بازگشت

اهل البيت والقيادة الرسالية


لم يستطع المأمون العبّاسي أن يحقّق نواياه الخفية في تسقيط شخصية الإمام الرضا(عليه السلام) واخراجها من القلوب العامرة بحب أهل البيت(عليهم السلام)، لأنّ الإمام الرضا(عليه السلام) استطاع أن يخترق العقول والنفوس علي مستوي اجتماعي عام، فتلألأت شخصيته العملية وتجلّت ذاته السامية للقريب والبعيد.

ولم يجد المأمون لنفسه طريقاً إلاّ أن يتخلّص من تواجد الإمام وحضوره الفاعل في الساحة الإسلامية من خلال تصفيته الجسديّة; لأن ترك الإمام ليرجع الي المدينة بعدما طار صيته وتلألأت شخصيته سوف يطيح بعرش المأمون والعباسيين بسرعة، وبقاؤه في عاصمة الخلافة لم يكن بأقل تأثيراً من إبعاده الي المدينة من حيث الآثار السلبية علي عرش المأمون والآثار الايجابية لصالح خط الإمام الرسالي.

والنقطة الثانية التي جدّ فيها العباسيون بشكل عام وتجلّت في سلوك المأمون السياسي بشكل خاص هي قلقهم من قضية الإمام المهدي الموعود والمنتظر الذي قد وعد الله به الاُمم ليرأب به الصدع ويلمّ به الشعث ويقضي به علي أعمدة الجور والطغيان، فالخطر الذي قد أنذر به الرسول(صلي الله عليه وآله) الحكّام الطغاة



[ صفحه 150]



وبشّر به المؤمنين والمستضعفين بدأ يقترب منهم، لما أفصح به النبي(صلي الله عليه وآله) من بيان نسب الإمام المهدي(عليه السلام) وموقعه القيادي حين نصّ علي أنه التاسع من ولد الحسين(عليه السلام) حتي ذكر اسمه واسم أبيه ومجموعة من صفاته وخصائصه وعلائمه.

ومثل هذا الإخبار من النبي(صلي الله عليه وآله) لا يدع الظالمين في راحة واطمئنان; لأن الرسول(صلي الله عليه وآله) مرتبط بالوحي ومسدّد من السماء، ولا تكون إخباراته سُديً.

ومثل هذا الإخبار من منجّم عادي أومحترف يكفي لزعزعة الاستقرار النفسي الذي يبحث عنه الحكّام الظالمون فكيف وهم يسمعون هذا الإخبار من نبي مرسل يدّعون الانتساب إليه؟!

ولا سيّما وهم يبحثون عن كلّ شيء لإحكام ملكهم ويحسبون لما يزعزعه ألف حساب، فكيف لا يتهيّؤون لدرء الخطر الداهم؟

والعدد الذي ذكره النبي(صلي الله عليه وآله) لأهل بيته الطاهرين المسؤولين عن حمل مشعل الرسالة عدد مضبوط محدود، فهم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش ومن بني هاشم وهم علي بن أبي طالب(عليه السلام) وأحد عشر من ولده الأبرار الأطهار.

وهاهو الرضا(عليه السلام) كان الثامن من الاثني عشر المنصوص علهيم من قبل الرسول(صلي الله عليه وآله) وهو الخامس من ولد الحسين(عليه السلام) فضلاً عن النصوص عليهم من سائر الأئمة الطاهرين.

ولا نستبعد وجود عناصر مرتبطة بالجهاز الحاكم كانت تحاول اختراق الجماعة الصالحة التي حرصت علي حفظ تراث أهل البيت(عليهم السلام) وعلومهم الربّانية والتي استودعوها اسرارهم، وهي الأسرار التي لا يتحملها إلاّ مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان.

والحكّام العباسيّون إن لم يستطيعوا السيطرة علي الجماعة الصالحة فلا أقل من اختراقها والحصول علي المعلومات التي تخدمهم للتعرّف علي الخط المناوئ لهم.



[ صفحه 151]



ومع شعورهم بقرب ولادة المهدي(عليه السلام) مع جهلهم بزمان ولادته وظهوره، لابد وأنهم يحاولون صد أهل البيت(عليهم السلام) من انجاب الإمام المهدي(عليه السلام) قبل كل شيء كما حدث لفرعون مع موسي النبي(عليه السلام).

ومن أجل تحقيق هذه المهمة والحيلولة دون ولادة من يقلقهم ذكره ووجوده شدّدوا المراقبة علي أهل البيت(عليهم السلام) ودخلوا الي أعماق حياتهم الشخصية فجعلوا الرقيب الخاص علي تصرّفاتهم كما يبدو من إصرار المأمون لتزويج ابنته اُم الفضل من الإمام الجواد(عليه السلام) بل حدّدوهم حتّي من حيث الزواج والانجاب، ويشهد لذلك قلّة عدد أبناء الأئمة(عليهم السلام) بعد الإمام الرضا(عليه السلام) بشكل ملفت للنظر،إذا ما قسناهم مع من سبق الإمام الرضا(عليه السلام) من الأئمة من حيث الأبناء والأزواج.

كما حاولوا طرح البديل عن الإمام المهدي المنتظر للاُمة الإسلامية بتسمية بعض أبنائهم بالمهدي والمهتدي تمويهاً وتغريراً لعامّة الناس بأنهم هم المقصودون بهذه النصوص النبوية. ولكن حبل الكذب قصير والحقيقة لابدّ أن تنجلي والطغاة لا يستطيعون أن يتظاهروا بمظهر الحق علي مدي طويل فلا يطول التظاهر منهم ماداموا غير متلبسين حقيقةً بلباس الحق ومادامت شخصيتهم لم تنشأ في بيئة طاهرة تتّسم بالحق وبالقيم الربّانية الفريدة.

ومن هنا نجد أن هذا التمويه لم يستطيع أن يحقق الغرض الذي من أجله ارتكبوه وهو التغطية علي حقيقة المهدي المنتظر(عليه السلام).

وتبقي الخطوة الأخيرة الممكنة لهم وهي أنهم إن لم يستطيعوا أن يحولوا بين أهل البيت(عليهم السلام) وبين انجاب الإمام المهدي(عليه السلام) ولا التمويه علي جمهور المسلمين فعليهم أن يكتشفوه، أي أنّ عليهم أن يترصّدوا ولادته ليقضوا عليه ويريحوا أنفسهم من هذا الكابوس الذي يُخيّم عليهم وهو كابوس المهدي المنتقم الذي يزعزع عروش الطغاة لا محالة.



[ صفحه 152]



نعم لا ضرورة للاعتقاد البات من قبل الخلفاء بهذه الحقيقة بل يكفي لديهم احتمالها ليبادروا لاتخاذ الاجراءات الصارمة أمام الخطر الداهم أو المحتمل الذي قد يحدق بهم عن قريب.

وهكذا كانت الساحة السياسية العامّة من جهة والحاجة العامة للمسلمين تتطلب بقاء الأمل كبيراً بانجلاء غياهب الجور والطغيان علي يدي الإمام القائم بالسيف من أهل بيت النبوّة والذي بشّر به الرسول(صلي الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرون. وكان من الضروري استمرار شعلة هذا الأمل والحيلولة دون انطفائها لأنها تهزّ عروش الظالمين والمستكبرين وتسلب الأمان والحياة الرغيدة منهم إن هذه المفردة حاجة واقعية للاُمة ومهمّة رسالية لأهل البيت(عليهم السلام) الذين لم تسمح لهم الظروف بالقيام بدور الإمام المهدي(عليه السلام) المرتقب، غير أنهم يستطيعون التمهيد لولادته ومن ثم بقائه حيّاً ليدبّر شؤون المسلمين من وراء ستار كيما تتهيأ له ظروف الثورة المباركة التي بشّر بها القرآن الكريم وأيّدتها نصوص الرسول العظيم.

وفي مقابل هذه الحاجة العامّة نجد محاولات العباسيين للحيلولة دون ولادة القائم المهدي من آل محمد(صلي الله عليه وآله) أصبحت جادّة وقوية وسريعة، لأن الخطر بدأ يقترب منهم. فالإمام الجواد ومن سيأتي بعده من الأئمة(عليهم السلام) بين مهمّتين: مهمّة حفظ الأمل الكبير واستمرار شعلته، ومهمّة التعتيم علي السلطة تجاه ولادة المهدي(عليه السلام) والحيلولة بينهم وبين الاقتراب من المهدي(عليه السلام) لئلاّ تناله أيديهم الأثيمة ولئلاّ يصادروا آخر قيادة ربّانية قد نذرت نفسها لله لتحمل لواء الحق وراية الإسلام المحمدي وتحقق كل آمال الأنبياء علي مدي القرون والأعصار، كما صادروا قيادة آبائه من قبل وأحكموا الحصار علي من تبقّي منهم.

وقد استطاع الأئمة من أهل البيت(عليهم السلام) فضح الحكّام المنحرفين من خلال سيرتهم المباركة التي شكّلت تحدّياً عملياً و علمياً وأخلاقياً صارخاً فاتّضحت



[ صفحه 153]



للاُمة جملة من الفواصل الكبيرة بين الخط الحاكم والخط الذي ينبغي له أن يتولّي شؤون الحكم والزعامة الإسلامية.

والاُمة لازالت بحاجة للتعرّف علي مزيد من الفواصل المعنوية بين الخطّين، كما أنها لابدّ أن تقف علي حقيقة الأقنعة الزائفة التي يقبع تحتها الحكّام الظالمون.

واستطاع المأمون أن يقترب من الإمام الجواد(عليه السلام) ويتقرّب منه شيئاً ما بتقريبه له وتزويجه لابنته لترصد تحركات الإمام ولتستطيع أن تمنعه من الانجاب منها [1] وممّن سواها، إذا كان ذلك مقصوداً للمأمون تحقيقاً لجملة من الأهداف التي لاحظناها في هذا البحث.

واستمرّ الحكّام من بعده علي نفس هذا المنهج الدقيق لأنّهم لا يرون بديلاً له بعد ما فضح المأمون نفسه باغتيال الإمام الرضا(عليه السلام) حيث تخلّص من رقيب كبير كان يهدد ملكه ولكنه قد اُبتلي برقيب جديد يفوقه في التحديوارغام اُنوف الظالمين.

ومن هنا كانت ظروف الإمام الجواد(عليه السلام) لا سيّما وهو في التاسعة من سني عمره، تشكل سؤالاً أسياسياً للمأمون أوّلاً ولعامة الناس ثانياً، ولبعض شيعة أهل البيت ثالثاً، والسؤال هو مدي جدارة هذا الصبي للقيام بمهمة الإمامة والقيادة الربانية المفترضة الطاعة التي لابد لها أن تخترق كل الحجب السياسية والاجتماعية الموجودة.

وهكذا كان الإمام الجواد(عليه السلام) حين تسلّمه زمام القيادة الرسالية أمام تساؤل كبير قد طرح نفسه لأوّل مرة علي مستويات ثلاثة، ولابدّ للإمام الجواد(عليه السلام) من



[ صفحه 154]



أن يثبت جدارته للجميع، وإن كان ذلك يكلّفه حياته فيما بعد; لأن بقاء هذا الخط الربّاني وإثبات حقّانية خط أهل البيت ورسالته الربانية هما فوق كل شيء. ومن هنا كان لابدّ للإمام الجواد(عليه السلام) أن يتصدّي للردّ علي كل هذه الأسئلة ويتحدّي كل القوي السياسية والعلمية التي تنطوي عليها الساحة الإسلامية ليتسني له القيام بسائر مهامّه الرسالية الاُخري في الحقلين العام والخاص معاً.

إذاً فقد كان إثبات الإمامة علي المستويين العام والخاص اُولي مهام الإمام الرسالية في مرحلته التي عاشها بعد استشهاد أبيه الإمام الرضا (عليه السلام) الذي كان قد نصّ عليه وعرّفه لأصحابه واتباعه ; لأنّ الإمام الرضا(عليه السلام) كان قد عاصر خطط المأمون وعرف عن كثب اهدافه الخفية من اُطروحة ولاية العهد الخبيثة والتي استطاع الإمام أن يستثمرها لصالح الإسلام رغم قصر الفترة الزمنية ورغم ما كلّفته من حياته الغالية والتي قدمها رخيصة في ذات الله تعالي.

وتأتي إجابات الإمام الجواد(عليه السلام) في المجالس العامة للخلفاء علي الأسئلة الموجّهة اليه خطوة موفّقة لإثبات أحقيّة خط أهل البيت(عليهم السلام) الرسالي وإثبات امامة محمد الجواد(عليه السلام) وجدارته العلمية وشخصيته القيادية لعامّة المسلمين إتماماً للحجة عليهم وعلي الخلفاء والعلماء المحيطين بهم.

وهي في نفس الوقت تشكّل تحدّياً عملياً للخلفاء وعلمائهم الذين كانوا يشكّلون الرصيد العلمي والخلفية الثقافية والشرعية في منظار مجموعة من أبناء المجتمع الذين نشأوا في مجتمع منحرف عن خط الرسالة المحمدية الأصيلة ممّن اغترّوا بالمظاهر والشعارات ولم ينفذوا بعقولهم الي عمق الأحداث والتيارات المتحكّمة في المجتمع الإسلامي آنذاك.

كما أنها كانت ردّاً علي محاولات التسقيط والاستفزاز التي كان يستهدفها الحكّام بالنسبة لأهل البيت(عليهم السلام) الذين كانوا يشكّلون المعارضة الصامتة والخطّ المخالف للخلفاء المستبدين بالأمر والمتربّعين علي كرسيّ الحكم دون إذن ونصّ الهي، كما هي عقيدة أهل البيت(عليهم السلام) بالنسبة للإمامة حيث إن الإمام(عليه السلام) لابد أن يكون معصوماً ومنصوصاً عليه من الله تعالي ورسوله.



[ صفحه 155]




پاورقي

[1] إذا كان الإنجاب مقصوداً للمأمون فاحتواء ابن الإمام من قبل العباسيين يكون أمراً ممكناً بل متوقعاً وإذا لم يكن الانجاب مطلوباً لهم فسوف تكون مهمة أبنة المأمون الحيلولة دون إنجاب الإمام(عليه السلام) من طرفها وممّن سواها كما تلاحظ ذلك في غيرتها وشكايتها لأبيها من الإمام الجواد الذي كان من الطبيعي في ذلك المجتمع أن يتزوج من أمة من الإماء بالرغم من وجود زوجة عنده مثل ابنة المأمون.