بازگشت

موقف المأمون من الامام الجواد


من الواضح ان حاكم المدينة المنورة - يومذاك - كان يرفع التقارير الي المأمون العباسي ضد الامام الجواد (عليه السلام) و التقارير التي يرفعها اعوان الظلمة لا تخلو من تهويل و مبالغة في الكذب و التهمة، و هم يعتبرون ذلك من وسائل التقرب الي الظالمين، بل من اسباب ترفيعهم في المناصب.

و يقرأ المأمون التقارير، و يعلم بالتفاف الناس حول الامام الجواد (عليه السلام) بعد ثبوت امامته لديهم و ظهور دلائلها عندهم.

و الآن.. لنرجع الي بغداد، لنري الخطة التي أعدها المأمون ضد الامام الجواد (عليه السلام):

لقد خطط المأمون تخطيطا آخر، للتلون بلون آخر، فقد كتب الي و الي المدينة يأمره بارسال الامام الجواد الي بغداد، ليكون تحت الرقابة المشددة، بعيدا عن مدينة جده رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) ممنوعا عن كل نشاط ديني؛

و وصل الامام الجواد (عليه السلام) الي بغداد، و هو في العاشرة او الحادية عشرة من العمر، ولكن قد تكاملت فيه صفات العظمة، و شروط الامامة، و توفرت فيه المؤهلات بجميع معني الكلمة.

و الظاهر أن الامام الجواد وصل الي بغداد بدون اعلام مسبق، و لا نعلم من الذي رافقه في رحلته من المدينة الي بغداد؟ و لا نعلم اين نزل الامام؟

و لعل الامام لم يجب أن يذهب الي بلاط المأمون ليلتقي به هناك،



[ صفحه 59]



فكيف - اذن - يتم اللقاء بالمأمون؟

كان الامام يعلم اليوم الذي يخرج فيه المأمون الي الصيد - لهوا و لعبا - و لهذا وقف (عليه السلام) في طريقه حين خروجه.. و كان في الطريق اطفال يلعبون.

و وصل موكب المأمون مع الخدم و الحرس و كلاب الصيد و صقوره، فتفرق الأطفال - الذين كانوا يلعبون في الطريق - اتقاءا من شر ذلك الموكب. ولكن الامام الجواد (عليه السلام) بقي في مكانه، لا يعبأ بذلك الموكب المحاط بالبذخ و الكبرياء.

و يجلب وقوفه انتباه المأمون.. فيتقدم اليه و يسأله لماذا لم يهرب مع من هرب؟!

و يجيبه الامام (عليه السلام) بأن الطريق لم يكن ضيقا حتي اوسعه، و لم ارتكب ذنبا حتي اخشي العقوبة!.

فتنكسر شخصية المأمون و يتصاغر أمام هذا الجواب الجري ء.

هنا.. تقول بعض الروايات: ان المأمون ترك الامام و خرج للصيد، و تقول رواية اخري: انه سأل الامام عن اسمه؟

فقال (عليه السلام): أنا محمد بن علي بن موسي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين علي بن أبي طالب.

يفتخر الامام بآبائه الأئمة الطاهرين الذين هم اشرف المخلوقين و اطهر الكائنات.

يفتخر بهذا النسب الأرفع الأقدس.. و حق له ان يتمثل بقول الفرزدق الشاعر:



[ صفحه 60]



اولئك آبائي فجئني بمثلهم

اذا جمعتنا - يا جرير - المجامع



.. و يتذكر المأمون ان هذا الفتي هو يتيم الامام الرضا (عليه السلام) و انه هو الذي ايتم هذا الشاب و حرمه من عواطف والده.

يتذكر ان هذا الفتي هو ضحية جرائم المأمون!!

و يترك المأمون الامام الجواد (عليه السلام) و يخرج من البلد للصيد. و هناك يطلق صقره فيطير و يحلق في الجو و يغيب في الغيوم المتراكمة، ثم يعود و في منقاره سمكة صغيرة فيها بقية من الحياة.. و يأخذ المأمون تلك السمكة و يعود الي البلد، و كأنه قد وصل الي آماله بصيد سمكة صغيرة و تحققت امانيه بهذا العمل الصبياني و هو يدعي انه خليفة المسلمين و الحاكم علي نصف الكرة الأرضية، و ينوه باسمه علي آلاف المنابر في الجمعات و غيرها!!

نعم.. هذا الرجل يخرج بذلك الموكب ليصيد سمكة صغيرة كأنه فقير لا يملك قوت يومه، و كأنه غير مسؤول عن شؤون المسلمين و تدبير امورهم!

و يمر المأمون من نفس الطريق الذي التقي فيه بالامام الجواد (عليه السلام) و قد قبض علي السمكة في كفه، فيتفرق من كان في الطريق الا الامام (عليه السلام) فانه يبقي في مكانه كما في المرة الاولي.

فيقول للامام: قل أي شي ء في يدي؟

فيقول (عليه السلام): «ان الغيم حين يأخذ من ماء البحر يداخله سمك صغار، فتسقط منه، فتصطادها صقور الملوك، فيمتحنون بها سلالة النبوة!!» [1] .



[ صفحه 61]



فيدهش ذلك المأمون و ينزل عن فرسه و يقبل رأس الامام (عليه السلام) [2] و يعرف أن هذا الفتي ليس كبقية الفتيان، بل انه ممتلي ء علما و حكمة و فصاحة و بلاغة و شجاعة و أنه الامام بالحق بعد ابيه الرضا (عليه السلام).

فيخطط المأمون بعد ذلك لتجميد هذه الشخصية التي يعتبرها خطرا عليه، و يقرر أن يزوجه ابنته ام الفضل التي كانت - يومذاك - صغيرة.

قامت القيامة علي العباسيين، الذين كانوا يومذاك أصحاب السلطة،



[ صفحه 62]



و رجال الدولة و يشكلون طائفة كبيرة، فقد قيل: ان الاحصائيات أجريت في ولد العباس - في عهد المأمون - فكانوا ثلاثا و ثلاثين الف نسمة! -.

ولكنهم لم يفهموا هدف المأمون من ذلك التزويج، و لم يعرفوا باطن الأمر، فظنوا أن الامام الجواد (عليه السلام) سوف يستلم زمام الحكم، و سوف يتقلص نفوذهم و تضعف امكانياتهم اذا تم زواج الامام الجواد بابنة المأمون.

و لهذا قاموا وقعدوا، و بذلوا محاولات كثيرة للحيلولة دون هذا الزواج، ولكن المأمون كان مصرا علي ذلك، و ما كان يستطيع أن يقول لهم: ان هذه خطة ضد الامام الجواد، و لعله كان يستعين بالكتمان في قضاياه السياسية.

و أخيرا، تم عقد النكاح - ذلك النكاح المشؤم - و صارت ابنة المأمون في حبالة الامام الجواد (عليه السلام).

و صرف المأمون أموالا طائلة في جو من البذخ و الترف في اقامة حفلة القران. و لم يكن الامام الجواد (عليه السلام) راضيا بتلك التشريفات - البعيدة عن الزهد و بساطة العيش - ولكن الأمر كان خارجا عن اختياره و لم يكن مسؤولا عن ذلك الاسراف و التبذير.

و ستأتي تفاصيل تلك الحفلة في حرف الراء في ترجمة الريان بن شبيب.

و بالرغم من ان الامام الجواد (عليه السلام) كان صهرا لخليفة ذلك الزمان - و ذلك يقتضي ان تكون حياته حياة راحة و رفاه و رخاء و غني - فانه (عليه السلام) لم يكن سعيدا بذلك، لأنه كان يعيش بين الأعداء الألداء، و الحساد الأشداء الذين كانوا ينزعجون من وجوده (عليه السلام).



[ صفحه 63]



فالخلفاء لا يعجبهم الامام الجواد لأنه لا ينسجم معهم في الفكر و العقيدة و العمل، فالامام الجواد مثال القدس و التقوي و الورع، يتجسد فيه الاسلام الصحيح، و الدين النزيه، بينما الخلفاء كانوا لا يعرفون شيئا سوي الملذات، و لا يهتمون الا باشباع رغباتهم و نزواتهم و شهواتهم، من الجواري و الغلمان و المغنيات، و السكر المتواصل ليلا و نهارا، و بذل الاموال للشعراء الذين كانوا يسرفون في مدح الخلفاء، و يتجاوزون حدود الغلو و الكذب.

او للمضحكين الذين كانوا يضحكون الخليفة بأزيائهم أو قصصهم أو هجائهم بعضهم بعضا.

و أما القضاة و فقهاء البلاط العباسي فكانوا ايضا لا يرتاحون من وجود الامام الجواد (عليه السلام).

فهذا كبيرهم: يحيي بن اكثم - الذي كان قاضي القضاة، و معني ذلك أنه أعلم الناس بالفقه و القضاء، و هو الذي كان ينصب القضاة في البلاد الاسلامية - كان يصغر و تتضاءل شخصيته أمام عظمة الامام الجواد (عليه السلام) بل و يظهر جهله حينما يطرح الامام عليه مسألة فقهية، و تعلوه علامة الارتباك و العجز و الاضطراب، و يخجل أمام الناس.

فهل يرتاح هذا و أمثاله من الامام الجواد (عليه السلام) الذي كان أعلم أهل السموات و الأرض في ذلك العصر؟!

و من الطبيعي أن هؤلاء الحساد ما كانوا يسكتون أمام تلك الفضائل التي كان الامام الجواد يتمتع بها، و لا يتركون المشاغبات و المضايقات ضد الامام، و لهذا تري الامام الجواد (عليه السلام) يضيق ذرعا من تلك الظروف فيقول: «الفرج بعد المأمون بثلاثين شهرا».



[ صفحه 64]



انه (عليه السلام) يعتبر الموت فرجا و راحة له من تلك الحياة المحفوفة بالمكاره، و يخبر الناس انه يموت بعد انقضاء سنتين و نصف علي موت المأمون.

و هنا ينقطع بعض حلقات التاريخ... و تنقضي الايام و يعود الامام الجواد الي المدينة المنورة، و تنقضي سنوات و يبلغ الامام من العمر ثمانية عشر سنة، ثم يعود الي العراق في الوقت الذي كان المأمون عازما علي غزو بلاد الروم، و قد وصل الي مدينة تكريت، و وصل الامام الجواد الي تكريت.

قال الطبري في تاريخه ج 8 ص 623 في حوادث سنة 215:

فلما صار المأمون الي تكريت قدم عليه محمد بن علي بن موسي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب (رحمه الله) من المدينة، في صفر ليلة الجمعة من هذه السنة، ولقيه بها، فأجازه و أمره أن يدخل بابنته ام الفضل، و كان زوجها منه، فادخلت عليه في دار أحمد بن يوسف التي علي شاطي ء دجلة فأقام بها، فلما كان أيام الحج خرج بأهله و عياله حتي اتي مكة ثم أتي منزله بالمدينة فأقام بها.


پاورقي

[1] اقول: ليس في كلام الامام الجواد (عليه السلام) ما يدعو الي الاستغراب، و قد رأينا في زماننا في العراق - مرات عديدة - أن السماء امطرت مئات الألوف - بل الملايين - من الضفادع، و كانت كل ضفدعة علي حجم البندقة او اكبر منها.

و في هذه السنة بالذات - 1406 ه - أمطرت السماء في مدينة شادكان - في محافظة خوزستان جنوب ايران - ملايين الضفادع، و امتلأت بها البيوت و البساتين و غيرها.

و علي كل حال.. فهذا امر واقع و حقيقة ثابتة، و ليست نظرية حتي يمكن تكذيبها أو التشكيك فيها.

و يمكن ان يقال - في مقام التحليل -: ان الزوابع - جمع زوبعة، و هي هيجان الرياح في الأرض و تصاعدها بصورة مستديرة - تسير بصورة سريعة و تحمل الغبار و ترتفع الي السماء كالعمود. فاذا هبت الزوابع علي الشطوط و البحار، فانها تحمل السحب و الحيوانات المتواجدة علي الماء - من السمك الصغار و الضفادع - و تصعد بها الي الجو، فتبقي بين طيات السحب المتكاثفة، و يمكن ان يعيش السمك بين اطباق الغيوم، لأنها ابخرة الماء.

هذا.. و الروايات: - فيما اجاب به الامام الجواد (عليه السلام) المأمون - متعددة و مختلفة، و قد اخترنا اقربها الي العقل.

[2] مفتاح الفلاح للشيخ البهائي ص 177.