وفاة المأمون
و خرج المأمون عن عاصمته بغداد الي طرطوس [1] للتنزه و الراحة، و قد أعجبته كثيرا، و ذلك لما تتمتع به من المناظر الطبيعية، و أخذ يتجول في بعض متنزهاتها فراقه مكان فيها كان حافلا بالأشجار و المياه الجارية و عذوبة الهواء، فأمر أصحابه أن ينزلوا فيها، فنزلوا فيها، و نصبت لهم المائدة فجلسوا للأكل، و التفت المأمون الي أصحابه فقال لهم: ان نفسي تطالبني الآن برطب جني و يكون ازاذ [2] و بينما هم في الحديث اذ سمعوا قعقعة ركب البريد الواصل في بغداد، و فيه أربع كثات [3] من الخوص ملؤها رطب زاذ لم يتغير كأنه جني في تلك الساعة فقدمت بين يديه، و شعر من ذلك بقرب أجله المحتوم فكان يقول:
[ صفحه 251]
«ملكت الدنيا، و ذلت لي صعابها، و بلغت آرابي».
و كان يذكر وصول الرطب في أكثر أوقاته، و هو يقول: آخر عهدي بأكل الرطب، فكان كما قال: فقد ألمت به الأمراض و اشتدت به العلة، و كان نازلا في دار خاقان المفلحي، خادم الرشيد، و لما دنا منه الموت أمر أن يفرش له الرماد، و يوضع عليه، ففعل له ذلك، و كان يتقلب علي الرماد، و هو يقول: «يا من لا يزول ملكه، ارحم من زال ملكه» [4] .
و اشتد به النزع، و كان عنده من يلقنه فعرض عليه الشهادة، و كان ابن ماسويه الطبيب حاضرا، فالتفت الي من يلقنه قائلا:
«دعه فانه لا يفرق في هذه الحال بين ربه و ماني..».
و فتح المأمون عينيه، فقد لذعته هذه الكلمات، و قد أراد أن يبطش به الا أنه لم يستطع فقد عجز عن الكلام [5] ، و لم يلبث قليلا حتي وافاه الأجل المحتوم، و كان عمره (49 سنة) أما مدة خلافته فعشرون سنة، و خمسة أشهر و ثمانية عشر يوما [6] ، و يقول فيه أبوسعيد المخزومي:
هل رأيت النجوم أغنت عن المأمون
في ثبت ملكه المأسوس
خلفوه بعرصتي طرطوس
مثل ما خلفوا أباه بطوس [7] .
و كان عمر الامام أبي جعفر عليه السلام في ذلك الوقت يربو علي اثنين و عشرين عاما، و كان - فيما يقول المؤرخون - ينتظر موت المأمون بفارغ الصبر لعلمه أنه لا يبقي
[ صفحه 252]
بعده الا قليلا ثم يرحل الي جوار الله، و يفارق هذا العالم الملي ء بالفتن و الأباطيل، و قد قال:
«الفرج بعد وفاة المأمون بثلاثين شهرا..».
و لم يلبث بعد وفاة المأمون الا ثلاثين شهرا حتي توفي [8] و سنذكر ذلك في البحوث الآتية من هذا الكتاب.
و في نهاية هذا الحديث نود أن نبين أن المأمون أسمي شخصية سياسية و علمية من ملوك بني العباس فقد استطاع أن يتخلص من أشد الأزمات السياسية التي أحاطت به، و كادت تقضي علي ملكه و سلطانه و كان من ذكائه الخارق أنه تقرب الي العلويين و أتباعهم فأوعز الي أجهزة الأعلام بنشر فضل الامام أميرالمؤمنين عليه السلام علي جميع الصحابة كما رد فدكا الي العلويين، و عهد الي الامام الرضا عليه السلام بولاية العهد، و زوج الامام الجواد عليه السلام من ابنته ام الفضل، و لم يصنع ذلك عن ايمان أو اخلاص لأهل البيت عليهم السلام و انما صنع ذلك ليتعرف علي الحركات السرية و الأجهزة السياسية التي كانت تعمل تحت الخفاء للاطاحة بالحكم العباسي و ارجاع الخلافة الي العلويين.
لقد استطاع المأمون بعد هذه العمليات التي قام بها أن يتعرف علي الخلايا و ما تقوم به من النشاطات السياسية ضد الحكم العباسي و قد جهد قبله ملوك بني العباس أن يتعرفوا علي ذلك فلم يستطيعوا و لم يهتدوا الي ذلك بالرغم مما بذلوه من مختلف المحاولات التي كان منها التنكيل الشديد بأنصار العلويين و شيعتهم، و انزال أقصي العقوبات بهم، فانهم لم يصلوا الي أية معلومات عنهم، و لم يكشفوا أي جانب من جوانبهم السياسية.
[ صفحه 255]
پاورقي
[1] طرطوس: بلدة في أرض الشام - معجم البلدان.
[2] ازاذ: الرطب الجديد.
[3] كثات: لعل المراد منه المكتل من الخوص.
[4] الأنباء في تاريخ الخلفاء: 104.
[5] تاريخ ابن الأثير 5: 227.
[6] التنبيه و الاشراف: 404.
[7] أخبار الدول: 154.
[8] اثبات الهداة 6: 190.