أرنا كيف يتم نزول الوحي، لنصدق. - جاهلين أن الله عز و علا، لو كان يمكن أن يري لنزل عن



[ صفحه 148]



مرتبة الألوهية اللا محدودة العظمة، و لكان «شيئا» محدودا يحتاج الي حيز يشغله، و يفتقر الي شهادة «مختار» يراه و يعترف بوجوده؛ و غير ملتفتين الي أن الملك لو روي - كما يشاؤون - لبطل العلم السماوي، و لأصبح «لعبة أرضية» أشبه ما تكون بالأنظمة الوضعية للممالك و السلطنات و الامارات - و لا نقول الأمبراطوريات لأنها تحجب عن المحكومين كثيرا من أمورها - و اذن، لذهبت هالة القدسية عما ينزل من السماء، و لفقد قيمته كل ما يصدر عن الأرض اليها، لأن عمل العبد لا يكون ذا قيمة و اعتبار، الا في حال الايمان بالألوهية و الوحدانية و القدرة، و بجميع صفات الله تعالي؛ اختيارا، و اذا كان العكس فان الايمان قد يصبح نتيجة اجبار لا اقرار و اختيار.. فيبطل - عندها - الثواب و العقاب.

أجل، اذا قلنا ان النبي يوحي اليه ازور عنا كثيرون و قلبوا الشفاه سخرية و هزءا..

و اذا قلنا ان الامام يلهم، قامت قيامة المتعجبين و المنكرين.

فكيف اذا قلنا ان ذاك و هذا، ربما علما بما كان، و بما سيكون؟!! و أنهما اذا أرادا علما؟!.

لا ينبغي لنا - عقلا - أن ننكر كل ما نجهل حقيقته.

و لا يجوز - منطقيا - أن نرفض كل ما لا يروق لنا.

فقد جبل الله تعالي الخلق مختلفين في الجسم، و في اللون، و متمايزين في درجات الفهم و مراتب الادراك اختلافا كثيرا.. فكيف كان هذا؟.

كان هذا هكذا.. و كما نري بالمحسوس الملموس، و قد أعطي سبحانه هذا طولا، و ذاك قصرا، و الآخر توسطا؛ و سلحهم بمدارك متفاوتة، و حملهم مسؤوليات مختلفة، كما تحمل الدولة هذا مسؤولية القضاء، و ذاك أعمال الادارة، و كما تسلح هذا بالمسدس، و ذاك بالمدفع، و الآخر براجمة الصواريخ.. و تزوي الجبان في المطبخ.



[ صفحه 149]



أفكان عجبا أن يعطي الله تعالي عبدا من عباده، ما لا يعطيه لغيره من مواهبه الربانية؟.

أم كان عجبا - للناس - أن «يؤهل» واحدا للنبوة - التي هي أعلي مراتب الاصطفاء - ثم لا يؤهل غيره لها؟.

أم أن من الغريب - العجيب أن يعلم عبده المختار لأمره ما لا يعلمه لسواه؟!!

طبعا، لا.. فانه المعلم الأول (الذي علم بالقلم، علم الانسان ما لم يعلم) [2] .

و هو سبحانه الذي (خلق الانسان، علمه البيان) [3] ، (و علم آدم الأسماء كلها) [4] فأطلعه علي حقائق المسميات التي جهلها الملائكة لما سئلوا عنها و (قالوا: سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا، انك أنت العليم الحكيم) [5] .

و هو الذي فعل ذلك مع أبينا آدم عليه السلام بعد أن خلقه و أقدره علي الحركة و النطق، ثم وهبه العقل المفكر، و جهزه بمئات الأجهزة التي تجعله حريا بأن يكون «خليفة» الله في الأرض و سيدا للمخلوقات.. كما أنه تعالي هو الذي يعلم الناس جميعا - بمواهبه و بواسطة رسله - ليرشدهم الي ما فيه صلاحهم في الدارين؛ و لذا قال سبحانه لنا: (.. و يعلمكم الله، و الله بكل شي عليم...) [6] .

و علي هذا الأساس قال يعقوب لابنه يوسف عليهماالسلام، حين تفسير رؤياه: (و كذلك يجتبيك ربك، و يعلمك من تأويل الأحاديث، و يتم نعمته عليك)... [7] .

فأتمها سبحانه عليه و أشار الي ذلك بقوله عز شأنه: (و انه لذو علم لما علمناه) [8] فاعترف يوسف عليه السلام بفضل الله عليه لرفيقيه في حبس فرعون مصر و (قال: لا يأتيكما طعام ترزقانه الا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما،



[ صفحه 150]



ذلكما مما علمني ربي). [9] و المعني أنه سبحانه يطلعه علي ما غاب عنه دون أن يراه!. و لذا شكر يوسف ربه علي هذه النعمة بعد أن خرج من السجن و صار وزيرا للدولة، فقال: (رب قد آتيتني من الملك، و علمتني من تأويل الأحاديث، فاطر السماوات و الأرض أنت وليي في الدنيا و الآخرة..) [10] .

و كذلك قال تعالي عن نبيه داود عليه السلام: (و علمناه - أي ألهمناه أن يعمل - صنعة لبؤس لكم - أيها الناس - لتحصنكم من بأسكم) [11] - و هي الدرع الحديدية التي يلبسها المحارب فتدفع عنه -.

ثم قال سبحانه في معرض كلامه عن داود و قتله لجالوت الجبار: (و آتاه الله الملك و الحكمة، و علمه مما يشاء) [12] .

و قال عز و جل متحدثا عن نعمه عليه و علي ابنه سليمان عليهماالسلام: (ففهمناها سليمان، و كلا آتينا حكما و علما).. [13] .

فهو تعالي المعلم.. و الملهم، و المفهم.

فلم ننفس عليه سبحانه أن يكون كذلك؟.

و هل يعجز عنه و هو القادر الذي حمل الأرض في الفضاء، و أمدها بالضياء، و رفع فوقها السماء بلا عمد، و بث في هذا الكون ما لا يحصي من الكواكب الهائلة السائرة وفق نظام أبدي.. طائعة لأمره، مذعنة لارادته، ماضية بحسب مشيئته؟!!

هذا الذي نظم الكون بموجوداته كلها لا يعجزه التعليم!..

و قد حكي عز اسمه لنا قصة نبيه موسي عليه السلام حين أمره باتباع الخضر عليه السلام ليستفيد من حكمته، فقصده هو و رفيق له: (فوجدا عبدا من عبادنا



[ صفحه 151]



آيتناه رحمة من عندنا، و علمناه من لدنا علما) [14] .

و قال جبرائيل عليه السلام - كما علمه ربه - لمريم عليهاالسلام حين استغربت أن تلد عيسي عليه السلام، و لم يمسسها بشر: (قال: كذلك الله يخلق ما يشاء، اذا قضي أمرا فانما يقول له: كن، فيكون. و يعلمه الكتاب، و الحكمة، و التوراة، و الانجيل، و رسولا الي بني اسرائيل) [15] و ذلك بأن يخلقه معلما مفهما (يكلم الناس في المهد) [16] حيث (قال اني عبدالله، آتاني الكتاب و جعلني نبيا).. [17] .

فقد امتن سبحانه علي عيسي بن مريم عليهماالسلام بذلك، ثم قال في معرض تعداد نعمه عليه: (يا عيسي بن مريم اذكر نعمتي عليك و علي والدتك، اذ أيدتك بروح القدس، تكلم الناس في المهد، و كهلا، و اذ علمتك الكتاب، و الحكمة، و التوراة، و الانجيل).. [18] .

.. و هكذا يعلم الله تبارك و تعالي أنبياءه و رسله و عباده الصالحين. و قد ختم ذلك بأن علم نبينا محمدا صلي الله عليه و آله و سلم، و علم أهل بيته عليهم السلام، و قال عز شأنه: (الرحمن علم الانسان - محمدا (ص) - علمه البيان) [19] و قال تعالي عنه أيضا: (و أنزل الله عليك الكتاب - أي القرآن - و الحكمة، و علمك ما لم تكن تعلم، و كان فضل الله عليك عظيما) [20] .

فيا أيها المسلمون:

(و ما بكم من نعمة فمن الله) [21] بدءا بنعمة الوجود، و انتهاء بآخر نفس نتمتع به من لذائذ الحياة، الي ما بين هذين الحدين من أفضاله التي لا تعد و لا تحصي..



[ صفحه 152]



و لماذا نعترف ببعض نعمة، و ننكر بعضها؟.

و لم نقر بأفضاله علي رسله و أنبيائه و سائر أوليائه، ثم ننفس بها اذا كانت تخص أهل بيت نبينا صلي الله عليه و آله و سلم؟!.

و ما لنا كلما ذكر واحد منهم بفضيلة، و رمت الأنوف و أشاحت الوجوه استنكارا!!

انهم أهل بيت نبينا، لا نبي غيرنا.. و قد قال ربنا سبحانه فيهم: (انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس، أهل البيت، و يطهركم تطهيرا) [22] .

و لم نجفوهم و قد أمر الله تعالي رسوله أن يقول لنا: (قل لا أسألكم عليه أجرا الا المودة في القربي)؟!! [23] .

أهل بيت النبي صلوات الله عليه و عليهم، ليسوا أبناء علة!.

و يكفيهم شرف الانتماء الي رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، فلا يستجدون - مع هذا الشرف - اعتراف أحد منا بفضلهم و لا يستعطونه، و لا يستدرون عطف أحد لأنهم أولي بأن ترتفع اليهم الأكف بالطلب، و يقف الأشخاص بين أيديهم بالاستعطاف..

و بخل الناس عليهم بفضائلهم لا يصرف تلك الفضائل عنهم بحال من الأحوال.. و قد قال جدهم صلي الله عليه و آله و سلم لابن عباس:

«انا - أهل البيت - طهرنا الله من كل نجس.

فنحن الصادقون اذا نطقوا، و العالمون اذا سئلوا، و الحافظون لما استودعوا.

جمع الله لنا عشر خصال لم يجتمعن لأحد قبلنا، و لا يكون - يكن - لأحد غيرنا: العلم، و الحلم، و الحكم، و اللب، و النبوة، و الشجاعة، و الصدق، و الصبر، و الطهارة، و العفاف.

فنحن كلمة التقوي، و سبيل الهدي، و المثل الأعلي، و الحجة العظمي، و العروة الوثقي.



[ صفحه 153]



فماذا بعد الحق؟. فأني تصرفون؟!» [24] .

و لا يشك مسلم في أن الله تعالي قد جمع لهم هذه الصفات.. (فمن اهتدي - الي الاعتراف بحقهم - فلنفسه - أحسن باهتدائه - و من ضل - عن ذلك - فانما يضل - يضيع و يجني - عليها) [25] و ليس بعد الحق الا الضلال!.

و نحن لا نزيد «النبوة» فضلا من عندنا حين نعترف بها و لا نضفي عليها صفة قدسية كانت خالية منها،

و لا ننقص من شأن «الامامة» شيئا حين ننكرها، و لا يسقطها انكارنا لها، و لا يحط من قدرها لأن لسان حال الامام كلسان حال النبي الذي قال - كما ذكرنا سابقا -:

«لا أبالي بمن خالفني اذا وافقني، و لا أحفل بمن خذلني اذا وازرني، و لا أكترث بمن ازور عني اذا ساعدني» [26] .

فلا مجال للرأي، و لا ميدان للخيال، و لا حلبة للاجتهاد و لا القياس،

لأن رتبتي النبوة و الامامة الهيتان - متوازيتان، و علم الامام من علم النبي.. من علم الله عز و جل.

و لذا قال الامام الصادق عليه السلام لسيف التمار:

«لو كنت بين موسي و الخضر لأخبرتهما أني أعلم منهما، و لأنبأتهما بما ليس في أيديهما، لأن موسي و الخضر عليهماالسلام أعطيا علم ما كان، و لم يعطيا علم ما يكون و ما هو كائن حتي تقوم الساعة، و قد ورثناه من رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم وراثة» [27] .

فقد أورثهم الله تعالي علم نبيه، كما يورث أهل الثراء لذويهم.. و قد قال حمران بن أعين - كما أشرنا سابقا -:



[ صفحه 154]



«قلت لأبي جعفر - الباقر - عليه السلام: ما موضع العلماء؟. - يعني الأئمة عليهم السلام -.

قال: مثل ذي القرنين، و صاحب سليمان، و صاحب موسي عليهماالسلام» [28] .

و صاحباهما هما: آصف بن برخيا، و يوشع بن نون. - و هما وصياهما و وارثا علمهما -.

و ذكر بريد بن معاوية ما سأل عنه الامامين الصادقين عليهماالسلام - و كان الجواب واحدا - فقال:

«قلت له: ما منزلتكم؟. و من تشبهون ممن مضي؟.

قال: صاحب موسي، و ذوالقرنين، كانا علمين، و لم يكونا نبيين» [29] .

و هم - عليهم السلام - علماء المسلمين - كما كان غيرهم من ورثة الأنبياء علماء أممهم - و ليسوا أنبياء، بل أمناء علي تراث النبوة.. و ان الحسين بن العلاء قال:

«سمعت أباعبدالله عليه السلام يقول:

ان عندي الجفر الأبيض.

قال: قلنا له: و أي شي ء فيه؟.

قال: فقال: زبور داود، و توراة موسي، و انجيل عيسي، و صحف ابراهيم، و الحلال و الحرام، و مصحف فاطمة، ما أزعم أن فيه قرآنا.

و فيه ما يحتاج الناس الينا، و لا نحتاج الي أحد، حتي أن فيه الجلدة، و نصف الجلدة، و ثلث الجلدة، و ربع الجلدة، و أرش الخدش - أي أحقر الكفارات لمن يغمز الجسم و يخدشه بظفره -!.

فقال له عبدالله بن يعفور: أصلحك الله، فيعرف هذا بنو الحسن؟. - أي يعرفون أن عندكم ذلك -.

قال: اي والله كما يعرف الليل أنه ليل، و النهار أنه نهار. و لكن يحملهم الحسد و طلب الدنيا. و لو طلبوا الخير لكان خيرا لهم» [30] .



[ صفحه 155]



و الجفر - هذا - كتاب باملاء رسول الله صلي الله عليه و آله سلم، و خط أميرالمؤمنين عليه السلام، قال عنه الامام الباقر عليه السلام في حديث -:

فيه «ما يحتاج اليه ولد آدم منذ كانت الدنيا حتي تفني» [31] .

و هذا علم وافر.. و بحر زاخر لا تلتقي أطرافه..

فعلم الامام اذا ليس بعلم غيب - و ان كان من الغيب - لأنه مما عناه سبحانه بقوله: «.. فلا يظهر علي غيبه أحدا، الا من ارتضي من رسول) [32] و مما قصده عز و جل بقوله أيضا: (.. و ما كان الله ليطلعكم علي الغيب، و لكن يجتبي من رسله من يشاء).. [33] .

فقد اظهر الله علي غيبه رسوله الذي ارتضاه و اجتباه، و ورث ذلك عنه أهل بيته واحدا عن واحد.

و أنا في كتابي هذا أشبه بمن يعرض عمليات حسابية لا تتغير محاصليها و لو اختلفت الحلول، اذ لا دخل للعقل و الصنعة في تحوير جواب في الرياضيات مهما جالا وصالا وافتنا.

فلست مفوف لفظ، و لا منمق كلام و راصف جمل.

و لا أنا و صاف يستعمل حسن الديباجة و جمال التعبير ليأخذ بمشاعر قارئه و يستهويه بلطيف عبارته، و أنيق جملته؛

و لا أنا رسام مزوق يبرع في رسم الخطوط و الظلال و ابراز المعالم.

كما أنني لست معلقا صحفيا، و لا صاحب بيان فتان يأخذ بمجامع القلوب حين يتلاعب بسحر الألفاظ، و يغوص علي أبكار المعاني.

ولكنني ناقل حقائق ان وقف معها القاري ء موقف جد و تدبر و اقتناع فنعما ذلك، و ان هو أشاح عنها ببصره و أغلق دونها أبواب بصيرية و منافذ قلبه فلا يضير قيمتها اعراضه عنها و لا قلب شفتيه، و لا يعزلها عن مكان الاعتبار اعتراف من



[ صفحه 156]



مأمأ، و لا انكار من تأتأ، شأنها شأن كل موجود خفي علي الطالبين لأي سبب كان، فان خفاءه لا ينفي وجوده.

و في النبوة و الامامة لا ينظر - أيضا - الي السن.. كما أنه لا ينظر في المعاجز - و الآيات السماوية - الي المألوف و المعروف.

فهاتان - و هذه كلها - من خوارق العادة و المألوف.. و الخوارق من صنع الله.. و صنع الله لا يسأل كيف كان، و لا كيف حدث.. لأن صنعه حكمة، عين الحكمة..

و قد قال - محمد بن اسماعيل بن بزيع: سألته - يعني أباجعفر عليه السلام - عن شي ء من أمر الامام، فقلت: يكون الامام ابن أقل من سبع سنين؟.

فقال: نعم، و أقل من خمس سنين» [34] .

و قد مررنا و نمر بشي ء من هذا أثناء مواضيع مختلفة من بحثنا.

و قال عبدالأعلي: «قلت لأبي عبدالله عليه السلام: «المتوثب علي هذا الأمر، المدعي له، ما الحجة عليه؟.

قال: يسأل عن الحلال و الحرام.

- قال: ثم أقبل علي فقال -:

ثلاثة من الحجة لم تجتمع في أحد الا كان صاحب هذا الأمر:

- أن يكون أولي الناس بمن كان قبله - أي بالامام الذي سبقه -،

- و يكون عنده السلاح،

- و يكون صاحب الوصية الظاهرة التي اذا قدمت المدينة سألت عنها العامة و الصبيان: الي من أوصي فلان؟. فيقولون: الي فلان بن فلان» [35] .

و روي أحمد بن عمر قريبا منه عن الامام الرضا عليه السلام، فقال:

«سألته عن الدلالة علي صاحب هذا الأمر، فقال:

اذا قدم الركب المدينة فقالوا: الي من أوصي فلان؟. قيل: فلان بن فلان. و دوروا مع السلاح أينما دار. فأما المسائل فليس فيها حجة» [36] .

و السلاح الذي يرد في الأحاديث الشريفة، هو سلاح رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و مواريث النبوة و السماء. و هو لا يعني القوة و لا نهوض الامام بالسيف كما تشترط



[ صفحه 157]



بعض الطوائف الاسلامية.

و قد توسع الامام الرضا عليه السلام في ذكر الأدلة المميزة للامام، بقوله:

«ان الامام مؤيد بروح القدس، و بينه و بين الله عمود من نور يري فيه أعمال العباد. و كل ما احتاج اليه لدلالة، اطلع عليها. و يبسطه فيعلم، و يقبض عنه فلا يعلم.

و الامام يولد و يلد، و يصح و يمرض، و يأكل و يشرب، و يبول و يتغوط، و ينكح و ينام، و لا ينسي و لا يسهو، و يفرح و يحزن، و يضحك و يبكي، و يحيا و يموت و يقبر و يزار، و يحشر و يوقف، و يعرض و يسأل، و يثاب و يكرم و يشفع.

و دلالته في خصلتين: في العلم، و في استجابة الدعوة.

و كل ما أخبر به من الحوادث التي تحدث قبل كونها، فذلك بعهد اليه من رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، توارثه عن آبائه، عنه، عليهم السلام. و يكون ذلك بما عهد اليه جبرائيل عليه السلام من علام الغيوب عز و جل.

و جميع الأئمة الأحد عشر - بعد النبي صلي الله عليه و آله و سلم - قتلوا: منهم بالسيف، و هو أميرالمؤمنين و الحسين عليهماالسلام، و الباقون قتلوا بالسم، قتل كل واحد منهم طاغية زمانه، و جري ذلك عليهم علي الحقيقة و الصحة» [37] .



[ صفحه 158]



فهل نريد من مزيد علي ذلك الوصف للامام، و الوصف مأخوذ من فمه الشريف؟!.

ان الامام - بحسب قوله عليه السلام - انسان من الناس. ولكنه يمتاز عنهم بما ذكره من مواهب الله، و بما وصله عن طريق العهد المعهود، و هو مجتبي لذلك منذ سقوطه من بطن أمه معلنا بلا اله الا الله،

فان كان مكلفا بالقيام في صغره قام، و ان كان مكلفا في كبره انتظر أمر الله و لم يتكلم قبل الأوان، و يصمت مدة بقاء أبيه.

و اذا قال، أو أجاب علي سؤال قبل ذلك، فانما يفعل ذلك كفقيه في الدين من ذرية سيد المرسلين المطهرة، زق العلم زقا كما هو المعروف عنهم جميعا.

«أما لما قبض الامام الرضا عليه السلام، فكان عمر ابنه الجواد عليه السلام نحو سبع سنين و شهور، فاختلفت كلمة الناس في بغداد و في مختلف الأمصار. فاجتمع أكابر المتشيعين و الموالين - كالريان بن الصلت، و صفوان بن يحيي، و محمد بن حكيم، و عبد الرحمان بن الحجاج، و يونس بن عبدالرحمان، و كثيرين من الوجوه و الثقات اجتمعوا في دار عبدالرحمان بن الحجاج في بركة زلول - و بكوا كثيرا و توجعوا لوقع المصاب..

فقال يونس بن عبدالرحمان: دعوا البكاء!. من لهذا الأمر؟. و الي من نقصد بالمسائل الي أن يكبر أبوجعفر؟!!

فقام اليه الريان بن الصلت، و وضع يده في حلقه، و لم يزل يلطمه و يقول: أنت تظهر الايمان لنا و تبطن الشك و الشرك.. ان كان أمره من الله جل و علا، فلو أنه كان ابن يوم لكان فوق منزلة الشيخ العالم، و ان لم يكن من عندالله فلو عمر ألف سنة فهو واحد من الناس؛ هذا مما ينبغي أن يفكر فيه.. و لذا أقبلت العصابة المجتمعة كلها تعذله و تلومه و توبخه» [38] .



[ صفحه 159]



فبين طرفي هذا النزاع بين الأصحاب، كان يدور البحث عن «الامام» بعد موت أبيه.

أعني بين موقف واحد شاك متحير كيونس بن عبدالرحمان، و بين آخر مؤمن موقن كالريان بن الصلت.

و كان البحث يتردد بين واحد يكون اماما و لو كان ابن يوم،

و واحد لو عمر ألف سنة لبقي واحدا عاديا من الناس اذا لم «يكن» بأمر الله تعالي.

فهل يعقل أن يكون الامام صغيرا الي هذا الحد؟. و لم تجر عادة السماء أن تقيم «مجلس وصاية» علي الامام حتي يبلغ سن الرشد كما في الممالك الأرضية!.

نعم يعقل.. و لا ينتزع هذه الأفكار الخبيئة من الرؤوس الخبيثة الا سيرة السماء في اصطفاء الصغار كيحيي و عيسي عليهماالسلام، ليكون ذلك أبلغ في الاعجاز و أدعي الي ربح المعركة مع أبالسة الأرض الذين يرفضون الحق و كل ما ينزل من فوق..

و لذا كان امامنا عليه السلام، مرصودا لهذا العهد.. و معهودا بهذا القصد..

و لا بد من مثل هذا الاختلاف - و الغربلة بين الأصحاب، ليتضح وجه الصواب.

فامامته في هذه السن كانت - بالحقيقة و الواقع - أخطر مشكلة وقع فيها الشيعة يومئذ..

و كان الخيار و الاعتراف بها من أصعب الصعب.. و لا يؤدي الي ذلك الا الايمان الراسخ و التسليم لأمر الله مئة بالمئة، و العودة بالفكر الي النص عليه من أبيه.. فالكثيرون قد سمعوا نقل ذلك النص من ألسنة من سمعوه من فيه.

و علي هذا الأساس - و بعد النزاع - بدأت الحقيقة تنجلي، و راحت الأفكار



[ صفحه 160]



تتبلور، و تم اجتياز مخاض هذه العاصفة رغم التحديات الشيطانية داخلية كانت أم خارجية. فانمحي كل شك - أولا - عند من يؤمن بالنص، و زال الاشكال - تباعا - عند من يطلبون الحق و يسعون وراء تحصيل العلم و اليقين.. و ظهر أمر الله الذي لا بد أن يظهر.. اذ قال بامامته - عبر عمره القصير - فرقة بذت الفرق الاسلامية، عددا رغم ذلك النزاع العقائدي الشديد المستفحل.

فحين يلحق الامام بالرفيق الأعلي، يفتح ابنه - الامام من بعده - الموثق الذي تسلمه منه، و يباشر مهمته سواء مات أبوه عنه و هو صغير، أم مات عنه و هو كهل كبير - لا فرق في ذلك - لأنه «معد» من لدن حكومة السماء، و مجهز بكل متطلبات وظيفته كسفير لله تعالي في أرضه، و كحجة له علي عباده، و كأمين له علي وحيه و عزائم أمره.

فقد قتل المأمون الامام الرضا عليه السلام، يوم كان ابنه الجواد عليه السلام فتي يافعا،

فاعترف بامامته من علم بالأمر منه أو من أبيه،

و تحير بعض الموالين الذين استصغروا سنه،

و وقف آخرون من المعذورين الذين لم يسمعوا «النص من أبيه، و لا سمعوه من فيه، و لا سمعوه ينهل بلاغة و فصاحة حين قال - و هو ابن نيف و عشرين شهرا -:

«أنا محمد بن علي الرضا، أنا الجواد، أنا العالم بأنساب الناس في الأصلاب!.

أنا أعلم بسرائركم و ظواهركم و ما أنتم صائرون اليه!. علم منحنا به من قبل خلق الأولين و الآخرين.. - الي آخر قوله هذا، الذي ذكرناه في موضوع الافك المفتري - [39] .

هذا، و قد كان الناس - و أصحاب أبيه أيضا - يصارحونه باستصغار سنه



[ صفحه 161]



و كونه اماما بعد أبيه. و من ذلك قول علي بن سيف الذي رواه عن بعض أصحابنا من شيعته، حيث قال:

«قلت له: انهم يقولون في حداثة سنك!. - أي يتعجبون من امامة الصغير -.

فقال عليه السلام: ان الله أوحي الي داود أن يستخلف سليمان عليهماالسلام و هو صبي يرعي الغنم، فأنكر ذلك عباد بني اسرائيل و علماؤهم. فأوحي الله الي داود أن خذ عصا المتكلمين و عصا سليمان، و اجعلها في بيت و اختم عليها بخواتيم القوم. فاذا كان من الغد فمن كان عصاه قد أورقت و أثمرت فهو الخليفة.

فأخبرهم داود عليه السلام، فقالوا: رضينا و سلمنا» [40] .

و كان ذلك.. و تمت المعجزة، و كان الله غالبا علي أمره..

و لن نقول لمن يعجب من «امامة الصغير» الا ما قاله هو نفسه عليه السلام لعلي بن حسان حين قال له:

«يا سيدي، ان الناس ينكرون عليك حداثة سنك!.

فقال عليه السلام: و ما ينكرون من ذلك؟. فوالله لقد قال لنبيه صلي الله عليه و آله و سلم: (قل هذه سبيلي: أدعو الي الله علي بصيرة، أنا و من اتبعني). [41] فوالله ما تبعه الا علي عليه السلام و له تسع سنين.. و أنا ابن تسع سنين» [42] .

أي أنه لن يقول للمنكرين الا: من شاء فليصدق بمشيئة الله، و ليسلك سبيله، و من شاء فليكذب.. و سبيل الشيطان مشرعة!.

و أنه - و لو لم يعلمه أبوه، و لا رآه الا يوم حمل اليه الي خراسان و هو في الرابعة من عمره، ثم توفي عنه و هو في السابعة و أشهر - علمه وراثي، الهامي، و رؤيا صادقة، و نكت في القلب.. و قراءة علي كومبيوتر و الكترون من السماء.. من لدن من اصطفاه لكلمته!.

و سأدخل و اياك يا قارئي العزيز، الي مجلس قضاء في الدين، من مجالس ابن



[ صفحه 162]



التسع من السنين، مع أحد الأجلاء، - علي بن ابراهيم - ليكون لنا شرف القبول في مجلسه الكريم، فنستمع الي ما جري فيه. فقد روي هذا الرجل الثقة أن أباه قال:

«لما مات أبوالحسن، الرضا عليه السلام، حججنا، فدخلنا علي أبي جعفر عليه السلام - و كان في التاسعة من عمره، يقيم في دار الامام الصادق عليه السلام في موسم الحج، لأنها كانت دارا فارغة فارهة - و قد حضر خلق من الشيعة من كل بلد لينظروا الي أبي جعفر عليه السلام - قيل انهم كانوا ثمانين رجلا من العلماء و الفقهاء و الوجهاء، جلسوا علي بساط كبير متحلقين في ردهة الدار ينتظرون التشرف بمشاهدة الطلعة الميمونة - و دخل فيمن دخل عمه عبدالله بن الامام موسي الكاظم عليه السلام، و كان شيخا كبيرا نبيلا، عليه ثياب خشنة، و بين عينيه سجادة - علامة كثرة سجوده - فجلس في صدر المجلس و قام واحد علي رأسه فقال: هذا ابن رسول الله، فمن أراد السؤال فليسأل.

فسئل عن أشياء أجاب عنها بغير الواجب.

فاغتم الشيعة و اضطرب الفقهاء و هموا بالانصراف، و قالوا في أنفسهم: لو كان أبوجعفر يكمل لجواب المسائل لما كان من عمه عبدالله ما كان!.

ففتح عليهم باب من صدر المجلس و دخل موفق الخادم و قال: هذا أبوجعفر عليه السلام.

فقاموا بأجمعهم، و استقبلوه و سلموا عليه. فقام عبدالله و استقبله و قبل بين عينيه؛ و قامت الشيعة، وقعد أبوجعفر عليه السلام علي كرسي؛ و كان يلبس قميصين من قصب، و عمامة بذؤابتين، و في رجليه نعلان.. و جلس عمه بين يديه..

فنظر الناس بعضهم الي بعض تحيرا لصغر سنه.

فانتدب رجل من القوم قال لعمه عبدالله بن موسي:

أصلحك الله، ما تقول في رجل أتي بهيمة؟. - أي نكحها -.

فقال: تقطع يمينه، و يضرب الحد، و ينفي من الأرض سنة.

و قام رجل آخر فقال: ما تقول، آجرك الله، في رجل طلق امرأته بعدد نجوم السماء؟.



[ صفحه 163]



فقال عبدالله: بانت منه بصدر الجوزاء، و النسر الطائر، و النسر الواقع.

فتحيرنا في جرأته علي الخطأ.

فغضب أبوجعفر - الجواد - عليه السلام، ثم نظر اليه فقال:

يا عم اتق الله!.

انه لعظيم أن تقف يوم القيامة بين يدي الله عز و جل فيقول لك: لم أفتيت الناس بما لا تعلم و في الأمة من هو أعلم منك!.

فقال له عمه: يا سيدي، أليس قال هذا أبوك صلوات الله عليه؟.

فقال أبوجعفر: انما سئل أبي عن رجل نبش قبر امرأة فنكحها، فقال أبي: تقطع يده للنبش، و يضرب حد الزني - فان حرمة الميتة كحرمة الحية - و ينفي اذا كان عزبا، فلو كان محصنا لوجب عليه القتل و الرجم.

فقال: صدقت يا سيدي، و أنا استغفر الله» [43] .

و طار حكم عمه مع النسر الطائر.. الي صدر الجوزاء!. و طواه الفناء.

و تعجب الناس من ذلك، و استأذنوه فسألوه عن أسئلة كثيرة أجاب عليها في مجلسه ذاك. حتي أن علي بن ابراهيم قال:

«استأذن علي أبي جعفر عليه السلام من أهل النواحي، فأذن لهم. فدخلوا فسألوه في مجلس واحد عن ثلاثين مسألة، فأجاب و له عشر سنين» [44] .

فمن علم ابن السنين التسع؟.

و كيف عرف خطأ عمه؟.

و من أطلعه علي فتوي أبيه؟. و كيف وثب فكره اليها موضوعا و حكما؟.

و بأية جرأة يتربع ابن الأعوام التسعة علي سدة الافتاء و يصحح أخطاء مشايخ الفقهاء الذين تولوا القضاء بين الناس قبل مولده بعشرات السنين؟.



[ صفحه 164]



و من لقنه الأحكام في الحلال و الحرام، و الأموال، و الأعراض، و المواريث و غيرها و هو في نعومة الأظفار؟.

و كيف استوعب القرآن - تنزيلا و تأويلا - و عقل السنة و تصدر الحكم في الملة و هو - بعد - كزر الورد اذ يتفتح؟!!

استفهامات و استشكالات ترد.. و تدع الناس مشدوهين.. قاصرين عن ادراك سر محمد و أهل بيته صلوات الله عليه و عليهم.

و لكن.. لن نغادر المجلس قبل أن نستمع الي فتوي الامام الفتي بشأن من أتي البهيمة، فقد قال عليه السلام حين طلب منه البيان:

«يضرب دون الحد، و يغرم ثمنها، و يحرم ظهرها و نتاجها. و تخرج الي البرية حتي تأتي عليها منيتها، سبع أكلها، ذئب أكلها» [45] .

فما أجمل هذا المنطق البليغ الذي يتجلي في صدر حكمه و ختامه!.

(ذرية بعضها من بعض)! [46] لا يضاهيها أحد من العالمين.

و بعد: فأصغ معي الي جوابه عليه السلام بشأن المطلقة التي أبانها حكم عمه و طيرها عن زوجها في الهواء.

فقد قال عليه السلام للسائل: تقرأ القرآن؟.

قال: نعم.

قال: اقرأ قوله تعالي: (و أقيموا الشهادة لله).. [47] .

يا هذا، لا طلاق الا بخمس: شهادة عدلين، في طهر، من غير جماع، بارادة، و عزم.

يا هذا، هل تري في القرآن عدد نجوم السماء؟!.

قال: لا» [48] .

فبأبي و أمي الفتي الهمام الذي ينهل من نبع القرآن، فتتفجر ينابيع الحق



[ صفحه 165]



و الحكمة من قلبه.. ويحكم فلا معقب لحكمه، لأنه حكم الله تعالي من فوق سبع سماوات!.

و ستري من آياته و بيناته في مجالس المأمون و المعتصم و فقهائهما ما يدهش العلماء، و الفقهاء و الأمراء.

الامام - الجواد - عليه السلام معجزة في المعاجز..

و مهما مر بك - و يمر - من اعجازه و دلائل امامته يسير يسير بالنسبة لسفارة الله تعالي في عباده و خلافته في أرضه، اذا كنا ندرك معني هذه الخلافة، و تلك السفارة.

فمن يكن في مثل عمره من الطفولة، مهابا لدي مشيخة بني هاشم و أكابر علماء المسلمين - من أصحاب آبائه و أعدائهم - و موئلا لعظماء الفقهاء، و مرجعا يفي ء الي ظله الوارف شطر كبير من الأمة الاسلامية، و مفدي من الجميع بأنفسهم كلما خاطبوه، و محلا لخشية السلطتين: الدينية، و الدنيوية، يقض مضجع كل منهما - أقول: ان من كان كذلك، ليلفت النظر و يستدعي التأمل في حال واحدة قد تظهر نابية حين نجهل - أو نتجاهل - مركز «امامة» الناس التي افترضها الله سبحانه كما افترض مختلف طاعاته.. أما عندما نعترف بقدرة الله في ملكوته، و بحكمته و حسن تدبيره، فاننا نذعن لكل ما نزل من عنده.

و ان انكار مواهبه سبحانه لحججه في أرضه، كانكار مواهبه لرسله..

و هو كانكار أنه تعالي قادر أن يفعل ما يشاء كما يشاء..

هذا، و قد خلقنا سبحانه أحرارا، أفلا تكون له تعالي حرية الاختيار و الاصطفاء ممن خلق؟!.

أم أنه خلقنا أحرارا لتقودنا الحرية الي الاشتراط عليه تعالي أن يفعل ما يوافق أهواءنا؟!.



[ صفحه 166]



قد جاء في الخبر القدسي المأثور: «يا عبدي، أطعني تكن مثلي، تقول للشي ء: كن، فيكون».

و عندنا، أن «كن» هي لله تعالي وحده، دون سائر من كان.

فكيف يتسني للعبد المطيع - مهما بلغت اطاعته و ايمانه - أن يشرك الله تعالي فيها؟.

هذا اشكال وارد حقا.. و لكنه لا يشمل آيات الأنبياء، و معاجز الأولياء، و خوارق عمال الله حين يكشر الكفر عن وجهه و ينازل الخالق سبحانه، و يتحدي أولياءه.. فيظهر علي أيديهم فعل «كن» التي هي لله عز اسمه خاصة حيث يجريها - باسمه الأعظم - وفق ارادتهم فيبتدعون العجائب، و يأتون بالآيات البينات - اذا تحداهم الكفر و النفاق - فيحيون الموتي، و يشفون المرضي، و يكلمهم الحصي، و تشق عصاهم البحر، و يسخرون الرياح و العوامل الطبيعية و ينزلون العذاب علي من كفر و نافق، باذن الله. ذلك أنه سبحانه منحهم استجابة الدعاء، و تحقيق الرجاء، في أزمات لا بد فيها من تدخل السماء التي تأذن لهم باستعمال «كن» التي تصفع العناد و تصلح العباد!.

علي أنه لا يكون شي ء من هذا الا لالقاء الحجة البالغة علي الأمة الضالة، لتدمغها و تصرعها، كجعل النار بردا و سلاما علي ابراهيم، و كقلب مدائن لوط المؤتفكة، و كتمخض الصخرة عن ناقة صالح عليه السلام.. فهذه خوارق ترتب عليها ايمان أمة صالحة، أو احلال عذاب علي أمة طالحة كافرة.

فالله سبحانه و تعالي، يكون سمع عبده من هؤلاء المصطفين و بصره، و يكون لسانه الذي اذا لفظ «كن».. كان ما يشاء، بمشيئة ربه..

و هو لا يتخلي عن حجته و الدليل عليه، و لا يتركه دون حصانة «كن» التي هي من شأنه وحده، و التي لا تفعل فعلها علي يد عبده الا بارداته.. و الا، فان آل الله يصيرون عاديين، عاجزين عن اثبات دعوتهم التي تحتاج - دائما - الي برهان - معجز يكون من آيات «كن»..

ان لموظف الدولة حصانته الخاصة، و للعامل في المؤسسة كرامته التي هي من



[ صفحه 167]



كرامتها، بل للحاجب علي باب الوزير احترام ينبع من احترام الوزارة و يمنع الآخرين عن التعدي عليه.. ثم لا يكون سفير الله ذا حصانة؟!. و لا يكون محل عنايته و رعايته.. لئلا يبطل أمره؟!!

و هل من المعقول أن لا يجعله سبحانه بمرصد منه في كل مقام و مقعد؟!!

بلي، و لا جرم أن يكون عين الله الساهرة في خلقه، و لسانه الناطق بأمره، و يده الباطشة حين غضبه، و ارادته المطلقة التي تستطيع أن تقول للشي ء: «كن» - فيكون بأمره عز و علا.

و من غير المعقول أن يخذل الله تعالي عبده اذا هجم عليه الكفر و المكر ليردا كلمة الله و يطفئا نوره، كما أن الدولة لا تسكت عن مجرم اعتدي علي موظف عندها أثناء القيام بوظيفته لخدمتها..

فمن عجائب انتداب السماء فتي سفيرا لها، أنه:

كان يحيي بن أكثم قاضي القصر، و في منصب شيخ فقهاء العصر، يوم كان امامنا عليه السلام في التاسعة من عمره. و كانت له معه مناظرات فقهية ظهر فيها أمر الله و هم كارهون، و نصر عبده و خسر عندها المبطلون، و أخزي الله أعداء أهل البيت النبوي في مجلس الخليفة و العلماء و الوزراء و الأمراء و الأعيان.. فعرف الخليفة الحق كما عرفه قاضيه و الأعوان قبل غيرهم - كما ستري ذلك في موضوع تال - فشرقوا بريقهم و اجترضوا غصصا بقيت في لهواتهم.. و ظلوا ضائعين في حب الدنيا، و ضلوا ضلالا مبينا..

و في الحديث الشريف أن «من أطاع الله أربعين يوما، تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه». فكيف بمن فطره الله سبحانه علي الطاعة، فخلق مطيعا، و نشأ و نما مطيعا، ثم دب و درج و كبر طاهرا مطهرا بنص القرآن الذي هو من كلام الرحمان؟!.

قال تعالي: (انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس - أهل البيت - و يطهركم



[ صفحه 168]



تطهيرا) [49] فبرز في الآية الكريمة معني المشيئة السابقة بلفظة «يريد» و تأكدت ارادته سبحانه بلفظة «ان».. فكان أهل البيت عليهم السلام مطهرين من عند ربهم، بارادته المؤكدة في كتابه الكريم..

و قد قال الامام الصادق عليه السلام في تفسير الآية الكريمة: (.. يكاد زيتها يضي ء و لو لم تمسسه نار..): [50] .

«يكاد العلم يخرج من فم العالم من آل محمد قبل أن ينطق به.

و قال: (نور علي نور..) [51] معناه: الامام علي اثر الامام» [52] .

فلا عجب أن يكون الامام الجواد عليه السلام قد أوتي العلم صبيا.. و أنه امام مفترض الطاعة، «مكلف» - منذ صغره - بأن ينفي عن هذا الدين تحريف الضالين، و قول المبطلين، كيلا تضعف نبتة الاسلام الوارفة، و لئلا يجف نسغها، و ليهز أغصانها فيتناثر الورق الضعيف، و ليروي جذورها بما يثبت أركان الاسلام و أصوله، ليستمر اخضرار دوحة الدين كما شاء رب العالمين.

و ها كآبائه عليهم السلام، المرصودين لاصلاح ما فسد، و تقويم ما اعوج؛ يراقبون الحق و لا يمارون في الدين، و لا يمائلون الحاكمين، و لا يسايرون السلاطين الظالمين، و لا يخشون الا الله.. فينكرون الباطل - باللسان و باليد - فلا يثبت أمام حججهم قول متفيهق، و لا فأفأة متفلسف متعيلم، لأنهم ينطقون بحكم الله من فوق سبع سماوات..

فانظر الي أحد مجالس حكمه عليه السلام:

قد «قطع الطريق بجلولاء علي السابلة - أي المارين - من الحجاج و غيرهم، و انقطع حبل الأمن في المنطقة. فبلغ الخبر «المعتصم» أيام خلافته، فكتب الي



[ صفحه 169]



العامل الذي كان له بها: تأمن الطريق بأمر أميرالمؤمنين. و ان أنت ظفرت بالقطاع - اللصوص - فابعث بهم الينا، و الا تضرب ألف سوط، ثم تصلب بحيث قطع الطريق.

و طلبهم العامل بجد فظفر بهم. فكتب الي المعتصم الذي جمع الفقهاء و سأل ابن أبي داود، ثم سأل الآخرين عن الحكم فيهم - و الامام أبوجعفر، محمد بن علي الرضا عليه السلام حاضر -:

فقالوا: قد سبق حكم الله فيهم في قوله: (انما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله، و يسعون في الأرض فسادا، أن يقتلوا، أو يصلبوا، أو تقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف، أو ينفوا من الأرض) [53] - و لأميرالمؤمنين أن يحكم بأي ذلك شاء.

فالتفت المعتصم الي الامام عليه السلام، فقال: ما تقول فيما أجابوا؟.

فقال عليه السلام: قد تكلم هؤلاء الفقهاء و القاضي، بما سمع أميرالمؤمنين.

قال المعتصم: و أخبرني بما عندك.

فقال عليه السلام: انهم قد أضلوا فيما أفتوا به. و الذي يجب:

أن ينظر أميرالمؤمنين في هؤلاء الذين قطعوا الطريق، فان كانوا أخافوا السبيل فقط، و لم يقتلوا أحدا، و لم يأخذوا مالا، بايداعهم الحبس، فان ذلك معني نفيهم من الأرض باخافتهم السبيل.

و ان كانوا أخافوا السبيل، و قتلوا النفس، و أخذوا المآل، أمر بقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف، و صلبهم بعد ذلك.

فكتب المعتصم الي عامله بأن يمثل ذلك فيهم» [54] .

و نحن نتساءل: لم كان الخليفة - كل خليفة - لا يحكم بحكم قضاة قصره و فقهائه، قبل أن يسمع رأي امام زمانه؟!



[ صفحه 170]



و لم كان لا يعمل الا بحكم الامام دون أحكام قضاة قصره و فقهائه، و دون أن يعبأ برأي أحد من الناس؟!.

و مع ذلك، فما من خليفة الا احتبس امام زمانه في مكان اقامة جبرية، و ربما حمله الي عاصمة ملكه متي شاء!. ثم قتله متي أراد!.

فهل كان يحترمه و يجله، أم كان يخافه فيقصيه مرة و يقربه مرة أخري.. أم كان يحسب حسابا لبقية الناس؟!!.

لا هذا، و لا ذاك، يصح أن يكون جوابا.

و انما الجواب: أنه كان لا يحكم بغير حكم الامام لأنه - وحده - يعرف الحكم الحق، باعتراف وليه و عدوه.. و أن الخليفة الحاكم كان يخشاه أكثر ما يخشي من الناس، فيطلقه مرة خوفا من الله، و يحتبسه - أو يقتله - مرة أخري خوفا علي ملكه.

فلا تمار بحاكم مراء حسنا..

و لا تنفس علي الامام بما هو فيه!.

لأنك تخطي ء في الحالين..



[ صفحه 171]




پاورقي

[1] راجع الارشاد ص 297 و غيره من مصادر الكتاب.

[2] العلق - 4 و 5.

[3] الرحمن - 3 و 4.

[4] البقرة - 32 - 31.

[5] البقرة - 31 و 32.

[6] البقرة - 282.

[7] يوسف - 5.

[8] يوسف - 68.

[9] يوسف - 37.

[10] يوسف - 101.

[11] الأنبياء - 80.

[12] البقرة - 251.

[13] الأنبياء - 79.

[14] الكهف - 66.

[15] آل عمران - 47 و 48.

[16] آل عمران - 46.

[17] مريم - 20.

[18] المائدة - 110.

[19] الرحمن - 1 و 2 و 3.

[20] النساء - 113.

[21] النحل - 53.

[22] الأحزاب - 33.

[23] الشوري - 23.

[24] بحارالأنوار ج 16 ص 376.

[25] الزمر - 41.

[26] بحارالأنوار ج 17 ص 324.

[27] الكافي م 1 ص 261.

[28] المصدر السابق نفس الجزء ص 268 و ص 269.

[29] بحارالأنوار ج 26 ص 38 - 37.

[30] بحارالأنوار ج 26 ص 38 - 37.

[31] المصدر السابق نفس الجزء ص 50 و ص 54 مكررا بألفاظ متقاربة.

[32] الجن - 26 و 27.

[33] آل عمران - 179.

[34] الكافي م 1 ص 383 و ص 384.

[35] الكافي م 1 ص 383 و ص 384.

[36] المصدر السابق م 1 ص 284 و ص 285.

[37] عيون أخبار الرضا ص 170 - 169 و ص 363 و انظر ما روي عن الامام الصادق عليه السلام بهذا المعني في مناقب آل أبي طالب و في بحارالأنوار ج 27 ص 209 و ص 213 و ص 215 و ص 216.

و قد جاء في اعتقادات الصدوق: «اعتقادنا أن النبي صلي الله عليه و آله و سلم سم في غزوة خيبر علي يد يهودية قدمت له كتف شاة مسمومة أكل منها و ما زالت تلك الأكلة تعاوده حتي قطعت أبهره - وريد عنقه - فمات منها. و أن أميرالمؤمنين عليه السلام قتله عبدالرحمان بن ملجم لعنه الله، و الحسن عليه السلام سمته زوجته جعدة بنت الأشعث لاكندي بايعاز من معاوية، و الحسين عليه السلام قتله بنوأمية في كربلاء، و علي بن الحسين عليه السلام سمة الوليد بن عبدالملك، و محمد الباقر عليه السلام سمه ابراهيم بن الوليد، و جعفر الصادق عليه السلام سمه أبوجعفر المنصور، و موسي الكاظم عليه السلام سمه هارون الرشيد، و علي الرضا عليه السلام سمه المأمون، و محمد الجواد عليه السلام سمه المعتصم، و علي الهادي عليه السلام سمه المتوكل، و الحسن العسكري عليه السلام سمه المعتضد».

أنظر بحارالأنوار ج 27 ص 215 - 214 نقلا عن اعتقادات الصدوق ص 110 - 109.

[38] أنظر بحارالأنوار ج 50 ص 100 - 99 و الأنوار البهية ص 218 - 217.

[39] حلية الأبرار ج 2 ص 396 و بحارالأنوار ج 50 ص 108 و رجال الكشي تحت رقم 27 نقلا عن مشارق الأنوار، و انظر المصادر في مكان ايراد الخبر بتمامه.

[40] حلية الأبرار ج 2 ص 398.

[41] سورة يوسف - 108.

[42] حلية الأبرار ج 2 ص 398.

[43] بحارالأنوار ج 50 ص 89 - 88 و في ص 91 تفصيل واف، و هو في مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 383 - 382 الي ص 384 و الأنوار البهية ص 217 - 216 و حلية الأبرار ج 2 ص 399 و ص 401 و الاختصاص ص 102.

[44] المحجة البيضاء ج 4 ص 306 و قد ذكر هذا الخبر في كشف الغمة و أنه سئل عن ثلاثين ألف مسألة، و وقع في هذا الوهم كل من نقل عنه، و الخطأ غالبا من كثرة النسخ و النقل.

[45] أنظر المصادر السابقة لهذا الرقم.

[46] آل عمران - 34.

[47] الآية الكريمة في الطلاق - 2 و انظر المصادر السابقة.

[48] الآية الكريمة في الطلاق - 2 و انظر المصادر السابقة.

[49] الأحزاب - 23.

[50] النور - 35.

[51] بحارالأنوار ج 16 ص 356 و معاني الأخبار: التوحيد: 148: 9 و توحيد الصدوق ص 158.

[52] بحارالأنوار ج 16 ص 356 و معاني الأخبار: التوحيد: 148: 9 و توحيد الصدوق ص 158.

[53] المائدة - 33.

[54] حلية الأبرار ج 2 ص 418 - 417.