بازگشت

تحرك المأمون علي واقع المستويات الثلاثة


انتهج المأمون سياسة المراحل في احتواء المستويات الثلاثة واجهاضها بحنكة ودهاء وبالشكل التالي:

1 ـ التصدي لمواجهة الثوّار الموالين لأهل البيت(عليهم السلام) وتصفيتهم عسكرياً، ففي أيامه خرج أبو السرايا وقويت شوكته ودعا الي بعض



[ صفحه 74]



أهل البيت (عليهم السلام)، فقاتله الحسن بن سهل، فكانت الغلبة لجيش المأمون وقتل أبو السرايا.

2 ـ احتواء التوجه الشعبي لأهل البيت (عليهم السلام).

لقد ابتكر المأمون وسيلة سياسية بارعة لاحتواء هذا التوجه وذلك ببيعة الإمام الرضا (عليه السلام) ولياً للعهد والتظاهر بموالاة أهل البيت (عليهم السلام) لتشويه هذا التوجه وامتصاصه.

وكان المأمون قد أنفذ إلي جماعة من آل أبي طالب، فحملهم اليه من المدينة وفيهم الرضا علي بن موسي(عليهما السلام)، فأخذ بهم علي طريق البصرة حتي جاؤوا بهم إليه، وكان المتولي لإشخاصهم المعروف بالجَلودي.

فقدم بهم علي المأمون فانزلهم داراً، وانزل الرضا عليّ بن موسي (عليهما السلام) داراً، وأكرمه وعظّم أمره، ثم أنفذ اليه:

أني أريد ان اخلع نفسي من الخلافة واُقلدك اياها فما رأيك في ذلك؟

فأنكر الرضا (عليه السلام) هذا الأمر وقال له:

«اعيذك بالله يا أمير المؤمنين من هذا الكلام، وأن يسمع به أحد».

فرد عليه الرسالة:

فإذا ابيت ما عرضت عليك فلا بد من ولاية العهد من بعدي.

فأبي عليه الرضا إباءً شديداً، فاستدعاه اليه وخلا به ومعه الفضل بن سهل ذو الرئاستين، ليس في المجلس غيرهم، وقال له: اني قد رأيت ان اقلدك أمر المسلمين، وأفسخ ما في رقبتي وأضعه في رقبتك. فقال له الرضا (عليه السلام):

«الله الله ـ يا أمير المؤمنين ـ انه لا طاقة لي بذلك ولا قوة لي عليه» قال له:

فإني موليك العهد من بعدي فقال له: أعفني من ذلك يا أمير المؤمنين.

فقال له المأمون كلاماً فيه كالتهديد له علي الامتناع عليه، وقال له في كلامه: إن عمر بن الخطاب جعل الشوري في ستة أحدهم جدك أمير المؤمنين علي



[ صفحه 75]



ابن أبي طالب وشرط فيمن خالف منهم ان تُضرب عنقه، ولا بد من قبولك ما اُريده منك، فإنني لا أجد محيصاً عنه، فقال له الرضا (عليه السلام):

«فإني اجيبك إلي ما تريد من ولاية العهد، علي انني لا آمر ولا أنهي ولا اُفتي ولا أقضي ولا اُوَلّي ولا اعزل ولا أغيّر شيئاً مما هو قائم» فأجابه المأمون إلي ذلك كله.

وقد كان الإمام (عليه السلام) مرغَماً علي قبول ولاية العهد أي أنه لم يكن له الخيار في رفضها فقد كان المأمون جادّاً في قتله لو تخلف عن قبول البيعة.

فعن الريان بن الصلت أنه قال:

دخلت علي علي بن موسي الرضا (عليه السلام) فقلت له: يا ابن رسول الله، ان الناس يقولون انك قبلت ولاية العهد مع إظهارك الزهد في الدنيا؟ فقال (عليه السلام):

«قد علم الله كراهتي لذلك فلمّا خيّرت بين قبول ذلك وبين القتل اخترت القبول علي القتل، ويحهم أما علموا ان يوسف(عليه السلام) كان نبياً رسولاً فلما دفعته الضرورة إلي تولّي خزائن العزيز قال له: (اجعلني علي خزائن الأرض أني حفيظ عليم) ودفعتني الضرورة إلي قبول ذلك علي اكراه وإجبار بعد الاشراف علي الهلاك، علي اني ما دخلت في هذا الأمر إلاّ دخول خارج منه، فإلي الله المشتكي وهو المستعان» [1] .

وروي عن أبي الصلت الهروي أنه قال:

«إن المأمون قال للرضا علي بن موسي (عليه السلام) يا ابن رسول الله قد عرفت فضلك وعلمك وزهدك وورعك وعبادتك وأراك احقّ بالخلافة منّي، فقال الرضا (عليه السلام): بالعبودية لله عزّوجل افتخر وبالزهد في الدنيا أرجو النجاة من شرّ الدنيا، وبالورع عن المحارم أرجو الفوز بالمغانم، وبالتواضع في الدنيا أرجو الرفعة عند الله عزّوجلّ.



[ صفحه 76]



فقال له المأمون: فإني قد رأيت ان اعزل نفسي عن الخلافة، وأجعلها لك وابايعك، فقال له الرضا (عليه السلام): إن كانت هذه الخلافة لك وجعلها الله لك فلا يجوز ان تخلع لباساً ألبسكه الله وتجعله لغيرك، وان كانت الخلافة ليست لك فلا يجوز لك ان تجعل لي ما ليس لك. فقال المأمون: يا ابن رسول الله لا بدّ لك من قبول هذا الأمر، فقال: «لست أفعل ذلك طائعاً أبداً». فما زال يجهد به أياماً حتي يئس من قبوله، فقال له: فان لم تقبل الخلافة ولم تحبّ مبايعتي لك فكن وليّ عهدي لتكون لك الخلافة بعدي. فقال الرضا (عليه السلام): والله لقد حدّثني أبي عن آبائه عن أمير المؤمنين عن رسول الله (صلي الله عليه وآله) أني أخرج من الدنيا قبلك مقتولاً بالسم، مظلوماً تبكي عليّ ملائكة السماء وملائكة الأرض، وأدفن في أرض غربة إلي جنب هارون الرشيد. فبكي المأمون ثم قال له: يا ابن رسول الله ومن الذي يقتلك أو يقدر علي الإساءة اليك وأنا حيّ؟ فقال الرضا (عليه السلام): أما اني لو أشاء أن أقول من الذي يقتلني لقلت.

فقال المأمون: يا ابن رسول الله إنما تريد بقولك هذا التخفيف عن نفسك، ودفع هذا الأمر عنك، ليقول الناس إنك زاهد في الدنيا.

فقال الرضا (عليه السلام): والله ما كذبت منذ خلقني ربّي عزّوجلّ وما زهدت في الدنيا للدنيا وإني لأعلم ما تريد.

فقال المأمون: وما اُريد؟ قال: الأمان علي الصدق؟ قال: لك الأمان. قال: تريد بذلك أن يقول الناس: إنّ علي بن موسي لم يزهد في الدنيا بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعاً في الخلافة؟

فغضب المأمون ثم قال: إنّك تتلقّاني أبداً بما أكرهه. وقد أمنت سطوتي، فبالله اُقسم لئن قبلت ولاية العهد وإلاّ أجبرتك علي ذلك فإن فعلت وإلاّ ضربت عنقك. فقال الرضا (عليه السلام): قد نهاني الله عزّوجلّ ان اُلقي بيدي إلي التهلكة، فإن كان الأمر علي هذا، فافعل ما بدا لك، وأنا أقبل ذلك علي أنّي لا اُوَلّي أحداً ولا أعزل أحداً ولا أنقض رسماً ولا سُنّة، وأكون في الأمر من بعيد مشيراً.



[ صفحه 77]



فرضي منه بذلك وجعله وليّ عهد علي كراهة منه (عليه السلام) لذلك» [2] .


پاورقي

[1] الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام): 141.

[2] الحياة السياسية للإمام الرضا(عليه السلام): 141.