بازگشت

الامام و العصر و الخلفاء


ولد الامام الجواد (عليه السلام) في مرحلة غاية في التوتر و الحساسية و القلق من حيث الزمان و من حيث المكان و من حيث الشرائط..

ففي بداية حياته الشريفة كان القتال العائلي العباسي حيث قتل عبدالله المأمون أخيه الأمين و استولي علي السلطة و الحكم في الدولة الاسلامية.. و أريقت دماء، و كانت بلابل و مشاكل كادت أن تطيح بالدولة العباسية من أساسها.. و بذلك نقلت عاصمة الدولة الي خارج المنطقة العربية.. و لأول مرة بحيث نقلت من بغداد الي (مرو) في بلاد خراسان - ايران حاليا - الا أنها أعيدت الي بغداد بعد استقرار الحكم للمأمون العباسي..

فبعد العاصفة لابد من الهدوء النسبي.. و بعد القتال لابد من لملمة الجراح و دفن القتلي.. و الذي يقتل أخاه من اجل الحكم فانه علي استعداد علي أن لا يبقي و لا يذر.. فالملك عقيم كما زعموا..

و القتال بين الأقارب صعب، و بين الأخوة مستصعب.. لأن الجراح تكون في النفس و القلب بين القاتل و المقتول.. و قيل ان هذا ما سبب نقمة العائلة العباسية علي عبدالله المأمون، حيث قتل أخاه الأمين و قطع رأسه و علقه علي باب القصر و أمر المارين بالتفل عليه.. و استمر ذلك الي أن مر أحدهم فتفل عليه و شتمه بقوله: (لعنك الله و والديك) فقال المأمون كفانا ذلك أنزلوه..

و كأنه استفاق من غفلته بهذه اللعنة و تذكر أن هذا المعلق هو أخوه..

و منهم من أرجع سبب تقريب الامام علي الرضا (عليه السلام) و الامام محمد الجواد (عليهماالسلام) و هما عمدة البيت العلوي من قبل المأمون العباسي هو نكاية العباسيين..

فقالوا انه راح يقرب العلويين ليكونوا له عونا و سندا ويدا عوضا من أولئك الخونة - بنظره - لأنهم وقفوا الي جانب الأمين قبل ذلك..

الا أنه عند التحقيق لم يكن كذلك فان المأمون العباسي كان ذكيا و مثقفا بالنسبة الي سائر العباسيين و كان أعلمهم بالأمور و بكيفية السيطرة علي الحكم، و قد عرف أن الناس قد استاؤوا من سلطان العباسيين و من كثرة ظلمهم و مالوا الي بني علي (عليهم السلام) و عرفوا بعض منزلتهم، فأراد المأمون أن يمتص هذه الظاهرة لصالحه فاستدعي الامام (عليه السلام) حتي يكون تحت نظره المباشر، و يصور للناس بأنه محب للامام (عليه السلام)، و من



[ صفحه خ]



هنا رفض الامام حتي أجبر علي القبول، فوضع عبدالله المأمون ولاية العهد في عنق الامام علي الرضا (عليه السلام).

و عندما استتب له الوضع و هدأت النفوس و قوي سلطانه من جديد.. احتال علي قتل ولي عهده! الامام الرضا (عليه السلام) فدس اليه السم حتي قضي نحبه مسموما شهيدا غريبا..

و من أهم ما عمله الامام الرضا (عليه السلام) أنه لم يعط أي تأييد للحكومة العباسية و لا منحها أية شرعية في ذلك، فلم ينصب أحدا و لم يعزل، و لم.. و لم..

و هكذا كان الأمر بالنسبة الي الامام الجواد (عليه السلام) أيضا...

فالمأمون العباسي من خبثه و ذكائه و معرفته بمقام الامام (عليه السلام) و عظمته و شرفه و مكانته عند الناس، استدعاه من المدينة المنورة الي عاصمته بغداد ليكون قريبا من الحاكم و تحت نظره المباشر.

الا أن المأمون العباسي شغف - مكرا و خدعا - بالامام الجواد (عليه السلام)، لما رأي من فضله و نبله و علمه مع صغر سنه.. و بلوغه في العلم و الحكمة و الأدب و كمال العقل ما لم يساويه فيه أحد من أهل ذاك الزمان.. فقربه و زوجه بابنته المدللة (أم الفضل زينب) و كان له من المعارضة العباسية بهذا الشأن قصص، لأنهم ما كانوا يعرفون سوء قصد المأمون في ذلك.

فقد ذكر المؤرخون أنه عندما عزم المأمون العباسي علي تزويج الامام محمد بن علي الجواد (عليهماالسلام) من ابنته اعترضه العباسيون اعتراضا شديدا خوفا من انتقال الخلافة الي بني فاطمة (عليهاالسلام).

فاجتمع من أهل بيته الأدنون و قالوا له: نناشدك الله يا أمير.. ألا تقدم علي هذا الأمر الذي عزمت عليه من تزويج (ابن الرضا) (عليهماالسلام) فانا نخاف أن يخرج منا أمر قد ملكناه الله عزوجل!.. و ينزع منا عزا قد ألبسناه الله!.. و قد عرفت ما بيننا و بين هؤلاء القوم قديما و حديثا.. و قد كنا من خشية من عملك مع الرضا (عليه السلام) فكفانا الله الهم في ذلك..

فالله الله أن تردنا الي غم قد انحسر عنا..

فقال لهم المأمون - و هو يكمن ما في قلبه من الحقد ضد أهل البيت (عليهم السلام) -: أما ما بينكم و بين آل أبي طالب فانتم السبب فيه و لو أنصفتم القوم لكانوا أولي بكم.. و أما ما كان يفعله من قبلي بهم فقد كان قاطعا للرحم.. و أعوذ بالله من ذلك.. و الله ما ندمت علي ما كان مني من استخلاف الرضا (عليه السلام) و لقد سألته أن يقوم بالأمر



[ صفحه ذ]



و أنزعه من نفسي فأبي و كان أمر الله قدرا مقدورا! [1] و أما أبوجعفر محمد بن علي (عليهماالسلام) فقد اخترته لتفوقه علي أهل الفضل كافة في العلم و الثقافة مع صغر سنه.. و أنا أرجو أن يظهر للناس ما قد عرفته منه فتعلمون أن الرأي ما رأيت فيه..

فقالوا: و بئس ما قالوا: ان هذا الفتي و ان راقك منه هديه فانه صبي و لا معرفة له و لا فقه.. فأمهله ليتأدب ثم اصنع ما تراه بعد ذلك..

فقال لهم المأمون: ويلكم اني أعرف بهذا الفتي منكم، و ان أهل هذا البيت علمهم من الله تعالي و لم يزل آباؤه أغنياء في علم الدين و الأدب عن الرعايا الناقصة.. فان شئتم فامتحنوا أباجعفر بما يثبت لكم به ذلك..

قالوا: قد رضينا بذلك، فخل بيننا و بينه من يسأله بحضرتك عن شي ء من فقه الشريعة فان أصاب لم يكن لنا اعتراض و ظهر للخاصة و العامة سديد رأي الأمير.. فيه، فان عجز عن ذلك فقد كفينا الخطب منه..

فرضي المأمون بذلك.. و أعطاهم موعدا للقاء..

و اجتمع رأيهم علي (يحيي بن أكثم) قاضي قضاة الديار الاسلامية في ذلك العهد أن يسأل الامام الجواد (عليه السلام) عن المسائل الغامضة في الفقه الاسلامي.

و حان الموعد و اجتمع الناس.. و جاء الامام الجواد (عليه السلام) و حضر ابن أكثم.. و جلس يحيي بن أكثم بين يديه و المأمون بجانب الامام (عليه اللام).. فالتفت ابن أكثم الي المأمون و قال: يأذن لي أمير.. أن أسأل أباجعفر عن مسألة؟

فقال المأمون: استأذنه في ذلك..

فأقبل عليه يحيي بن أكثم قائلا: جعلت فداك.. تأذن لي في مسألة؟

قال أبوجعفر (عليه السلام): سل ما شئت..

قال يحيي: ما تقول - جعلت فداك - في محرم قتل صيدا؟

فقال الامام أبوجعفر (عليه السلام):

قتله في حل أو في حرم؟

عالما كان أو جاهلا؟

قتله عمدا أو خطأ؟

حرا كان المحرم أو عبدا؟



[ صفحه ض]



صغيرا كان أو كبيرا؟

مبتدئا بالقتل أو معيدا؟

من ذوات الطير كان القتل أو من غيرها؟

من صغار الطير أو من كبارها؟

مصرا علي ما فعل أو نادما؟

في الليل كان قتله للصيد أو في النهار؟

محرما كان بالعمرة اذ قتله، أم بالحج كان محرما؟...

فتحير يحيي بن أكثم و بان في وجهه العجز و الانقطاع.. و لجلج حتي عرف الحاضرون أمره..

فقال المأمون: الحمدلله علي هذه النعمة و التوفيق لي في الرأي..

ثم توجه الي أهل بيته فقال لهم: أعرفتم الآن ما كنتم تفكرونه؟

ثم أقبل علي أبي جعفر (عليه السلام) فقال له: أتخطب يا أباجعفر؟

فقال له: نعم..

فقال له المأمون: اخطب لنفسك - جعلت فداك - قد رضيت لنفسي و أنا مزوجك (أم الفضل) ابنتي و ان رغم قوم لذلك..

فقال أبوجعفر (عليه السلام): الحمدلله اقرارا بنعمته.. و لا اله الا الله اخلاصا لوحدانيته.. و صلي الله علي محمد سيد بريته و الأصفياء من عترته أما بعد:

فقد كان من فضل الله علي الأنام أن أغناهم بالحلال عن الحرام فقال سبحانه: (و انكحوا الأيامي منكم و الصالحين من عبادكم و امائكم ان يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله و الله واسع عليم) [2] ثم ان محمد بن علي بن موسي (عليهم السلام) يخطب أم الفضل بنت عبدالله المأمون و قد بذل لها من الصداق مهر جدته فاطمة بنت محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) و هو خمسمائة درهم جيادا، فهل زوجته يا مأمون بها علي هذا الصداق المذكور؟

فقال المأمون: قد زوجتك يا أباجعفر أم الفضل ابنتي علي الصداق المذكور فهل قبلت النكاح؟

فقال أبوجعفر (عليه السلام): قد قبلت ذاك و رضيت..

و بعد الاحتفال بالزواج.. سأل المأمون الامام الجواد (عليه السلام) عن الجواب عن



[ صفحه غ]



السؤال و تفريعاته كلها.. فأجاب الامام (عليه السلام) بكل دقة و وضوح عنها جميعا..

فقال المأمون: أحسنت يا أباجعفر.. أحسن الله اليك.. فان رأيت أن تسأل يحيي بن أكثم مسألة كما سألك..

فسأله الامام (عليه السلام) مسألة داخ منها و لم يدر ما يقول.. و ستجدها و غيرها مفصلة في هذا الكتاب في محله باذن الله.

و بعد انتهاء المجلس.. التفت المأمون الي المجتمعين قائلا:

ويحكم ان أهل هذا البيت خصوا من الخالق بما ترون من الفضل، و ان صغر السن فيهم لا يمنعهم من الكمال.. أما علمتم أن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) افتتح دعوته بدعاء أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) و هو ابن عشر سنين.. و قبل منه الاسلام و حكم له به.. و لم يدع أحد في سنه غيره.. و بايع الحسن و الحسين و هما ابنان دون الست سنين.. و لم يبايع صبيا غيرهما.. أو لا تعلمون ما اختص الله به هؤلاء القوم؟

و انهم ذرية بعضها من بعض يجري لآخرهم ما يجري لأولهم..

فقالوا: صدقت يا أمير.. [3] .

و الدروس.. و العبر من هذا الحدث و الحديث الشيق.. و النقاط المضيئة فيه هي كثيرة الا أننا نلمع الي بعض منها فقط.

1: الامام الجواد (عليه السلام) هو محط الأنظار في العالم الاسلامي كله.. و مهبط قلوب المؤمنين في شرق الأرض و غربها.. و الحاكم العباسي عبدالله المأمون يعرف ذلك جيدا و يعترف به أمام الجميع.

2: عبدالله المأمون العباسي كان يعرف أولياء الله من العترة الطاهرة، و يعرف قدرها و عظيم شأنها و أنها أحق الناس بالناس.. الا أن الملك عقيم.. قال تعالي: (و جحدوا بها و استيقنتها أنفسهم ظلما و علوا) [4] .

3: العداء واضح بين العباسيين و العلويين (قديما و حديثا) كما اعترفوا بذنبهم.. و التاريخ حدثنا الكثير من خياناتهم كبارا و صغارا لأئمتهم من آل علي (عليهم السلام) و هم أعلم الناس بحقيقتهم و وجوب طاعتهم.. فحقدهم دفين و حسدهم جلي لكل متتبع..

و قد اعترف المأمون العباسي حيث قال للعباسيين: بأنهم لم يكونوا منصفين مع



[ صفحه ظ]



سادتهم.. و أنهم قطعوا أرحامهم و لم يصلوها فكان الذي كان..

4: الفكرة الخاطئة التي حاولوا اقناع أنفسهم بها و هي أن الله أعطاهم أو أن الله اختارهم ليكونوا قادة و سادة أو أمراء.. أو ما أشبه ذلك..

5: فضل الامام و علو قدمه علي الجميع، و بحر علمه الذي لا ينضب.. و دمائة أخلاقه، و سعة صدره و كأنه ينبئك عن الامام علي (عليه السلام) أو حتي عن رسول الله محمد (صلي الله عليه و آله و سلم).

و هل بذلك غضاضة أو شطط؟ لا.. فالولد سر أبيه.. و من كان أبوه عليا وجده عليا.. فيحق له أن يكون في سماء الفضائل و القيم بدرا مضيئا يتلألأ في دنيا الانسانية..

و من خلال الكتاب سوف تري العجب العجاب من هذا الفتي العلوي العظيم.. و ما ذا بعد..؟

و بعد اعلان الزواج المبكر.. فالامام تزوج و هو في الخامسة عشر من عمره الشريف، فاحتفي الحاكم العباسي المأمون بالامام الجواد (عليه السلام) أي احتفاء..

و بقي الامام محمد الجواد (عليه السلام) في بغداد مدة غير قليلة.. الا أنه (عليه السلام) لم يكن يرضيه التنعم في القصور العباسية تاركا أمور شيعته خاصة.. و الأمة الاسلامية عامة الدينية و الدنيوية وراء ظهره.. فانه (عليه السلام) ما كان ليقيم في بغداد لولا الضغوط الشديدة عليه.. و هذا واضح من رواية أحدهم حين يقول..

دخلت عليه (عليه السلام) في بغداد ففكرت فيما هو به من نعم.. و قلت في نفسي: ان هذا الرجل لا يرجع الي موطنه أبدا.. فأطرق رأسه ثم رفعه و قد اصفر لونه فقال:

يا حسين خبز الشعير و ملح جريش في حرم رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) أحب الي مما تراني فيه..

و ما ان لاحت الفرصة للامام الجواد (عليه السلام) حتي يستأذن عبدالله المأمون بالعودة الي مدينة جده رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) فوافقه علي ذلك و ودعه وداعا حارا مع ابنته أم الفضل (زينب).

و مر الامام (عليه السلام) بالكوفة و غيرها و استقبل في كل بلدة يمر بها أجمل استقبال.. و هكذا الي أن وصل الي حرم جده رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) فأقام فيها عاملا عالما.. مجاهدا.. معززا.. مكرما..

و توفي المأمون بشهر رجب سنة 218 للهجرة بقرية طرسوس علي الحدود الفاصلة بين الدولة الاسلامية و الدولة الرومانية.. و دفن هناك بعد أن أوصي الي أخيه (المعتصم)



[ صفحه أأ]



بتصدي الحكومة، و كان من جملة ما أوصاه ببني عمومته العلويين و ذلك حفظا للظاهر و خوفا علي سلطان بني عباس اذا أخذوا يحاربون أهل البيت (عليهم السلام).. فقال مما قال له:

(هؤلاء بنو عمك من ولد أميرالمؤمنين علي (عليه السلام) فأحسن صحبتهم و تجاوز عن مسيئهم، و أقبل عليهم و لا تترك صلاتهم في كل سنة عن محلها فان حقوقهم تجب من وجوه شتي..).

و أخذ المعتصم يوطد حكمه.. و يرتب أمور دولته بما يضمن قوتها.. و كان الهاجس الوحيد المرعب هو الامام محمد بن علي (عليهماالسلام) فهو الخطر الحقيقي له و لدولته.

فهو صهر الحاكم الراحل.. و سيد أهل البيت العلوي.. و امام الشيعة و قد أصبحوا قوة جبارة معلنة الولاء للامام (عليه السلام) علي رؤوس الأشهاد..

اذا قد يشكل خطرا علي المستقبل بل و ربما علي الحاضر أيضا..

فأحضره مرة أخري من المدينة المنورة الي عاصمته بغداد ليكون تحت أنظار الحاكم العباسي مباشرة.. و مراقبته الشخصية له و لتحركاته كافة..

و كان ذلك في 28 محرم عام 220 ه و بقي فيها الي أن دس المعتصم السم اليه فوافاه الأجل الذي لا راد له، شهيدا مسموما..


پاورقي

[1] هذا و قد سبق أن المأمون هو الذي قتل الامام بالسم.

[2] سورة النور: 32.

[3] راجع الاحتجاج للطبرسي: ج 2 ص 245.

[4] سورة النمل: 14.