بازگشت

وداع و رسائل توجيهية..


عندما بلغ الامام الجواد (عليه اللام) الخامسة من عمره الشريف.. استدعي الحاكم العباسي عبدالله المأمون.. الامام علي الرضا (عليه السلام).. الي عاصمته الجديدة (مرو).. و لم يكن هناك أي مجال للاعتذار أو التخلف.. و كان ذلك في عام 200 للهجرة الشريفة..

و أراد الامام الرضا (عليه السلام) الرحيل الا أنه يعلم علم اليقين أن لا عودة الي تلك البقاع الطاهرة.. بعد ذهابه الي عاصمة الحكومة الجديدة، لا حيا و لا ميتا فهو غريب و مدفون في ارض غربة، روحي فداه من غريب بعيد ما أغربه.



[ صفحه ص]



فودع جده رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) و الآل الكرام و صحابته العظام و توجه لوداع بيت الله الحرام.. فأخذ بيد صغيره الكبير و الوحيد الامام محمد الجواد (عليه السلام) و قصد مكة المكرمة لتجديد العهد و الحج لبيت الله الحرام..

و هو آخر حج له.. و ربما بحجة الوداع تأسيا بحجة جده رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) الذي نصب بعد الانتهاء منها علم الأمة وراية الصدق و لواء الامامة العادلة و سلمه الي أميرالمؤمنين الامام الأعظم علي بن أبي طالب (عليه السلام) و ذلك في عيد غدير خم كما هو مشهور و مشهود في التاريخ كله..

و كذلك الامام علي الرضا (عليه السلام) بعد أن حج حجه الأخير سلم الراية و المواريث الي الامام الفتي محمد بن علي الجواد (عليهماالسلام) و غادر الي العاصمة العباسية الجديدة (مرو).. و بالتفاصيل نقول:

روي عن أمية بن علي قال: كنت مع أبي الحسن - أي الرضا - (عليه السلام) بمكة في السنة التي حج فيها، ثم صار الي خراسان.. و معه أبوجعفر (الجواد) (عليه السلام) و أبوالحسن (عليه السلام) يودع البيت..

فلما قضي طوافه.. عدل الي المقام فصلي عنده..

و أبوجعفر (عليه السلام) علي عنق موفق خادمه يطوف به.. فصار الي الحجر فجلس فيه فأطال (أي الجلوس) فقال له موفق: قم جعلت فداك..

فقال (عليه السلام): ما أريد أن أبرح مكاني هذا الا أن يشاء الله..

و استبان (أي وضح) في وجهه الغم..

فأتي موفق أباالحسن (عليه السلام) فقال له: جعلت فداك قد جلس أبوجعفر في الحجر و هو يأبي أن يقوم..

فقام أبوالحسن (عليه السلام) فأتي الي أبي جعفر (عليه السلام) فقال له: قم يا حبيبي..

فقال (عليه السلام): ما أريد أن أبرح من مكاني هذا..

فقال (عليه السلام): كيف أقوم، و قد ودعت البيت و داعا لا ترجع اليه..

فقال (عليه السلام): قم يا حبيبي.. فقام معه.. [1] .

و من هذه الرواية تعرف مدي تعلق الأب العظيم بابنه الكريم.. و الابن الكريم بالأب العطوف الرحيم.. و ما أجمله من أدب.. و أعظمه من رزية علي الامامين (عليهماالسلام) و هما



[ صفحه ق]



يودعان بعضهما البعض و يعرفان أن لا تلاقيا الا في دار الخلود و النعيم الذي لا يبلي..

و ما أرهف حس الامام الجواد (عليه السلام) الذي أدرك فداحة المصيبة و عظمة الخطر الذي ينتظرهما بعد ذلك.. فقد أدرك أو علم أنهما لا يعودان الي الحج ثانية مع بعضهما.. و هذا الاحتجاج لم ينته الا بمبادرة كريمة من الامام الرضا (عليه السلام) شخصيا و بكثير من الأدب و الخلق المحمدي الرسالي الأصيل.. قم يا حبيبي..

كيف أقوم و قد ودعت البيت وداعا لا ترجع اليه..

الا أنها ارادة الله سبحانه و تعالي.. أراد لهذا الامام العظيم أن يكون بعيدا عن أهله و أحبابه و شيعته ليكون رمزا للرسالة و الرسالية علي مدي الأيام و العصور و الدهور.. و يبقي شاهدا علي ظلم بني العباس و تجيرهم و تكبرهم و كفرانهم للنعمة العظمي - الامامة - و انكارهم الولاية لأهل الولاية و القيادة و السيادة.. لآل علي (عليهم السلام).

و انتهي الحج.. و حان وقت الرحيل كل باتجاه..

الأب الامام علي الرضا (عليه السلام) شرقا باتجاه خراسان مع جنود السلطان..

الابن الامام محمد الجواد (عليه السلام) شمالا باتجاه مدينة جده رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) و تودعا.. و احتضن كل منهما الآخر و أطالا الاحتضان.. و قبل الأب و جنتي الابن و ثغره.. و قبل الابن لحية والده و جبهته.. و افترقا بحرقة..

لهفي لذاك الفتي الذي بلغ الخامسة من العمر، يودع أباه وداعه الأخير.. و لذاك الأب العظيم يودع ولده الوحيد و فلذة كبده الأغلي..

لهفي لذاك الجسم النحيل الذي ما قوي بعد.. يودع أباه..

لهفي لذاك الغصن الطري الذي ما صلب عوده.. يودع أهله..

لهفي لتلك العينين الذابلتين الحزينتين.. تودعان نورهما..

لهفي عليهما.. من وداع ما أصعبه و أمره عليهما.. وداع البعض للكل.. وداع الشعاع للشعاع.. وداع النور للنور.. وداع الأب للابن.. و الابن للأب..

و يمشيان كل في طريقه، الا أن عيون الأب ترنو الي طريق المدينة.. لترعي أباجعفر الحبيب (عليه السلام).. و عيون الابن تتطلع الي طريق خراسان لتستمد النور و الضياء و الحب و الحنان من النبع الصافي.. من الامام الرضا (عليه السلام)..

و سار كل الي حيث أراد الله و اتجه.. و ما ان وصل الامام علي بن موسي الرضا (عليه السلام) الي (مرو) العاصمة العتيدة للحكم العباسي الجديد.. الا و أخذ يكتب الرسائل الي ابنه و حبيبه لأبي جعفر الجواد (عليه السلام) رسائل تعليم و توجيه.. الا أنها بأدب و اكبار



[ صفحه ر]



و اعجاب.. فلم يكن يخاطب ولده الا بكنيته (أبوجعفر) رغم صغر سنه..

فقد روي البيهقي قال حدثني محمد بن يحيي الصولي قال: حدثنا الحسين بن أبي عباد.. و كان يكتب للرضا (عليه السلام)، ما كان يذكر محمدا ابنه الا بكنيته.. يقول: - أي الامام (عليه السلام) - كتب الي أبوجعفر.. كنت أكتب الي أبي جعفر (عليه السلام) و هو صبي في المدينة، فيخاطبه بالتعظيم.. و كانت ترد كتب أبي جعفر في نهاية البلاغة و الحسن فسمعته يقول:

أبوجعفر وصيي و خليفتي في أهلي من بعدي.. [2] .

لذلك كان الوداع صعبا.. لعلمهما أن اللقاء بعيد.. الا أن الرسالة هي أسلوب للتخاطب و التشاور.. و التعليم و التوجيه عن بعد.. و هي من الآداب العالية، و لها أهميتها الخاصة و أسلوبها الخاص..

و رسائل الامام الرضا (عليه السلام) كانت توجه دائما الي أبي جعفر (عليه السلام) الحبيب و بأدب جم.. و كذلك الردود.. و من رسائل الامام الرضا (عليه السلام) الي ولده الامام الجواد (عليه السلام) الرسالة التالية كنموذج:

يا أباجعفر.. بلغني أن الموالي (العبيد و الخدم) اذا ركبت أخرجوك من الباب الصغير، و انما ذلك من بخل بهم.. لئلا ينال منك أحد الخير..

فأسألك بحقي عليك..

لا يكن مدخلك و مخرجك الا من الباب الكبير.. و اذا ركبت، فليكن معك ذهب و فضة (دينار و درهم).. ثم لا يسألك أحد الا أعطيته..

و من سألك من عمومتك أن تبره.. فلا تعطيه أقل من خمسين دينارا و الكثير اليك (أي ان أحببت الزيادة).. و من سألك من عماتك فلا تعطيها أقل من خمس و عشرين دينارا و الكثير اليك..

اني أريد أني يرفعك الله فانفق و لا تخش من ذي العرش اقتارا.. [3] .

و برسالة توجيهية أخري للامام الجواد (عليه السلام) ننقلها فائدة و تبركا..

بسم الله الرحمن الرحيم

أبقاك الله طويلا.. و أعاذ من عدوك يا ولدي.. فداك أبوك..

قد فسرت (فوضت) لك مالي، و أنا حي سوي.. رجاء أن يمنك الله بالصلة لقرابتك..



[ صفحه ش]



و لموالي موسي و جعفر رضي الله عنهما.. الي أن يقول عليه السلام: و قد أوسع الله عليك كثيرا يا بني.. فداك أبوك.. لا يستر في الأمور بحسبها.. فتحظي حظلك و السلام.. [4] .

نلاحظ تكرار جملة (فداك أبوك) في رسالة الامام الرضا (عليه السلام) الي ولده الحبيب مرتين أو أكثر فما سر ذلك؟

فلا يفدي الغالي الا للأغلي..

فحتي في المجاملات، فانك لا تقول لولدك (فداك أبي) ولكنك تقول لأبيك (فداك أولادي).

ان المؤمنين يقولون لرسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم): (بأبي أنت و أمي) لأن النبي أولي بالمؤمنين من أنفسهم..

ولكن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) يقول عن فاطمة (عليهاالسلام): (فداها أبوها).

و مع الأخذ بعين الاعتبار أن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) لا ينطق عن الهوي ان هو الا وحي يوحي.. فان لهذه الكلمة تكون ظلالا بحجم الكون.. و ثقلا بحجم الرسالة.. و كذلك عندما يقول الامام علي الرضا (عليه السلام) لابنه: (فداك أبوك) و يكررها.. هذا يعني أمرا عظيما.. و سرا رساليا ينطوي عليه هذا الفتي البار.. لا يكون أقل من الولاية و الامامة و الوصية له من بعده..

و بالتدبر بهاتين الرسالتين نستشف الكثير الكثير من العبر و الفكر..

فالامام الراحل البعيد.. يربد لولده الحدث السن أن يتصرف بمثل هذا التصرف و أن يعطيه هذا العطاء، و يفوض اليه هذا التفويض.. أو يوجهه هذا التوجيه الرائع حقا انها معجز..

الامام الرضا (عليه السلام) يرسل الرسائل و كأنما يخاطب رجلا في الثلاثين من عمره و الأربعين حتي.. و هو واثق و مطمئن من التقيد و العمل و تنفيذ المطلوب بكل دقة و أمانة.. فهل يوجد في الدنيا من يخاطب ابنه الطفل في الخامسة بمثل هذا الخطاب المسؤول؟

أو هل هناك طفل يستوعب مثل هذا الخطاب؟

أو هل تحدث التاريخ عن مثل هذا الأمر؟

أستبعد ذلك، و ربما أنفيه.. لأن هذا بحد ذاته معجزة.. فالامام الجواد (عليه السلام) بسيرته، و امامته، و أقواله، و أفعاله، و علمه، و أخلاقه، و شهرته، و تاريخه، كان بحق معجزة كبري..



[ صفحه ت]



لأن التاريخ يقول: و القول صحيح بلا شك عن الامام محمد علي (عليهماالسلام) استلم القيادة الدينية و الولاية علي أهل الاسلام و هو بسن الفتوة بين السابعة و الثامنة من عمره الشريف و كان نعم القائد.. و خير ذائد عن حياض الاسلام و المسلمين.. و ذلك بدفع أصحاب البدع و الأساطير الضالين المضلين.. - و ما أكثر في عصر الامام - و سنوضح ذلك فيما بعد باذن الله..

و كذلك الملحدين و الزنادقة و غيرهم من أصحاب الآراء أو الفلسفة.. أو القياس أو الفقه أو الكلام.. و غير ذلك كثير كما ستجد..

و منهم من يستشكل حول تسلم الامام (عليه السلام) القيادة و هو بهذا السن القليل نسبيا.. و يقولون: أني لمثل هذا السن أن يقوم بمثل هذا العب ء الثقيل؟

و هل الفتي في السابعة أو الثامنة أن يتحمل مسؤولية قيادة أمة بأكملها؟

أقول لهؤلاء الضعفاء في اليقين..

أين أنتم من القرآن الكريم؟

و قصة السيد المسيح (عليه السلام) تشهد أنه من المهد قال الذي قال.. و هو من أنبياء أولي العزم.. و لا أحد يستطيع أن ينكر ذلك..

و كذلك نبي الله يحيي (عليه السلام) الذي (آتيناه الحكم صبيا [5] ، يقول الله..

و كذلك أبوالأنبياء (عليهم السلام) ابراهيم خليل الرحمن (عليه السلام) يقال أنه: كان فتي حدث السن حين خرج علي قومه و أمرهم بتوحيد الله و الكفر ببقية الآلهة المزيفة.. و سمي بطل التوحيد و يحق له..

و بعد ذلك.. نقول ما هو الاشكال في أن يكون ابن الثامنة اماما.. مادامت الامامة منصبا الهيا لا دخل للبشرية به كما هو حال الرسالة؟

و لربما تقول بأن السيد المسيح و يحيي (عليهماالسلام) معجزة بكلهما..

فأقول لك: نعم انها معجزة.. و كذلك الامام الجواد (عليه السلام) معجزة بكله و بكل ما تعني هذه الكلمة من معني.. كما أن الامام صاحب العصر و الزمان الحجة بن الحسن (عجل الله فرجه الشريف) معجزة كذلك..

اذ المعجزة هي ما لا يمكن فعله من قبل البشر.. الا أن تكرارها وارد من قبل الخالق عزوجل.



[ صفحه ث]




پاورقي

[1] كشف الغمة ج 3 ص 152.

[2] عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 240، و بحارالأنوار ج 50 ص 103.

[3] عيون الأخبار: ج 2 ص 8.

[4] تفسيرالعياشي: ج 1 ص 132 - 131 سورة البقرة، الحديث 436.

[5] سورة مريم: 12.