بازگشت

الامامة و الامام..


فالامامة تابع من توابع النبوة و فروعها.. فكما يجب اتصاف النبي (عليه السلام) بجميع الكمالات و الفضائل و يجب أن يكون في ذلك أفضل وأكمل من كل واحد من أهل زمانه.. لأنه قبيح من الحكيم من أن يقدم المفضول المحتاج الي التكميل علي الفاضل المكمل عقلا و سمعا.. اذ يستحيل علي الحكيم العبث.. و العبث قبيح.. و القبيح ليس مما يتعاطاه الحكيم..

فالامامة رئاسة عامة في أمور الدين و الدنيا لشخص انساني.. و كونها رئاسة في الدين و رئاسة في الدنيا، هذا يعني أن هذا الشخص هو..

1: شخص معين معهود من رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم).

2: انه لا يجوز أن يكون مستحق الرئاسة أكثر من واحد في عصر واحد بحق الأصالة..و قلنا بحق الأصالة احترازا عن النائب الذي يفوضه الامام عموم الولاية.. فان رياسته عامة - النائب - الا أنها ليست بالأصالة و ذلك لأن النائب المذكور لا رياسة له علي امامه..



[ صفحه ه]



و هذا ينطبق علي تعريف النبوة و يزاد فيه بحق النيابة عن النبي علي البشر [1] .

فالامام.. أمر الهي، و روح قدسي، و مقام علي، و نور جلي، و سر خفي، فهو ملكي الذات.. الهي الصفات.. زائد الحسنات.. عالم بالمغيبات، خصا من رب العالمين و نصا من الصادق الأمين.. و هذا كله لآل محمد (سلام الله عليهم)، لا يشاركهم فيه مشارك لأنهم معدن التنزيل و معني التأويل..

و الامامة لطف الهي واجب.. و اللطف هو ما يقرب العبد الي الطاعة و يبعده عن المعصية و هذا المعني حاصل في الامامة كما النبوة [2] .

و كما يصف الامام الثامن رضا الآل (عليهم السلام) فالوصف أجمل و أكمل..

عن القسم بن مسلم عن أخيه عبدالعزيز بن مسلم قال: كنا في أيام علي بن موسي الرضا (عليه السلام) بمرو.. فاجتمعنا في جامعها في يوم جمعة في بدو قدومنا.. فأدار الناس أمر الامامة [3] و ذكروا كثرة اختلاف الناس فيها.. فدخلت علي سيدي مولاي الرضا (عليه السلام) فأعلمته ما خاض الناس فيه.. فتبسم ثم قال:

(يا عبدالعزيز جهل القوم و خدعوا عن دينهم، ان الله تبارك و تعالي لم يقبض نبيه (صلي الله عليه و آله و سلم) حتي أكمل له الدين، و أنزل عليه القرآن فيه تفصيل كل شي ء.. بين فيه الحلال و الحرام و الحدود و الأحكام.. و جميع ما يحتاج اليه الملأ.. فقال عزوجل: (ما فرطنا في الكتاب من شي ء) [4] .

و أنزل في حجة الوداع و هو آخر عمره: (اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الاسلام دينا) [5] .

فأمر الامامة من تمام الدين.. و لم يمض (صلي الله عليه و آله و سلم) حتي يبين لأمته معالم دينه، و أوضح لهم سبيلهم و تركهم علي قصد الحق.. و أقام لهم عليا (عليه السلام) علما و اماما..

و ما ترك شيئا تحتاج اليه الأمة الا بينه.. فمن زعم أن الله عزوجل لم يكمل دينه فقد رد كتاب الله عزوجل.. و من رد كتاب الله فهو كافر..

هل تعرفون قدر الامامة.. و محلها من الأمة فيجوز فيها اختيارهم..



[ صفحه و]



ان الامامة أجل قدرا.. و أعظم شأنا.. و أعلي مكانا.. و أمنع جانبا.. و أبعد غورا.. من أن يبلغها الناس بعقولهم.. أو ينالونها بآرائهم فيقيموها باختيارهم.

ان الامامة خص الله عزوجل بها ابراهيم الخليل (عليه السلام) بعد النبوة و الخلة، مرتبة ثالثة و فضيلة شرفه الله بها، فأشار بها ذكره فقال عزوجل: (اني جاعلك للناس اماما) فقال الخليل سرورا بها: (و من ذريتي) قال الله عزوجل: (لا ينال عهدي الظالمين) [6] ، فأبطلت هذه الآية امامة كل ظالم الي يوم القيامة، و صارت في الصفوة..

ثم أكرمه الله عزوجل بأن جعل في ذريته أهل الصفوة و الطهارة.. فقال تعالي: (و وهبنا له اسحاق و يعقوب نافلة و كلا جعلنا صالحين، و جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا و أوحينا اليهم فعل الخيرات و اقام الصلاة و ايتاء الزكاة و كانوا لنا عابدين..) [7] .

فلم تزل في ذريته يرثها بعض عن بعض.. قرنا فقرنا.. حتي ورثها النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) فقال الله عزوجل: (ان أولي الناس بابراهيم للذين اتبعوه و هذا النبي و الذين آمنوا و الله ولي المؤمنين) [8] .

فكانت له خاصة فقلدها النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) عليا (عليه السلام) بأمر الله علي رسم ما فرض الله.. فصارت في ذريته الأصفيات الذين أتاهم الله العلم و الايمان بقوله عزوجل: (و قال الذين أوتوا العلم و الايمان لقد لبثتم في كتاب الله الي يوم البعث) [9] ، فهي في ولد علي (عليه السلام) خاصة الي يوم القيامة.. اذ لا نبي بعد محمد (صلي الله عليه و آله و سلم).

فمن أين يختار هؤلاء الجهال؟

ان الامامة.. منزلة الأنبياء و ارث الأوصياء..

ان الامامة.. خلافة الله عزوجل و خلافة الرسول، و مقام أميرالمؤمنين، و ميراث الحسن و الحسين..

ان الامامة.. زمام الدين، و نظام المسلمين، و صلاح الدنيا، و عز المؤمنين.

ان الامامة.. رأس الاسلام النامي، و فرعه السامي..

بالامام.. تمام الصلاة، و الزكاة، و الصيام، و الحج، و الجهاد، و توفير الفي ء و الصدقات، و امضاء الحدود و الأحكام، و منع النفور و الأطراف..



[ صفحه ز]



الامام.. يحل حلال الله، و يحرم حرام الله، و يقيم حدود الله، و يذب عن دين الله، و يدعو الي سبيل ربه بالحكمة و الموعظة الحسنة و الحجة البالغة.

الامام.. كالشمس الطالعة للعالم و هي في الأفق، بحيث لا تناله الأيدي و الأبصار..

الامام.. البدر المنير، و السراج الزاهر، و النور الساطع، و النجم الهادي في غياهب الدجي و البيداء القفار و لجج البحار..

الامام.. الماء العذب علي الظماء، و الدال علي الهدي، و المنجي من الردي..

الامام.. النار علي البقاع الحارة لمن اصطلي، و الدليل علي المسالك، من فارقه فهالك..

الامام.. السحاب الماطر، و الغيث الهاطل، و الشمس المضيئة، و الأرض البسيطة، و العين الغزيرة و الغدير و الروضة..

الامام.. الأمين الرفيق، و الوالد الشفيق، و الأخ الشقيق، و مفزع العباد في الداهية..

الامام.. أمين الله في أرضه، و حجته علي عباده، و خليفته في بلاده، الداعي الي الله و الذاب عن حريم الله..

الامام.. المطهر من الذنوب، المبرأ من العيوب، مخصوص بالعلم، موسوم بالحلم، نظام الدين، و عز المسلمين، و غيظ المارقين، و بوار الكافرين..

الامام.. واحد دهره، لا يدانيه أحد، و لا يعادله عدل، و لا يوجد له بديل، و لا له مثيل و لا نظير.. مخصوص بالفضل كله من غير طلب منه و لا اكتساب، بل اختصاص من المتفضل الوهاب.. فمن ذا يبلغ معرفة الامام؟ و يمكنه اختياره؟ هيهات.. هيهات..!!!

ضلت العقول، و تاهت الحلوم، و حارت الألباب، و حسرت العيون، و تصاغرت العظماء، و تحيرت الحكماء، و تقاصرت الحلماء، و حصرت الخطباء، و جهلت الألباب، و كلت الشعراء، و عجزت الأدباء، وعيت البلغاء، عن وصف شأن من شأنه أو فضيلة من فضائله، فأقرت بالعجز و التقصير..

و كيف أو ينعت بكنهه، أو يفهم شي ء من أمره، أو يوجد من يقوم مقامه، و يغني غناه؟

لا و كيف و أني و هو بحيث النجم من أيدي المتناولين و وصف الواصفين..

فأين الاختيار من هذا؟

و أين العقول عن هذا؟

و أين يوجد مثل هذا؟

ظنوا أن ذلك يوجد في غير آل رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)!!

كذبتهم - والله - أنفسهم و منتهم الباطل، فارتقوا مرتقا صعبا و حصنا تزل عنه الي



[ صفحه ح]



الحضيض أقدامهم.. راموا اقامة الامام بعقول حائرة باترة ناقصة و آراء مضلة فلم يزدادوا منه الا بعدا..

قاتلهم الله أني يؤفكون..

لقد راموا صعبا، و قالوا افكا، و ضلوا ضلالا بعيدا.. و وقعوا في الحيرة اذ تركوا الامام من غير بصيرة، و زين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل.. و كانوا مستبصرين.. رغبوا من اختيار الله و اختيار رسوله الي اختيارهم و القرآن يناديهم: (و ربك يخلق ما يشاء و يختار ما كان لهم الخيرة.. سبحان الله و تعالي عما يشركون.) [10] .

و قال عزوجل: (و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة اذا قضي الله و رسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) [11] .

و قال عزوجل: (ما لكم كيف تحكمون، أم لكم كتاب فيه تدرسون، ان لكم فيه لما تخيرون، أم لكم أيمان علينا بالغة الي يوم القيامة ان لكم لما تحكمون، سلهم أيهم بذلك زعيم، أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم ان كانوا صادقين.) [12] .

و قال عزوجل: (أفلا يتدبرون القرآن أم علي قلوب أقفالها) [13] ، و (طبع علي قلوبهم فهم لا يفقهون) [14] ، و (قالوا سمعنا و هم لا يسمعون، ان شر الدواب عندالله الصم البكم الذين لا يعقلون، و لو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم و لو اسمعهم لتولوا و هم معرضون) [15] .

فكيف لهم باختيار الامام؟ و الامام عالم لا يجهل، وراع لا ينكل، معدن القدس و الطهارة، و النسك و الزهادة، و العلم و العبادة، مخصوص بدعوة الرسول و هو نسل المطهرة البتول.. لا مغمز فيه في نسب، و لا يدانيه ذو حسب.. في البيت من قريش، و الثروة من هاشم، و العترة من آل الرسول، و الرضا من الله.. شرف الأشراف و الفرع من عبد مناف.. نامي العلم كامل الحلم، مضطلع بالامامة، عالم بالسياسة، مفروض الطاعة، قائم بأمر الله،



[ صفحه ط]



ناصع لعباد الله حافظ لدين الله..

ان الأنبياء و الأئمة يوفقهم الله و يؤتيهم من مخزون علمه و حكمه ما لا يؤتيه غيرهم.. فيكون علمهم فوق علم أهل زمانهم في قوله عزوجل: (أفمن يهدي الي الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي الا أن يهدي فما لكم كيف تحكمون) [16] ، و قوله عزوجل: (و من يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) [17] .

و قوله عزوجل - في طالوت - (ان الله اصطفاه عليكم و زاده بسطة في العلم و الجسم و الله يؤتي ملكه من يشاء و الله واسع عليم) [18] ، و قال عزوجل لنبيه: (و كان فضل الله عليك عظيما) [19] و قال عزوجل في الأئمة من أهل بيته و عترته: (أم يحسدون الناس علي ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل ابراهيم الكتاب و الحكمة.. و آتيناهم ملكا عظيما.. فمنهم من آمن به و منهم من صد عنه و كفي بجهنم سعيرا) [20] .

و ان العبد اذا اختاره الله لأمور عباده شرح صدره لذلك، و أودع قلبه ينابيع الحكمة، و ألهمهم العلم الهاما.. فلم يعي بعده الجواب، و لا يحير فيه عن الصواب، و هو معصوم مؤيد، موفق مسدد، قد أمن الخطايا و الزلل و العثار..

فخصه الله بذلك ليكون حجته علي عباده، و شاهده علي خلقه، و ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء و الله ذوالفضل العظيم..

فهل يقدرون علي مثل هذا، فيختاروه أو يكون مختارهم بهذه الصفة فيقدموه تعدوا و بيت الله الحق.. و نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون و في كتاب الله: (فنبذوه وراء ظهورهم) [21] .

فذمهم الله و مقتهم أنفسهم فقال عزوجل: (و من أضل ممن اتبع هواه بغير هدي من الله ان الله لا يهدي القوم الظالمين) [22] .



[ صفحه ي]



و قال عزوجل: (فتعسا لهم و أضل أعمالهم..) [23] .

و قال عزوجل: (كبر مقتا عندالله و عند الذين آمنوا كذلك يطبع الله علي كل قلب متكبر جبار) [24] .

لذلك نعظم و نجل صاحب الرسالة الخاتمة، أعني رسول الله محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) من أن يكون ترك شأن و أمر هذه الأمة هملا دون أن يوصي و يبين من يقوم مقامه في أمته.. و كذلك نعظم و نجل المرسل - أعني به الله عزوجل - أن يأخذ رسوله الي هذا الكون و في الرسالة نقصا أو خللا أو أي مجال لأي متقول عن الرسالة.. لأنه قال: (اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الاسلام دينا) [25] .

فالرسالة كاملة و النعمة تامة و الوصية بينة و واضحة و القيادة لها أهلها و ليس كل من ادعي القيادة أو جعلوا منه قائدا فقد صار قائدا في الدين و الدنيا.. و ربما في الدنيا يصير.. أما في الدين فلا، لأن القيادة الربانية يجب أن تكون بمستوي الرسالة و خلافة أو نيابة عن المرسل جل جلاله.. هو المبدأ المعروف بالخلافة الربانية: (يا داود انا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس) [26] ، اذا داود خليفة و سليمان و موسي و هارون و بقية الأنبياء و الرسل (عليهم السلام) هم خلفاء الله في هذه الأرض.. و ربما في الكون..

و الخليفة يجب أن يكون بمستوي المستخلف لا بمستوي المستخلف عليهم - و هذا بالمقياس البشري - بل معهم و فيهم ليكون حجة و أبلغ حجة عليهم..

فالخلافة الربانية - كما أوضحنا - مسألة الهية بالتخصيص و التعيين من الله تعالي كما الرسالة تماما دون أية فروقات الا بأسلوب الوحي و التلقي..

.. و هل هناك أسوأ حظا من أمة تستبدل الامام علي (عليه السلام) بغيره؟

و هل هناك أخيب من سعي أمة تستبدل سيدة نساء العالمين بهند و أمثالها؟

و هل هناك أبشع من عمل أمة تستبدل سيدي شباب أهل الجنة بيزيد و ابن زياد و الحجاج و غيرهما..؟

لكن ولكن اللعنة علي لكن..



[ صفحه ك]



و لزيادة الايضاح و لتقريب المسألة الي الأذهان بشكل عام و الي الشباب المثقف بشكل خاص فلا بأس بان نأخذ هذه الأمثلة و نقتطف هذه الكلمات لسماحة السيد الشهيد المؤلف رحمه الله.. فانه يقول:

و الامام: هو الذي يؤمر من قبل الله ب (الولاية التنفيذية) سواء كان الامام رسولا مثل ابراهيم الخليل (عليه السلام) الذي خاطبه الله تعالي بقوله: (اني جاعلك للناس اماما) [27] .

أو كان نبيا غير رسول مثل الألوف من الأنبياء الذين لم يصلنا حتي أسمائهم..أو لم يكن نبيا و لا رسولا بل وصيا لنبي مثل آصف بن برخيا وصي سليمان بن داود (عليهم السلام)..و مثل يوشع بن نون وصي موسي بن عمران (عليهماالسلام).

و الأنبياء الأئمة كثيرون سجل القرآن الكريم بعضهم مثل ابراهيم و لوط و اسحاق و يعقوب الذين قال عنهم: (و جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا) [28] ، و الامامة مثل الرسالة صلاحية يخولها الله كل من تنسجم مواصفاته مع (الولاية التنفيذية)..

و قد ظهرت للناس آثار (الرسالة) و صلاحية (الامامة) من الله حينما خلق الكون و ضبطه بكل عوالمه و خلائقه الكثيرة المعقدة بادارة شاملة محكمة لا تنفلت منها نبضة عصب و لا حبة مطر.. و لا حبة نسيم.. و لا أدني من ذلك و لا أكبر.. و تظهر هذه الادارة في حركات المجرات المخيفة.. و في شبكات الري المنتشرة في كافة أنحاء ورقة الكرم (العنب).. و في المهمات الحساسة التي تؤديها الخلية المجهولة في دماغك.. و في التفاعلات الدقيقة التي تنجزها مليارات الأشعة الفاعلة في الكون.

و الناس عندما يجدون (الالكترون) السالب يدور حول (الفوتون) الموجب دورة في الثانية.. يقولون: (الالكترون السالب يدور حول الفوتون الموجب) وكنهم يتساءلون: من الذي يدير هذه حول تلك..؟

و عندما يرون حبات المطر تتساقط هنا لا هناك.. يقولون: السيول تجتاح هذه المنطقة.. و المواشي تموت في تلك المنطقة علي أثر الجفاف.. و لا يتساءلون.. من الذي اسقط المطر علي هذه المنطقة و حرم منه تلك..؟

و عندما يسمعون أن فجوات هوائية تحدث هنا بينما هناك يرتفع ضغط الهواء.. أو عندما يعرفون مياها جوفية هنا.. و أطنان اليورانيوم هناك.. و حبات الألماس ترقد هنالك..



[ صفحه ل]



يكتفون بالاطلاع عليها و الاستفادة منها فحسب.. و لا يحاولون التعرف علي الجهاز الاداري الذي يؤدي هذه الأعمال.. و لا استيعاب الأسباب التي تنتهي بهذه التركيبات، تماما كالبدوي السائح الذي يدخل مدينة متحضرة بلا مترجم و لا دليل فيري الشاشة الصغيرة هنا تتابع عرض مشاهدها.. و هناك هوائية جبارة جامدة تحت الشمس و المطر.. و هنالك آليات متحركة تتراكض في خطوط متشابكة من الفجر الي الفجر، و الي جانبها غرفة كبيرة تضج بأصوات آلات حديد تتحرك تلقائيا و تعج بالأسلاك متزاحمة متراكبة.. و فوق البيوت أجسام كبيرة تسبح في الهواء و تزعق بلا انقطاع.. و علي الجدران آلة صماء معلقة يأتي الناس اليها فيرون النقود في جيبها و يظلون يتكلمون و يضحكون لها و هي لا ترد عليهم فيذهب الي نجمة كبيرة مرمية في وسط الشارع ليخطفها الي كوخه فينقضه تيار الكهرباء.. و يحاول أن يمر الشارع فيصرخ به الرجال.. و يريد أن ينام علي الرصيف فيقوده رجال الشرطة الي موقف.. و يدخل المطعم و يختار طعاما يروق له منظره فلا يستطيع تناوله..

و تماما كالطفل الذي يجد أسلحة أبيه، فيحاول التعرف عليها و الاستفادة منها في أغراضه الطفولية فتنفجر بين يديه، فتدمره و تقضي علي حياته..

لابد أنك رأيت في حياتك أو سمعت بمثل ذلك البدوي و مثل هذا الطفل..

بهذا الشكل يتعامل كبار علماء الطبيعيات مع الكون.. فيرون الأشياء كأنها متبعثرة، و كأن كل شي ء يتحرك ارتجاليا و بدافع ذاتي بلا هدف و لا وسيلة و لا خطة لذلك يجهدون أكثر مما ينبغي و يهدرون طاقات بشرية و مادية هائلة.. ثم يستفيدون أقل مما ينبغي..

و يأتي أدلاء الكون و مصادر الوحي فيقولون: ان الكون كله وحدة مترابطة مشدودة بأسباب و مسببات.. و مسيرة بارادة شاملة محكمة..

فما من حبة المطر الا و يأتي بها ملك ليضعها في موضعها المناسب.. و ما من نطفة الا و يفصل ملامحها و يخطط جغرافيتها و أعمالها ملك.. و لا تتحرك ريح و لا موج و لا نجم و لا سحاب الا و يحركه ملك وفق خطة حكيمة.. و لا تنبض خاطرة في دماغك الا بوحي ملك أو شيطان..

صحيح أن الله سبحانه يصمم جميع الأقدار، و أنه يستطيع أن يدير كل العوالم بلا جهاز اداري، ولكن شاء أن يديرها بجهاز اداري.. ففي بعض الحديث: (أبي الله أن يجري الأمور الا بأسبابها).. كما أن الله قادر علي أن يرزق جميع الناس من فوق رؤوسهم و من تحت أقدامهم بلا سعي و لا حاجة أحد الي أحد..

ولكنه شاء أن يرزق الناس بمساعيهم، و أن يرزق بعضهم ببعض، (و رفعنا بعضهم



[ صفحه م]



فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا) [29] ، و كما أن الله قادر علي أن يلهم كل واحد من الناس بمساعيهم شرائع دينه بلا واسطة، كما ألهم الحيوانات وظائفها بلاواسطة فقال: (و أوحي ربك الي النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا و من الشجر و مما يعرشون، ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا) [30] ولكنه شاء أن يعلمهم شرائعهم بواسطة الأنبياء و الأوصياء و العلماء..

و كما أن الله قادر علي أن ينزع خصائص الأرض من الناس ليعيشوا كالملائكة هوايتهم الهدي و شهوتهم العبادة.. ولكنه شاء أن يتعرضوا للتجربة حتي يبلغ كل مداه.. فقال: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، و لا يزالون مختلفين) [31] .

كما أن الله قادر علي أن يخلق البشر من غير أبوين.. و أن يخلق الحيوان و النبات من غير أصل.. و أن يوجد جميع الأنواع ابتداء لا من شي ء، ولكنه شاء بحكمته البالغة التي لم يؤهلنا لاستيعابها.. أن تكون سنة الخلق في سلسلات متوالدة.

هكذا شاء الله أن يوكل الكائنات الي جهاز اداري هرمي.. و أن لا ينفذ شي ء الا بعلمه الدقيق و ارادته المباشرة.. الا أن هذا الجهاز موكل بتنفيذ ارادة الله في خلقه.. فوظف مجموعات من الملائكة في هذا الجهاز اسماهم في القرآن ب (المدبرات أمرا) [32] .

و جعل علي كل قسم ملكا من أعظم ملائكته فوكل (رضوان) بالجنة و وكل (مالك) بجهنم.. و وكل (جبرائيل) بالرسالات و الرسل و عقاب المتمردين عليها.. و وكل (اسرافيل) بنفخة الصور.. و وكل (ميكائيل) بالأرزاق.. و وكل ملكا عظيما اسمه (الروح) بالاقدار، و وكل (عزرائيل) بالأرواح و وكل ملكا بالرياح و ملكا بالبحار، و ملكا بالشمس، و ملكا بالقمر، و ملكا بالأرض، و ملكا بكل سماء من السماوات.. و جعل لكل قسم من هذه الأقسام فروعا.. و وظف علي كل فرع ملكا تتناسب مؤهلاته مه مهمته في تسلسل اداري دقيق..

ثم جعل فوق الملائكة الموكلين بالأقسام الرئيسية رجلا من البشر يمثل قمة الهرم.. و اذا أردنا التشبيه فمن الممكن تشبيه الرجل القمة برئيس مجلس الوزراء و أن نشبه الملائكة الموكلين بالأقسام بالوزراء.. و أن نشبه الفروع الممتدة من كل قسم بالمديريات المتفرعة من



[ صفحه ن]



كل وزارة.. و الرجل القمة في جهاز الادارة التنفيذية يطلق عليه لقب (الامام) و يقال له: (صاحب الولاية) كما يقال له: صاحب العهد.. اقتباسا من قوله تعالي: (و لقد عهدنا الي آدم من قبل فنسي و لم نجد له عزما..) [33] .

و الي جانب هذا الجهاز الاداري الشامل الدقيق الذي يتولي الجانب التكويني للكائنات، يوجد جهاز اداري شامل و دقيق آخر.. يتولي الجانب التشريعي للكائنات فيما أتاح لها الادارة المستقلة لاتمام التجربة.. و هذا الجهاز أيضا جهاز واسع له أقسام عديدة.. و علي كل قسم ملك من أعظم ملائكة الله، و لكل قسم فروع عليها ملائكة تتناسب امكاناتهم مع مهامهم.. و تتوالي قواعده الهرمية و يكفي لمعرفة مدي سعة الجهاز أن نعلم..

1: أن كل انسان عليه ملكان يراقبانه و يسجلان تصرفاته حتي النفخة و النأمة أحدهما عن يمينه و الآخر عن شماله.. فيوظف به ملكان بالليل و آخران بالنهار..

2: ان في قلب كل انسان (لمتان) أي جماعتان.. جماعة من الملائكة تأمره بالخير و جماعة من الشياطين تأمره بالشر.. و هنا نقطة الاحتكاك الساخنة بين الملائكة و الشياطين، و موقف الانسان أشبه بموقف الحكيم.. فاذا مال نحو الشياطين ضعفت كتلة الملائكة، و اذا مال نحو الملائكة ضعفت كتلة الشياطين.. و من هنا يجد الانسان في داخله نازعة الخير و نازعة الشر..

3: ان الله يوكل ملائكة عظام بالأنبياء و الأوصياء و خيار عباده الصالحين لتسديدهم و تأييدهم.. كما يوكل بأنبيائه و أوصيائهم ملائكة يعلمونهم، و يخبرونهم عما يريدون الاطلاع عليه من غيب و في حدود صلاحياتهم.. و بهذا يفسر قوله تعالي: (عالم الغيب فلا يظهر علي غيبه أحدا الا من ارتضي من رسول) [34] ، و قوله تعالي: (و لا يحيطون بشي ء من علمه الا بما شاء) [35] .

4: ان كل نبي أو وصي يستخدم جماعات من البشر لتحمل أعباء التبليغ، و ما قد يترتب عليه من احتكاك يؤدي الي كفاح..

هذا الجهاز الواسع أيضا ركبه الله تركيبا هرميا.. و وكل بكل قسم من أقسامه ملكا من أعظم ملائكته، ثم جعل فوق الملائكة الموكلين بالأقسام الرئيسية رجلا من البشر يمثل قمة الهرم.. و هذا الرجل يكون نبيا أو وصي نبي منصوص من قبل الله..



[ صفحه س]



و تشترط فيه مواصفات تبلغ درجة العصمة.. لأن الملائكة معصومون و لا يمكن أن يقود المعصومين غير معصوم.. [36] .

و هذا التشبيه - كما لا يخفي - من أجل تقريب الفكرة الي الأذهان و ترسيخها أكثر..


پاورقي

[1] راجع الكلام الجلي في فضائل مولانا أميرالمؤمنين علي (عليه السلام).

[2] الكلام الجلي في فضائل مولانا أميرالمؤمنين (عليه السلام).

[3] أي أخذوا يتحدثون حول الامامة.

[4] سورة الأنعام: 38.

[5] سورة المائدة: 3.

[6] سورة البقرة: 124.

[7] سورة الأنبياء: 73-72.

[8] سورة آل عمران: 68.

[9] سورة الروم: 56.

[10] سورة القصص: 68.

[11] سورة الأحزاب: 36.

[12] سورة القلم: 41-36.

[13] سورة محمد: 24.

[14] سورة التوبة: 87.

[15] سورة الأنفال: 23-21.

[16] سورة يونس: 35.

[17] سورة البقرة: 269.

[18] سورة البقرة: 247.

[19] سورة النساء: 113.

[20] سورة النساء: 54.

[21] سورة آل عمران: 187.

[22] سورة القصص: 50.

[23] سورة محمد: 8.

[24] سورة المؤمن: 35، و راجع الاحتجاج للطبرسي ص 230 - 226.

[25] سورة المائدة: 3.

[26] سورة ص: 26.

[27] سورة البقرة: 124.

[28] سورة الأنبياء: 73.

[29] سورة الزخرف: 32.

[30] سورة النحل: 68.

[31] يوذة هود: 118.

[32] سورة النازعات: 5.

[33] سورة طه: 115.

[34] سورة الجن: 26.

[35] سورة البقرة: 255.

[36] كلمة الامام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) للسيد الشهيد (رحمه الله).